إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (10)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مظاهر البلاغة العربية أن يشتمل الخطاب على ضرب الأمثلة، لما فيها من بيان وتوضيح، ولفت للانتباه والتفكير، ولهذا اشتمل القرآن على الكثير من الأمثلة، وحين استنكر الكفار بعض أمثلة القرآن، أجاب سبحانه بأنه لا يستحيي من ضرب الأمثلة ولو بشيء صغير كالبعوضة فما فوقها، فمن كان مؤمناً فسيعلم أنه مثال حق، وأما الكافر فسيرده ويكفر به.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإنا مع الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27] أعاذنا الله وإياكم من الخسران. ‏

    الإيمان والعمل الصالح يوصلان إلى الجنة

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! في الآيات السابقة وهي قول ربنا تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]. أعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن الجنة بما فيها من ذلك النعيم المقيم إنما تورث بالإيمان وصالح الأعمال، فمن آمن وعمل صالحاً فقد اتقى سخط الله وعقابه، وبذلك أصبح من ورثة دار النعيم، إذ جاء التصريح الواضح بأن الجنة تورث، وأن سبب إرثها هو التقوى، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

    إذاً: عرفنا الإيمان وهو التصديق الحق المشتمل على التصديق بوجود الله تعالى، وعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، كما هو التصديق بكتبه، ورسله، وبلقائه يوم القيامة، وما يوجد في ذلك اليوم من الحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.

    وهذا الإيمان عرفتم وأيقنتم أنه بمثابة الطاقة الدافعة، فإذا قوي دفع عبد الله أو أمة الله على أن يتقحم أصعب المشاق وأشدها، فمن ذلك أنه يجوع ولا يسرق، ويعيش أربعين سنة على العزوبية ولا يفكر أبداً في أن يقدم على الفجور فيزني، والعياذ بالله.

    وهذا الإيمان يحمل صاحبه على أن يهاجر في الله وفي سبيل الله، ويترك أهله وماله وولده، ويصبح غريباً في بلد ما؛ كما حصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الإيمان الذي يحمل صاحبه على ألا ينطق بسوء أو ينظر إلى محرم .. هذا الإيمان هو الذي يثمر العمل الصالح.

    العمل الصالح هو ما شرعه الله ورسوله

    الذي أحببت أن أعيد ذكره إليكم هو أن العمل الصالح هو ما شرعه الله لنا من أقوال وأعمال، فما لم يشرعه الله ويقننه ويأمر بالعمل به لن يكون عملاً صالحاً، والذي لم يشرعه الله في كتابه القرآن ولا على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم لن يكون عملاً صالحاً.

    وعندما نعلم أنه مشروع مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن نراعي في أدائه.. في فعله:

    أولاً: الإخلاص فيه لله، فلا نلتفت بقلوبنا ولا بوجوهنا إلى غير الله ونحن نؤدي ذلك العمل؛ لأن العمل إذا خالطه الشرك والالتفات إلى غير الله فيه بطل مفعوله، لا ينتج الطاقة المطلوبة منه.

    ثانياً: ينبغي أن نفعله .. أن نؤديه .. أن نقوم به على النحو الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا زيادة ولا نقص، ولا تقديم ولا تأخير، فإن زدنا أو نقصنا، أو قدمنا أو أخرنا بطل مفعوله.

    ومن الأمثلة القريبة التي لا ينكرها أي عاقل أن صلاة المغرب شرعت ثلاث ركعات، فمن زاد فيها ركعة تقرباً إلى الله ورغبة في الأجر بطلت عليه، ولم يستفد منها.

    وكذلك صلاة الظهر شرعت أربع ركعات فلو أراد أن ينقص منها ركعة بل سجدة بإجماع أهل العلم أن صلاته باطلة فليعدها، لم؟ لأنها لا تولد الطاقة.

    تفهمون الطاقة، أتعرفونها في الكهرباء؟ نور أو لا؟ هذه الكهرباء من يولدها؟ أليست المكائن! فأنت لما تقول: الله أكبر مستقبلاً القبلة متطهراً، وتدخل في هذه المناجاة، هذه عملية -والله- لأشد إنتاجاً من طاقة الحديد، ولكن إذا اختلت بطل مفعولها كمكائن توليد الكهرباء إذا اختلت هل تولد .. تنتج الكهرباء؟ بالإجماع لا، أليس كذلك؟

    ومن شك أو ما عرف كم وكم وكم من مصلٍ يخرج من المسجد ليعصي الله ورسوله، فما السر؟ دلوني، هل هو كافر؟ لا والله، لم إذاً؟ لأن الصلاة ما أداها أداءً صحيحاً، وما ولَّدت له النور الذي به يعرف الحق والباطل والخير والشر، والطيب والخبيث، والمعصية والطاعة، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لو قلت: لم يا ألله؟ كان الجواب: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ) يخبر بالواقع، والواقع أن الصلاة شرعت لتمنع عبد الله من غشيان الذنوب وارتكاب الآثام، فلما ما فعلت ما السر؟ إذاً ما صحت، سببها ما أخلص فيها، وما أداها خاشعاً، وما أدى أركانها، أنقص ونقص، وحصل الذي حصل.

    إذاً: لا بد للعمل الصالح أن يكون مما شرع الله ورسوله، فكل بدعة على الإطلاق اضرب بها عرض الحائط، ولا تضيع وقتك ولا قدرتك وطاقتك فيها، فإنها -والله- ما تولد لك نوراً ولا حسنة.

    والعامل بالبدعة كالذي يأكل التراب والحصى ليشبع أو ليسمن وليحفظ قوته، مستحيل.

    ومن هنا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) بمعنى: مردود، مصدر أريد به اسم المفعول: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ) ما وقعنا عليه فهو مردود، أي: لا يولد الطاقة والحسنة.

    ويقول: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، وقد أحببت أن أذكركم لأننا -لضيق الوقت بالأمس- ما تعرضنا للعمل الصالح.

    ولو يجتمع العلماء كلهم على إيجاد كلمة يضعونها للمسلمين إذا قالها المؤمن أنتجت له الحسنة والله ما قدروا ولا استطاعوا. كلمة فقط، أما عمل يقوم به المرء الساعة والساعتين فذلك مستحيل أن يوجد، ومن يوجده غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: ما هو العمل الصالح؟ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25] ما هذه الصالحات التي يبشر صاحبها بالنعيم المقيم في دار السلام؟

    إنها عبادات قننها الله، مركبة تركيب الكيماويات، ويضرها الزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، وإذا كان لها وقت لو أديتها في غيره ما نفعت، ولو عين لها الشارع مكاناً فأديتها في غيره -والله- ما نفعت، ما معنى ما نفعت؟ ما ولدت الحسنة، إذ الجنة يا معاشر المستمعين والمستمعات! لا يدخلها إلا ذو النفس الزكية، ما معنى الزكية؟ الطيبة الطاهرة، والنفس تزكو بماذا؟ باللبن والحليب؟ بالماء والصابون؟!

    ما هي أدوات التزكية للنفس البشرية؟

    إنها هذه العبادات التي شرعها رب الأرض والسماوات لعباده المؤمنين والمؤمنات من أجل تزكية نفوسهم حتى يقبلهم في جواره في الملكوت الأعلى. هل فيكم من يشك؟ ما هو القضاء لله في هذه القضية؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. هذا حكم الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088530951

    عدد مرات الحفظ

    777160010