أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارضَ عنا كما رضيت عنهم. آمين.
ألفت النظر إلى أن صيام التاسع من محرم مشروع مسنون، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما دخل المدينة وجد اليهود يصومون، فسألهم عن صومهم هذا؟ فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه تعالى موسى وبني إسرائيل، فقال: نحن أحق بموسى منهم ). لأنه نبي الله ورسوله، وقد نجاه الله مع بني إسرائيل في هذا اليوم، فنصوم شكراً لله. فصام وأمر أهل المدينة من المؤمنين أن يصوموه، فصاموا وصوّموا أطفالهم الصغار، ثم قال في يوم آخر من الأيام: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر ). وهذا من أجل أن يخالف اليهود؛ حتى لا يتفق معهم في صوم يوم واحد، فصام المسلمون التاسع والعاشر. ثم نسخ ذلك الأمر بصيام رمضان، وبقي الندب والاستحباب.
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عاشوراء، فقال: (إنه يكفر ذنوب سنة كاملة). فصيام يوم العاشر يكفر الله ذنوب السنة الماضية.
ويوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنه يكفر الله به ذنوب سنتين الماضية والآتية). والحمد لله.
ولا تسأل عن فضل الله؛ فإن فضل الله عظيم.
فغداً إن شاء الله يصوم الصائمون والصائمات، فهو اليوم التاسع، ويصومون بعد غدٍ، وهو العاشر، والعاجزون من أمثالنا يصومون معهما يوم الإثنين، فتصبح ثلاثة أيام، و( صيام ثلاثة أيام من كل شهر تعدل صيام الدهر ). والحسنة بعشر أمثالها، فاليوم بعشرة، والشهر ثلاثون يوماً، فمن صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كمن يصوم الدهر.
ومن أراد أن يصوم الأيام البيض فليصم التاسع والعاشر، ويكف عن الصيام، ثم يصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فيفوز بجائزتين.
وأما العاجزون فإنهم يحتالون كاحتيالنا، وهو احتيال شرعي لا بأس به، فنصوم التاسع والعاشر والحادي عشر وهو يوم الإثنين، وفي ذلك خير كثير.
وليس هذا الصيام بواجب، فمن تركه لا يأثم، ولا يخرج عن ولاية الله، وإنما هذا من باب التنافس والمسابقة في الخيرات.
والمكروه أن نصوم يوم الجمعة وحده؛ لأنه يوم عيد المؤمنين، فإذا صمنا قبله يوماً أو بعده أصبحنا لم نخصصه بصوم.
وكذلك لا نصوم يوم السبت منفرداً؛ حتى لا نوافق اليهود في صومهم، وإذا صمنا قبله يوماً أو بعده فإننا لم نتابعهم، ولم نمش على نهجهم.
وكذلك الأحد للنصارى، فإن صمنا قبل الأحد يوماً أو بعده يوماً لم نماثل النصارى، ولم نجارهم في عباداتهم.
وهيا نتغنى بالنداء وهو قصير، وليس بالطويل.
قال: [ الآية (6) من سورة التحريم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ].
والكافر ميت [ فلا يسمع نداء ولا يعي ما ينادى له، ولا يتمثل ما يؤمر به أو ينهى عنه ] وأنت إذا ناديت بريطانياً ليصلي في المسجد لم يستجب، وكذلك إذا ناديت عاهرة لتستر وجهها وتذكر الله؛ لأنها ميتة. والميت لا ينادى، ولا يؤمر ولا ينهى. بل انفخ فيه أولاً روح الإيمان، فإذا آمن وأعلن عن إيمانه بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله مره أن يتوضأ فإنه يتوضأ، ومره أن يأتي إلى المسجد فسيأتي، وأما أن تأمره قبل إيمانه فهذا عبث؛ لأنه لن يستجيب؛ لأنك تنادي ميتاً.
والدليل على هذا: أننا لا نأمر أهل الذمة في بلاد المسلمين بأن يصلوا، ولا بأن يصوموا، ولا بأن يأتوا بزكاة أموالهم، ولا بأن يأتوا بالشريعة أبداً؛ لأنهم بمثابة الأموات. ثم إذا حيوا بدخول الإيمان في قلوبهم فسوف يطلبون هم منا أن نعلمهم كيف يعبدون الله.
وأزيدكم برهاناً: والله إن قتل كل كافر أهون على الله من أن يقتل مؤمن واحد؛ لأن هذا المؤمن يعبد الله ويذكره، وصوته يرفع إلى السماء، وتتلقاه الملائكة، وأولئك الكفار لا يذكرون الله ولا يعبدونه، وقد خلقوا لعبادته، ولذلك ليس لهم حق في الأكل ولا في الشرب، ولا في الحياة، وهذا الكلام يقبله القانون. فقد خُلِق ابن آدم ليعبد الله، فإذا رفض العبادة فليس له حق في الحياة، ولا في الأكل أو الشرب، وإنما نقول: نتركه يأكل ويشرب رجاء أن يؤمن غداً أو بعد غدٍ؛ لأننا لا نملك له أن يؤمن أو لا يؤمن.
ولهذا قتل كل كافر لا يساوي قتل مؤمن واحد؛ لأن هذا مؤمن يذكر الله ويعبده، وبقتله يعطل ذلك، والذي لا يذكر ولا يعبد وجوده وعدمه سواء، فهو لا قيمة له، وإنما لا يؤمر بقتله رجاء أن يسلم غداً ويعبد الله عز وجل ويذكره.
وأنت إذا أشفقت على ابن عمك الكافر فقل له: يؤمن؛ ليحيا، ولا تحزن ولا تكرب، بل ادعه إلى الإيمان، فإذا آمن بالله ولقائه حيي، وأصبح متهيئاً لأن يغتسل من الجنابة، ولأن يتوضأ، ولأن يغض بصره، ولأن يحفظ فرجه، ولأن لا يأكل إلا حلالاً، ولأن يحيا حياة كاملة، فتصبح العين تبصر، والأذن تسمع، واللسان ينطق، واليد تعطي وتأخذ، والرجل تمشي؛ وذلك لكمال حياته، فإذا أمرته استطاع أن يفعل.
والذي يقول: أنا مؤمن بلسانه فظ لا ينفعه هذا القول.
وهذه الحكايات تقطع علينا الدرس، ولكننا نخفف بها على بعض المستمعين، الذين يريدون أن يروحوا على أنفسهم.
قال: [ وإنما ] وهذه أداة الحصر، أي: وإنما الإيمان الحق [ هو تصديق جازم ] قاطع [ بوجود الله رباً وإلهاً، لا رب غيره، ولا إله سواه، وبملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبقضائه وقدره ] هذا هو الإيمان، فإذا قال شخص: أنا مؤمن، فمعنى هذا: أي: آمنت بالله رباً وإلهاً، وآمنت بمحمد نبيناً ورسولاً، وآمنت بالبعث الآخر، وما فيه من نعيم مقيم لأولياء الله، وعذاب أليم لأعداء الله، وآمنت بكتب الله وملائكته وعامة رسله، وآمنت بأركان الإيمان الستة؛ لأنه لو أركن ركناً كفر، بل لو شك مجرد شك في ركن من أركان الإيمان الستة لكان كافراً، ولا يدخل في جماعة المؤمنين.
قال: [ وآية ذلك ] أي: علامة معرفة أن عبد الله هذا مؤمن أو أن هذه المرأة مؤمنة [ إسلام القلب والوجه لله ] فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله تعين عليه أن يعطي قلبه ووجه لله، بحيث لا يتقلب قلبه إلا في طلب رضا الله، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يتوضأ ولا ينام، ولا يهدم ولا يبني، ولا يتزوج ولا يطلق، ولا يعطي ولا يمنع إلا من أجل الله، وتكون حياته موقوفة على الله. وهذا ممكن، وليس صعباً. وإذا آمن عبد الله حق الإيمان فإنه والله لا يتزوج إلا من أجل الله، ولا يطلق إلا من أجل الله. وقد علمنا أمس كيف يكون الطلاق لوجه الله، وهو: أن يريد الزوج أن يرفع الضرر على أمة الله الذي لحقها منه، أي: من هذا الزوج. وكذلك المؤمن لا يهدم في الجدار إلا من أجل الله؛ لأنه يخشى أن يسقط على مؤمن أو مؤمنة، أو أنه يراد أن يهدمه ليبنيه من جديد؛ لأجل أن يستر عورته، أو يستر أسرته، فهو يفعل هذا لأجل الله.
فإياك أن تبتعد عن هذه النية؛ إذ من أسلم قلبه لله فإن قلبه يصبح لا يتقلب طوال حياته إلا من أجل الله.
وكذلك وجهه دائماً لله، وكل حياته موقوفة على الله. واتجاهه دائماً هو أن يطلب رضا الله، ويبتعد عن سخط الله، وقد قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]. ففكر ألا تأكل وألا تشرب، وألا تقوم وألا تجلس، وألا تبيع وألا تشتري دائماً إلا من أجل الله، وأن تكون حياتك كلها موقوفة على الله.
قال: [وأن يطيع الله ورسوله فيما أمرا به وفيما نهيا عنه ].
فنعرف أن فلاناً أسلم قلبه ووجه لله وأنه قد حقق بذلك إيمانه بأن يحب ما يحبه الله، وأن يكره ما يكرهه الله، بحيث لو علمت أن الله يكره أباه؛ لأنه مسيحي أو يهودي أو مشرك يكرهه، ولو بلغه أن الله يكره هذا العبد فإنه يكرهه وإن كان أبوه أو ابنه، وإذا بلغه أن الله يحب فلاناً فيحبه ولو كان من أعدى أعدائه، أو من أعداء أبيه؛ لأن الله يحبه.
وهذا ليس في الأشخاص، بل وفي الذوات وفي كل شيء أيضاً، فإذا علمت أن الله يحب قول: سبحان الله وبحمده فيجب أن تحبها، وإذا علمت أن الله يكره المزمار وصوت العاهرة وصوت النائحة فيجب أن تكرههما؛ لأن الله يكرههما، فصوت النائحة والمغنية مبغوضان لله، والعياذ بالله.
ومن تململ أو شك فيرفع رأسه إلى كوكب الشمس الناري النهاري - وقد قال في تحديده علماء الإسلام قبل أن تكون أوروبا عالمة: إنه أكبر من الأرض بمليون مرة وزيادة- فهذا الكوكب كله نار، وهو لا يوقد بالحطب ولا بالغازات ولا بالفحم، ولو حشرت البشرية كلها في هذا الكوكب لما سدت زاوية من زواياه. فلا يشك عاقل بعد هذا في وجود عالم الشقاء الذي اسمه عالم النار.
وكلمة المرء أفضل من كلمة إنسان.
قال: [ ووقاية أهله من زوجة وولد وقريب من النار؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6] ] وأهلك هم أولاً: الزوجة، وثانياً: الأولاد، وثالثاً: الآباء، ورابعاً: الإخوان، والأقارب من عمة وعم، وخالة وخال، فكل هؤلاء أقاربك، فهم أهلك. فقال: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ [التحريم:6]. والأهلين جمع مذكر سالم. ونكر النار هنا للتفخيم، أي: اتقوا ناراً يعجز الواصف عن وصفها. ونارنا هذه أوجدها الله عز وجل للانتفاع بها، وقد أطفئت في سبعين بحراً، ولولا هذا التخفيف لما انتفعنا بها لا في طبخ ولا في استدفاء؛ بسبب حرها، فتخيلوا النار الحقيقية التي منها هذه النار.
وقد كتبنا كما علمتم بعنوان: الطريق إلى الجنة. وهذا الطريق أربع خطوات فقط، وليس أربعة كيلو ولا ألف كيلو، بل أربع خطوات فقط، خطوتان إيجابيتان، وخطوتان سلبيتان.
فأما الخطوتان الإيجابيتان فهما: الخطوة الأولى: الإيمان الصحيح، والثانية: العمل الصالح.
وأما الخطوتان السلبيتان فهما: الخطوة الأولى: ترك الشرك، والخطوة الثانية: ترك المعاصي. وليس في هذا كلفة ولا مشقة ولا عناء.
والخطوتان الإيجابيتان تتكلف وترفع رجلك فيهما وتمشي، وأما الخطوتان السلبيتان فلا تتحرك فيهما رجليك، ولا تمشي. فافهموا هذه الحقيقة. والجنة قريبة، فما تلفظ نفاسك الأخير إلا وأنت في دار السلامة،
وأهل هذا الدرس من المؤمنين والمؤمنات قد أصبحوا في مستوى عالٍ، فهم يعرفون علة هذا والله العظيم. فالعلة ليست مجرد طاعة فقط، بل السر هو: أن الإيمان والعمل الصالح أداة لتزكية للنفس وتطهيرها وتطييبها، فتصبح أهلاً للسماء والملكوت الأعلى كأرواح الملائكة. واجتناب الشرك والمعاصي اللذين هما مادة التعفين والتلويث والتخبيث للنفس، فاجتنابهما يبعد الخبث والعفن الذي يعفن نفسه ويعوقها. وهذا علم سامٍ. وإذا خبثت نفس الآدمي فوالله إنها لا حق لها في الملكوت الأعلى، ولا تدخل الجنة. والذي أخبر بهذا هو الله بهذا، فقد قال الله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. وهذا مستحيل. إذاً: دخلوهم الجنة مستحيل. ولا أحد يرد على الله.
و آزر أبو إبراهيم الخليل في النار. والمرضى والمصابون بالهواجس والوساوس يقولن: هذا ليس أبوه، بل هذا عمه.
وقال الخرافيون والضلال: أبو طالب في الجنة، وعم الرسول صلى الله عليه وسلم في النار، ويتخبطون؛ لأنهم ما قرءوا كتاب الله ولا عرفوه.
ولن ينقض هذا الحكم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] أحد.
فالذي لا يزكي نفسه بالإيمان والعمل الصالح ويبعدها عما يدسيها من الشرك والمعاصي هيهات هيهات أن يدخل دار السلام، والله يقول: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]. والعرب يعرفون الجمل، ويعرفون عين الإبرة. فهذه لغة عربية. وعين الإبرة لا نستطيع أن ندخل فيها خيطاً دقيقاً إلا بمشقة، ومستحيل أن يدخل فيها بعير. وكذلك صاحب النفس الخبيثة من جراء الشرك والمعاصي والذي ترك الإيمان وصالح الأعمال يستحيل أن يدخل دار السلام.
ويدخل في الشرك الكفر، فكل مشرك كافر، وكل كافر مشرك.
قال: [ فالدعاء ] مثل أن تقول: يا رب! اغفر لي وارحمني، ويا رب! هب لي، ويا رب أعطني! ويا رب اشفني [ عبادة تعبد الله بها المؤمنين ] لأن الله تعالى قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]. وقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ [الأعراف:55]. فهو إذاً عبادة. والله لم يأمر به إلا لأنه تعبدنا به. وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].
إذاً: الدعاء عبادة [ فمن دعا غير الله ] مع الله [ قد أشرك ] وأصبح مشركاً. والجهال الضلال وما أكثرهم يدعون مع الله غيره، وقد قلت نسبتهم اليوم بعوامل شاءها الله عز وجل. فهناك اليوم كما تعرفون الإذاعة والتسجيل، واتصال العالم ببعضه البعض، والاتصالات موجودة في كل العالم، وكذلك يوجد اليوم وعي عام؛ لوجود الكتب والمجلات والصحف، وما إلى ذلك، وكان العالم من قبل منقطع عن بعضه البعض، وكان أهل الإقليم لا يعرفون الإقليم الآخر حتى الموت أبداً، والآن أصبح العالم كأنه بلداً واحداً، ولهذا وجدت ثقافة عامة.
وقد كان الشرك - والعياذ بالله تعالى- منتشراً من قبل، فكانت المرأة وهي ممسكة بحبل الولادة المشدود في العمود بدلاً من أن تصرخ: يا رب! وبدلاً من أن تقول: يا الله! كانت تقول: يا رسول الله! أو يا سيدي عبد القادر ! ولو ماتت في هذه الحالة ماتت إلى جنهم.
وأعجب من هذا: كان أحدهم يذكر الله بالمسبحة في يده: لا إله إلا الله! وإذا سقطت المسبحة من يده والله يقول: يا رسول الله! وهذا هو الشرك. وبقي هذا في أمتنا قروناً إلا من رحم الله. ولم يكن هناك من يعلم ولا يبين، ولا يحذر ولا ينذر. ولذلك هبطت الأمة من علياء السماء إلى الأرض.
والمقصود هنا: أن الذي يدعو مع الله غيره فقد أغضب الله، وأهان الله؛ لأن الله هو الذي كفاك، وهو الذي أسمعك، وهو القادر على قضاء حاجتك، فلا تغيظه بذكر عبد من عباده معه.
ولست أشك أنه لو كان هناك من يبين للناس كما بينا الآن أنه لن يبقى مشرك في القرية ولا في البلد؛ لأنه لا يرضى أحد أن يحترق، ولكنهم لم يعلمهم أحد. بل كان القرآن يقرءونه على الموتى، بلا تفكر ولا تدبر، وكانت السنة تقرأ للبركة.
إذاً: الدعاء عبادة تعبد الله بها المؤمنين، فمن دعا غير الله فقد أشرك. فإياك أن تقول: يا الله! يا رجال البلاد! أو يا الله! يا سيدي عبد القادر ! أو يا الله! يا رسول الله! أو يا الله! يا فاطمة أو يا الله! يا حسين ! فهذا والله شرك أعظم، وهو يغضب الله؛ لأن الله هو الكافي، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]؟! فلا تحتاج إلى عون من غيره، ومن فعل هذا فقد أغاظ الله بذكر اسم مع اسمه، مثل أن يقول: يا الله! يا عبد القادر ! فمن قال هذا كفر، ولا يبقى مؤمناً، ولو قالته الأمة كلها.
وكذلك من يسأل الله ويسأل معه غيره، وهو بهذا يهين الله؛ لأن الله هو الذي كفاه، وهو يغيظه ويذكر اسماً مع اسمه.
وقد تعبدنا الله بالنذر. والنذر مثل أن تقول: لك يا ربي! عليّ أن أصوم عشرة أيام؛ تتملقه بذلك حتى يحبك، وتتزلف إليه ليقبلك، أو أن تقول: لك يا ربي! عليّ أن أصوم هذه الأيام - أيام القيض- كلها، ولا تريد بهذا إلا حبه، أو أن تقول: لك يا رب! عليّ أن لا أنفق في اليوم إلا مرة واحدة، والمرة الثانية أعطيها لفقير أو مسكين، أو كأن تقول: لله عليّ أن أصوم كل إثنين وخميس ما حييت. وأنت تفعل هذا لتتملقه وتتزلف إليه؛ ليحبك ويرضى عنك، أو ليرفعك ويقربك. هذا هو النذر.
وهناك نذر مشروط بشرط. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرده، ولم يرغب فيه، وهو قول الرجل: يا رب! إن نجح ولدي الليلة في الامتحان فسأذبح شاة للفقراء والمساكين، أو يقول: إن نجح الابن فعلت كذا. فهذا نذر مشروط. وإياك أن تقول: يا رب! إن نجحت البنت وأخذت الشهادة أتصدق بمائة ريال! ونحن نعترض هذا الاعتراض لأننا لا نريد لبناتنا ونسائنا أن يشتغلن بالتعليم وبالوظيفة، بل نريد منهن أن يعمرن البيوت بذكر الله، وإصلاح البيت، وتربية الأولاد، وإسعاد الزوج. ولا نريد أن تدق الساعة في وقت الوظيفة والعمل، فهذا شأن الكافرات اللائي لا إيمان لهن، ولا رجاء في الله والدار الآخرة. وأما المؤمنات الصالحات فلا نصرفهن إلى الوظيفة، فهذه قيمة الوظيفة لا قيمة لها، فأنت يا عبد الله! ليس لك إلا بطناً واحداً تأكل فيه، وليس لك إلا جسماً واحداً تسكوه وتغطيه. والفحل يعرق الليل والنهار، ويشتغل من أجل أن يطعم زوجته وأولاده الصغار، فلسنا في حاجة إلى أن تتوظف فلانة، ثم ينقلونها من المدينة إلى خيبر أو غيرها، وتترك بيتها وزوجها وأولادها يتألمون.
ونحن نفعل هذا لا لشيء، بل فقط تقليداً وجرياً وراء ما يصنعه الغرب والشرق. وإلا فجداتنا إلى فاطمة الزهراء ألف جدة والله ما توظفت منهن واحدة، وعشن سعيدات ومتن طاهرات. والآن فقط إذا لم توجد وظيفة تعطلت الحياة وتوقفت!
فربِّ بناتك في بيتك على عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله، وعلمهن الحياء والعفة، والطهر والصفاء، واتركهن بعد التخرج من السادسة الابتدائية، فهذا التعلم ضروري، وأنت مشغول لا تستطيع أن تعلم بناتك، فاتركهن يتعلمن أربع سنوات أو خمس في المرحلة الابتدائية؛ حتى يصبحن يعرفن القراءة والكتابة، ويحفظن شيئاً من القرآن، ويعرفن كيف يتطهرن ويعبدن الله. وهذا يكفي.
ثم اتركهن مع أمهن يعملن معها، ويصلحن شأن البيت معها، فإذا بلغت إحداهن الخامسة عشرة وجاء فحل صالح فاتركها له، تخدمه لوجه الله، وأما الوظيفة فهي الانتحار.
نترك الباقي إلى غد إن شاء الله. ونحن في آخر النداءات، ونريد أن نعيد النداءات من جديد إلى نهاية الشهر؛ لأن أبناءنا الطلبة كانوا مشغولين بالامتحانات، ولم يستطيعوا المواصلة، فلهذا سنعيد بعض النداءات.
وصلّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر