الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. آمين.
هذا هو [ النداء الثاني والخمسون ] والنداءات تسعون نداء، وهي نداءات الله عز وجل لعباده المؤمنين، فقد ناداهم ليأمرهم بما يكملهم ويسعدهم، وناداهم لينهاهم عما يخسرهم ويشقيهم، وناداهم ليبشرهم ولتطمئن قلوبهم وتنشرح صدورهم، ويتسع نطاق أعمالهم الخيرية الصالحة، وناداهم لينذرهم ويحذرهم مما يكون سبباً لشقائهم وخسرانهم، وناداهم ليعلمهم علوماً ومعارف يكملون بها ويسعدون. وهو لا ينادهم لغير هذا؛ لأنه عليم حكيم.
وهذه النداءات التسعون درسنا منها واحداً وخمسين نداء، وها نحن مع النداء والثاني والخمسين، والله أسأل أن نكملها، وأن نحفظها، وأن نفهم مراد الله منها، وأن نعمل به؛ لنصبح من أهل الملكوت الأعلى. اللهم آمين.
وهذا النداء أولاً مضمونه: [ في حرمة أكل أموال الناس بالباطل ] فقد نادانا ربنا جل وعز في هذا النداء لينهانا عن أكل أموال الناس بالباطل بدون حق [ و] لبيان [ الوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة، ولا يخرج زكاتهما ] فهذا النداء يتضمن هذين المعنيين:
الأول: حرمة أكل أموال الناس بالباطل، وإن كانت مثقال درهم.
والثاني: أنه يحمل الوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة والعمل، ولا يخرج زكاتهما.
وهيا نتغنى به ساعة، ثم نأخذ في شرحه وبيان ما فيه، وكلمة ساعة لا تعني ستين دقيقة.
[ الآيتان (34 ، 35) من سورة التوبة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
[التوبة:34-35] ].
سبب معاداة الأحبار والرهبان للإسلام وصدهم عنه
[ الشرح ] لهذا النداء الكريم: [ اذكر أيها القارئ الكريم! ] الذي يقرأ هذه النداءات أو يستمع إليها [ أن الله تعالى لا ينادي عباده المؤمنين إلا ليأمرهم بفعل ما يكملهم ويسعدهم، أو لينهاهم عما يشقيهم ويخسرهم، وها هو ذا تعالى في هذا النداء العظيم يخبرهم بحال أعدائهم من اليهود والنصارى الذين يريدون دوماً أن يطفئوا نور الله بأفواههم،
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 
[الصف:8]والمشركون معاً، يخبرهم ] أي: يخبر الله عباده المؤمنين [ بحال رجال الدين فيهم ] الذين قبلهم [ وهم الأحبار والرهبان، وأنهم ماديون صِرفاً، وما شعار الدين الذين يحملونه إلا خدعة لعوامهم وجهالهم؛ إذ قال تعالى:
إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ 
[التوبة:34] وهم علماء اليهود،
وَالرُّهْبَانِ 
[التوبة:34] وهم عباد النصارى، وأما علماؤهم ] أي: علماء النصارى [ فهم القُسس - والواحد منهم يقال له: قس-
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ 
[التوبة:34]، أي: بدون حق يبيح لهم أكل أموال الناس؛ إذ هم يأكلونها تحت ستار الكذب والحيل كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران لغلاة الذنوب والآثام، إلى غير ذلك من أنواع الحيل والكذب.
وقوله تعالى:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
[التوبة:34] الذي هو الإسلام ] فسبيل الله الذي يصدون عنه هو الإسلام [ وعلة صدهم عن الإسلام: أن يبقى أتباعهم من اليهود والنصارى سخرة لهم، يعيشون سعداء على حسابهم؛ إذ لو دخل أتباعهم في الإسلام لحرموا سيادتهم عليهم، وأموالهم منهم، وتبع ذلك السلطة والحياة ] أيضاً [ ولم يبق لهم بين الناس ذكر ] فالعلة التي لأجلها يصد الأحبار والرهبان والقُسس أتباعهم عن الإسلام، ويقولون لهم: إن الإسلام ليس بصحيح مع أنهم يعرفون أنه الحق هي: أنه إذا انصرف الناس عنهم ودخلوا في رحمة الله لم يبق لهم سلطة ولا دولة، ولا مال ولا جاه، ولا غير ذلك في نظرهم. وهذا هو الواقع. مع أنه والله لو لئن يسلم أتباعهم في يوم واحد، ويعيشون هم بعد ذلك فقراء فذلك خير لهم من الدنيا وما فيها، لكن حب العاجلة، وهذا جربناه فينا، ولا نحتاج إلى أن ندلل عليه، وأنتم تعرفون هذا.
وسمي الإسلام سبيل الله لأنه الموصل بالعبد إلى الله، ولأنه هو الذي يعرف العبد بالله، وهو الذي يرضي الله عن العبد، فهو سبيل الله.
قال: [ وهذه حالهم إلى اليوم ] من يوم أن نزلت هذه الآية [ فإنهم يحاربون الإسلام بكل وسيلة ] فعلماء اليهود والنصارى وعباد اليهود والنصارى يحاربون الإسلام بكل وسيلة، وعوامهم لا يعرفون شيئاً، ولكنهم هم يخافون من أن تزول هذه النعمة عنهم بدخول الناس في رحمة الله بالإسلام، فهم يقبحون الإسلام، ويكرهونه ويبغضونه.
ولنذكر لكم تلك الرواية التي ذكرها الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار عن شيخه الشيخ محمد عبده غفر الله لهما ورحمهما: كان الشيخ محمد عبده في سويسرا، أو في باريس نازلاً في فندق، ولم تكن الفنادق كاليوم، فيها المياه بالآلات، وتفجر في الجدران، فأراد أن يتوضأ الشيخ، فقال لصاحبة الفندق: أعطني ماء أتوضأ لأصلي، فجاءته بالسطل فيه ماء، أو إناء فيه ماء، فتوضأ، فجاءت طفلة أو بنية صغيرة تحبو، وأرادت أن تغمس يدها في ذلك الماء، فقالت لها أمها: كخ كخ، يعني: أبعدي أبعدي، هذا فيه ديدان العرب وقمل العرب، وكلمة العرب عندهم تعني المسلمين، فأطلت البنت على الماء وقالت: ماما! ديدان، فتخيلتها من تلك الكلمة وصاحت. فأمها خوفتها بالكذب، وقالت: لا تقربي أوساخ العرب، فهذا فيه ديدان وقمل العرب، أي: المسلمين، فسحرت البنت بتلك الكلمة، فأطلت على السطل، وقالت: ماما! ديدان. وهذه واحدة من مليون؛ كي يبعدوا إخوانهم عن الإسلام.
الوعيد الشديد لمن كنز الأموال ولم يخرج زكاتها
الحكمة من فرض الزكاة وخير ما يكنزه المرء لنفسه
كيفية قسمة التركة
الآن مسألة جديدة: فليس في النداءات: يا أيها الذين آمنوا للذكر مثل حظ الأنثيين، فبحثنا عن موضع ندخل فيه المواريث فوجدنا هذا، حتى تكون النداءات كاملة لكل ما تطلبه الحياة. والآن اسمعوا بياناً موجزاً عن الإرث، والذي يحفظ هذا يصبح يقسم التركات.
قال الشيخ غفر الله له وإياكم ورحمه وإياكم: [ وتقسيم التركة على الوارثين: للذكر مثل حظ الأنثيين ] وهذا واضح عندنا [ ولكل من الأب والأم لسدس، إذا هلك الابن وترك ولداً ] أو بنتاً فلأمه السدس ولأبيه السدس [ وللأم الثلث والباقي للأب إذا لم يترك ولدهما ولداً ] فإذا مات الابن ولم يترك ولداً فتقسم التركة للأم الثلث وللأب الباقي؛ لأنه عاصب [ وللزوجة الربع إذا لم يترك الزوج ولداً ] فإذا مات الرجل وترك امرأة ولم يترك ولداً فللمرأة الربع [ ولها الثمن إن ترك ولداً ] أو عشرة، وكلمة ولد يدخل فيه الذكر والأنثى المولود [ وللزوج الربع إن تركت زوجته ولداً، وله النصف إن لم تترك ولداً ] فإذا ماتت زوجتك وتركت ولداً أو بنتاً فلك الربع من مالها، وإن لم تترك ولداً فلك النصف، والباقي لعصبتها [ ومن مات من رجل أو امرأة ولم يترك أباً ولا أماً ولا ولداً وإنما ترك أخاً أو أختاً لأم وعصبة فإن لكل واحد منهما السدس، والباقي للعصبة، وإن ترك أكثر من أخ أو أخت لأم فهم شركاء في الثلث ] يقتسمونه بينهم [ والباقي للعصبة، ومن ترك أختاً ] فقط [ ولم يكن له ولد فلها النصف ] من مال أخيها [ وإن ماتت هي ولم تترك ولداً فهو يرث مالها كله، وإن مات هو وترك أختين فلهما الثلثان، والباقي للعصبة كالأعمام مثلاً، ومن ترك منهما إخوة رجالاً ونساء فإن الإخوة يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين، كالوالد يموت ويترك بنين وبنات، فإنهم يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا تقسم التركة إلا بعد إنفاذ الوصية وسداد الدين. هذه قسمة الله تعالى في مال الهالك، فلو كان كنز المال حراماً فكيف ينزل القرآن بقسمته ] بهذه القسمة [ على النحو الذي فصلت؟ ] فهذا ليس معقولاً أبداً [ لذا الإجماع على أن المال المدخر إذا أخرجت زكاته لا يُعد كنزاً محرماً يُعذب به صاحبه ] وقد شذ في الصحابة واحد، ولكن أدبوه ورجع، ولذا الإجماع على أن المال المدخر للادخار والمبقى للحاجة إذا أخرجت زكاته كل سنة لا يعد كنزاً محرماً يعذب به صاحبه.
عاقبة من لم يخرج زكاة ماله