إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (105)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نهى الله عز وجل عباده المؤمنين عن الإكثار من الأيمان؛ لأن ذلك مفض إلى أن يمنع المرء عن فعل بعض الطاعات وإتيان بعض الخيرات، أما ما يجري على ألسنة الناس من الأيمان التي لا يقصد بها الحلف، وإنما تجري مجرى الكلام فهي مما لا يؤاخذ بها الإنسان، أما ما انعقد عليه القلب فيحاسب عليه المرء، ومن ذلك الإيلاء من الزوجة، فقد أمهل الله صاحبه أربعة أشهر فإما أن يرجع إلى وطء زوجه أو يطلقها فتحرم عليه.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له إلا الله.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). اللهم حقق لنا هذا إنك ربنا وولينا، ولا رب ولا ولي لنا سواك.

    وها نحن مع هذه الآيات الأربع من سورة البقرة:

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224-227].

    هذه الآيات اشتملت على أحكام جليلة، من ظفر بها الآن وعاد إلى بيته وجلس على فراشه واسترجعها ووجدها كما هي؛ فهي -والله- لأكبر غنيمة غنمها في هذه الليلة، والله! لخير من خمسين ألف ريال؛ لأن ما عندكم ينفد أو لا؟ وما عند الله باق، فالباقي خير من الفاني، فهل مستعدون لأن نحفظ ونفهم، لأننا أخذنا أعظم جائزة: الله يذكرنا في الملكوت الأعلى، أبعد هذا شيء؟! من نحن وما نحن حتى يذكرنا الله بين ملائكته؟ بفضل هذا العطاء الإلهي: نتلو كتابه في بيته، ونتدارسه، هذا هو السر.

    سبب نزول الآية الكريمة

    أولاً: لهذه الآية في نزولها سبب: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224] هذه الآية لها سبب في نزولها، قيل: إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لما حدثت حادثة الإفك وكرب رسول الله والصديق والمؤمنون بتلك الشائعة التي ما أكثرها اليوم، فـالصديق حلف بالله ألا يطعم ابن خالته مسطحاً ، كان الصديق يطعم ابن خالته مسطحاً صباح مساء، يأكل مع الأسرة؛ لأنه فقير، فلما ولغ في هذه الفتنة حلف ألا يطعمه في بيته، فنزلت الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:224]، فما كان من الصديق إلا أن أرجعه وعاد به إلى بيته وكفر عن يمينه.

    وفيها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ) قاعدة عامة: ما من مؤمن يحلف بالله ألا يفعل كذا، ويكون قد حُرم ذلك الخير بيمينه؛ إذ جعلها عرضة في الطريق فامتنع بها، فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك الذي حلف ألا يفعله، وليأت الذي هو خير.

    من حلف على شيء ثم رأى أن غيره خير منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.

    وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة ، فمن عبد الله بن رواحة هذا؟ شهيد مؤتة، هذا كان له ختن فغاضبه، حلف ألا يكلمه، والختن إما أخو زوجته أو أبوها، وجائز أن يكون زوج ابنته، والجمع: أختان، أقارب زوجتك هم أختانك، زوج ابنتك ختن لك أيضاً.

    النهي عن جعل اليمين مانعاً من فعل الخيرات

    إذاً: فكانت الآية: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، أي: ولا تجعلوا الحلف بالله، أما الله فما يكون عرضة، وإنما الحلف به تعالى لا تجعلوه عرضة في الطريق فيحول بينكم وبين طاعة الله وفعل الخيرات والصالحات، كأن يقول: والله لا أصلح بين اثنين بعد اليوم؛ لأنه صلح بينهما فلحقه سب أو عتاب أو آلام، ويمنع نفسه عن فعل الخير؛ إذ الإصلاح بين اثنين حسنة لا تقابلها حسنة.

    أو حلف ألا يكلم فلاناً، وفي تكليمه والحديث معه خير كثير، كيف يحرم نفسه من أخوة أخيه؟ إذاً: فليكفر وليفعل الذي هو خير، أو حلف ألا يعطي بعد اليوم فلساً لفلان أو فلان، فالعطاء خير من الحرمان، فليكفر وليأت الذي هو خير.

    وافهموا من قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ [البقرة:224] أن هناك محذوفاً: ولا تجعلوا الحلف بالله عرضة في الطريق يمنعكم من الوصول إلى الخير.

    وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224] لأن هذه مواطن الخير: فالبر فعل خير، والتقوى بترك فعل شر وفعل واجب أو مندوب خير، وتصلحوا بين الناس، هذه مواطن الخير والبر، لا تجعلوا اليمين بالله واقفة في الطريق كحجر عثرة كما يقولون، لا تجعلوا أيها المؤمنون الحلف بالله تعالى مانعاً لكم من فعل الخير، سواء كان تصدقاً، سواء كان مجالسة الصالح، أو دخول بيته.. وهكذا من أنواع البر والإحسان.

    سبب تسمية الحلف يميناً

    وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] يقال: فلان عرضة للسب، فلان عرضة لكذا، المرأة عرضة للخطبة والنكاح، فالعرضة: ما يعترض الشيء ويكون في طريقه، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] والأيمان: جمع يمين وهو الحلف، لم سمي الحلف يميناً؟ لأن العرب كانوا إذا أراد أن يحلف يضع يمينه على يمين الثاني، وضع اليمين على اليمين، من هنا سمي الحلف يميناً، توثيقاً وتأكيداً ليحلف له ويمينه على يمينه، فهذا الحلف يقال له: يمين، لهذه الملاحظة؛ لأنهم يضعون أيمانهم على بعضها تقوية للحلف وتأكيداً له.

    حكم الحلف بغير الله تعالى

    (( وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ))[البقرة:224] ما قال: لإيمانكم، فالإيمان: التصديق، والأيمان: جمع يمين وهي الحلف، والحلف -كما عرفتم وبلغوا- لا يجوز إلا بالله، بأسمائه وصفاته، لا بالكعبة ولا بالأمانة ولا بالنبي ولا بفلان ولا فلان، ومن حلف بغير الله متعمداً فقد أشرك، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) كيف أشرك؟ بينا هذا، العادة أن الإنسان يحلف بما هو عظيم عنده، فالذي تحلف به جعلت له جزءاً من عظمة الله؛ لأن الله أكبر؛ لأن الله هو العظيم، فلما حلفت بفلان وفلان أعطيته نصيباً من عظمة الله، معناه: أشركته في عظمة الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أشرك المحلوف به في عظمة الله عز وجل، وأين إخواننا المصريون الذين يقولون: والنبي.. والنبي، دائماً على ألسنتهم، وحين تنبهه في الموسم يقول: والنبي ما نزيد بعدها، قلت له: يا بني! لا تقل: والنبي، لا تحلف، انتبه، حتى ولو جرت على لسانك، جاهد نفسك، فيقول لي: والنبي ما نزيد بعدها! ولهذا لما شاهد أبو القاسم هذه الظاهرة في المؤمنين الذين عاشوا سنين يحلفون بالعزى، أو باللات أو مناة، فكونه أسلم منذ عامين لا يستطيع، تجري على لسانه، فما يقدر على التخلص منها، فقال صلى الله عليه وسلم: ( من حلف باللات أو العزى فليقل: لا إله إلا الله ) فهذه مادة الإصلاح، أيما مؤمن جرى على لسانه: وحق فلان، ورأس فلان، بدون قصد، فحين يعرف أنه وقع يقول: لا إله إلا الله، ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، هذا علاج لمن تعود من فطرته وصغره أن يحلف بغير الله، لا يريد أن يعظم ذلك الشيء، فما هو العلاج؟ لا إله إلا الله تمحو تلك السيئة. إذاً: (( وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ))[البقرة:224] لأقوالكم (( عَلِيمٌ ))[البقرة:224] بنياتكم وأفعالكم، إذاً: فاحذروا، لا تجعلوا اليمين مانعة من الخير، فإذا قلت: مع الأسف؛ أنا حلفت ألا أحضر الحلقة الفلانية، فكفر عن يمينك واحضر، حيث امتنعت من الخير.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088462338

    عدد مرات الحفظ

    776869496