إسلام ويب

تفسير سورة الرعد (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • افتتحت سورة الرعد بـ(المر) لتدل على أن هذا القرآن مكوّن من هذه الحروف، وفي هذا تحدٍ لكفار قريش وغيرهم بأن يأتوا بمثله، وهذا يدل على أن القرآن منزل من عند الله، وأنه هو الحق، ومع هذا فقد قرر القرآن أن أكثر الناس لا يؤمنون، فكانت الآية الثانية مقررة أن الله هو المدبر لكل شيء، وأنه فصّل الآيات لعل الناس يوقنون، فيرجعون تائبين إلى خالقهم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن اليوم مع سورة الرعد المكية، ذات الثلاث والأربعين آية، فهيا بنا مع هذه الآيات الخمس نستمع إليها مجودة مرتلة ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:1-4].

    مذهب السلف في تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: المر [الرعد:1]، علمنا مما سبق ونكرر القول؛ تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين: أن هذه الحروف المقطعة ابتدأت بالبقرة: الم [البقرة:1]، ثم آل عمران: الم [آل عمران:1]، ثم الأعراف: المص [الأعراف:1]، ثم يونس: الر [يونس:1]، ثم هود: الر [هود:1]، ثم يوسف: الر [يوسف:1]، ثم الرعد: المر [الرعد:1]، ثم إبراهيم: الر [إبراهيم:1]، ثم الحجر: الر [الحجر:1]، ثم: كهيعص [مريم:1]، طه [طه:1]، طس [النمل:1]، طسم [الشعراء:1]، حم [غافر:1].. عسق [الشورى:2]، ن [القلم:1]، ص [ص:1]، ق [ق:1]، هذه الحروف المقطعة الذي عليه أهل العلم من السلف والخلف: أننا لا نبحث عن تفسيرها، ولا نقول: مراد الله كذا وكذا، بل نقول: الله أعلم بمراده بها.

    المر [الرعد:1]، الله أعلم بما أراد بهذه الحروف، نفوض أمر فهمها إلى الله. وهذا مذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.

    أيضاً: يس [يس:1]، الله أعلم بمراده بها، وكذلك بقية الفواتح.

    أسرار الحروف المقطعة في فواتح السور

    ثم نضيف إلى هذه المعلومة: أن سرين في هذه الحروف:

    السر الأول: لما تحدى الله عز وجل العرب بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن الكريم فعجزوا أعلمهم أن هذا القرآن الكريم بلسانهم العربي، وأنه مركب من هذه الحروف التي يعرفونها ويتداولونها، ما هو بحروف أخرى، بل هذه الحروف المتداولة بين الناس هي التي تكوّن منها القرآن، فإن عجزتم فقولوا: آمنا بالله، أما أن تكذبوا وتنكروا وتردوا الحق بالباطل فهذا لا ينبغي.

    ويدل عليه قوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2] أي: مركب من هذه الحروف، وكذلك قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [يونس:1]، حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ [غافر:1-2].. تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة فعجزوا، وهم فصحاء، بلغاء فوق العادة، فبين لهم أن هذه السورة مكونة ومركبة من هذه الحروف المعتادة التي تنطقون بها في بيوتكم وأسواقكم. هذا السر الأول.

    والسر الثاني: صدر أمر حكومي أصدره الحاكم العام في مكة أبو سفيان -رضي الله عنه إذ أسلم- بأنه لا يسمح لمواطن ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً أن يسمع القرآن، ومن ضبط يستمع إلى القرآن من رسول الله أو من المؤمنين يعذب. لماذا؟ قالوا: حفاظاً على معتقد الأمة؛ حتى لا تنقسم وتتشتت آراء ومذاهب، كما يفعل السياسيون اليوم.

    إذاً: عزموا أن لا يسمعوا القرآن لكن صوت هذه الحروف أدهشهم، المر [الرعد:1]، لابد أن يصغي ويسمع، ولا يصبر طسم [الشعراء:1]، فما سمع بهذا الصوت من قبل، فيضطر إلى أن يصغي ويسمع، يقول الله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1].. ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2].

    وتذكرون قول الله عز وجل من سورة فصلت: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، لا تسمعوا، وإذا رفع أبو بكر وعمر أصواتهما بالقرآن فصيحوا أنتم بالكلام الباطل؛ حتى ما يُسمع كلامهما، ولا يفهم.

    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26]، فواحد يغنّي، وواحد يصفّر، وآخر يرفع صوته وهكذا.. حتى لا يفهم ما يقرأ، حتى لا يتسرب النور إلى قلوب السامعين فيسلموا، ويدخلون في الإسلام.

    إذاً: نعود فنقول: كيف نفسر هذه الحروف؟ نقول: الله أعلم بمراده بها، ونفوض أمرها إلى الله.

    هل هناك أسرار؟

    الجواب: نعم عثرنا على سرين:

    الأول: أن هذه الحروف هي التي يتكون منها القرآن، فلم تكفرون به، وتكذبونه، فألفوا مثله، سورة فقط أو آمنوا.

    السر الثاني: لما عزموا على أن لا يسمعوا تأتي هذه الحروف التي ما سمعوها بهذا النغم وهذا الصوت، فلابد وأن يصغي أحدهم ويسمع، فلما يصغي يدخل القرآن في قلبه.

    هذا الذي تقوله عند كل هذه الحروف المقطعة من الم [البقرة:1] البقرة إلى ن وَالْقَلَمِ [القلم:1].

    خطأ من قال بأن (يس) و (طه) من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم

    يبقى أن بعض أهل العلم يقولون: يس [يس:1] اسم للرسول صلى الله عليه وسلم، و طه [طه:1]، اسم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ فما قاله رسول الله ولا أصحابه، يس [يس:1]، كـ حم [غافر:1]، معروفان، فهذه ياء وسين، طه [طه:1]، كذلك الرسول ما اسمه طه، اسمه: محمد وأحمد، خمسة أسماء في الموطأ، وليس من أسمائه صلى الله عليه وسلم طه.

    معنى قوله تعالى: ( تلك آيات الكتاب)

    والآن قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1]، تلك التي تقدمت في سورة يوسف من آيات الكتاب: التوراة، والإنجيل، والزبور وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الرعد:1]، هذا القرآن هو الحق وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد:1]، هو لا غيره، ولا بأس عند أهل العلم أن تقول: (الواو) مزيدة، ويصبح الكلام: (تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك)، ولا حرج فالمعنيان صحيحان تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ [الرعد:1] التي في سورة يوسف، وقصة يوسف عليه السلام موجودة في التوراة والإنجيل.

    تقرير الآية لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

    إذاً: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ [الرعد:1] يا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق من ربك.

    فالآية تقرر النبوة المحمدية: فمحمد رسول الله حقاً وصدقاً، ودليل رسالته هذا القرآن الذي أنزله الله عليه، والذي ينفي رسالته فيقول: محمد ليس برسول فهذا مجنون، لا عقل له، أحمق، خبيث، متمرد، يريد أن يغطي عن الناس الحق، وإلا كيف ينزل عليه هذا القرآن الكريم ويكون غير نبي ولا رسول؟! مستحيل.

    هاتوا شخصاً في الملايين البشرية كلها يأتي بسورة فقط، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:23-24].

    معنى قوله تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)

    قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، من أخبر بهذا الخبر؟

    الجواب: الله؛ لأنه هو خالق الناس، وخالق قلوبهم، أعلم عباده المؤمنين أن يصمدوا ويثبتوا إذا لم يؤمن الناس بكتاب الله ورسوله؛ لأن سنة الله ماضية أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1].

    وهل هو حق وصدق؟ إي نعم، نسبة المؤمنين إلى الكافرين (10%)، أو (5%) فقط أو أقل.

    أسباب عدم إيمان أكثر الناس

    لماذا أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]؟ لأن هناك عوامل تمنع من الإيمان، أبسطها: التقليد للآباء والأجداد والإخوان وأهل البلاد، فما يقبل شيئاً، عاش على هذا ويبقى عليه، وعندكم الآن في المسلمين بدع أصر عليها أصحابها وأبوا أن يتركوها لا لشيء إلا قولهم: لأننا وجدنا الناس على هذا.

    ثانياً: الشهوات، والأطماع، والأغراض المادية تمنع من الإيمان؛ لأن من آمن بالله وكتابه ورسوله تغيرت حياته، فما أصبح يكذب، ولا يسرق، ولا يفجر، ولا يغش، ولا يحسد، ولا يبغض، ولا يؤذي ولا ولا.. وهؤلاء تعودوا على هذا فكيف يتركونه ؟ ما يستطيعون.

    إذاً: يقولون: لا نؤمن، فهؤلاء أناس لهم دينا، أموال، مناصب، جاهات.. كذا، فيخافون إذا آمنوا أن يسلب ذلك منهم، ويصبحوا كعامة الناس، فلا يريدون أن ينزلوا أبداً عن مستوياتهم إلى مستويات العوام والضعاف، فيصرون على الكفر ولا يؤمنون، وصدق الله العظيم المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ [الرعد:1] يا محمد من ربك جل جلاله هو الحق، لا كما يقول الدجاجلة والمفترون من النصارى أو اليهود أو المشركون العرب وَلَكِنَّ [الرعد:1] لابد من هذا التعقيب أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، مع العلم أن ما أنزل إليك -والله- لهو الحق، ومع هذا اعلم أنت والمؤمنون أن أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [الرعد:1]، وصدق الله العظيم.

    هذه الآية نزلت في مكة وآمن من آمن، فهل أكثر الناس هم الذين آمنوا؟ لا، أبداً، أكثر الناس ما آمنوا إلى الآن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088522728

    عدد مرات الحفظ

    777113124