إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (113)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله عز وجل لمن مات عنها زوجها أن تعتد في بيته أربعة أشهر وعشر ليال، وإن أوصى لها الزوج أن تتم الحول في بيته فلها ذلك، وهذا من الإحسان والمعروف، فيكون لها عند ذلك أن تقتصر على العدة وتخرج بعدها أو تتم الحول كما أراد لها الزوج، وأما المطلقة فإن لها متاعاً بالمعروف حسب حالها من الدخول بها أو عدمه، ومن تسمية المهر وعدمه، وكل هذا بينته الشريعة أكمل بيان.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا مع تفسير كتاب الله عز وجل في مثل هذه الليلة.

    والآيات المباركة التي ندرسها معاً إن شاء الله هي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:240-242].

    أذكركم بالموعود على لسان سيد كل مولود؛ لتستبشروا خيراً، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله أن جعلنا من أهل هذا الموعود على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    توفي الله تعالى عباده وبعثهم بعد الموت

    قول ربنا جل ذكره: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ [البقرة:240]، أي: يموتون، من يتوفاهم؟ الله، إذ قال تعالى وقوله الحق من سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، والذي يباشر إخراج الروح من الجسد هو ملك الموت، ويستلمها ملائكة معه، فإن كانت النفس تقية طاهرة زكية عرج بها إلى الملكوت الأعلى، وسجل اسمها في كتاب يسمى: عليين، وينزل بها الملائكة في موكب عظيم لمحنة القبر، فحين يتم نجاحها تعود الروح على الملكوت الأعلى؛ لتسرح في الجنان ساكنة مطمئنة إلى أن تنتهي هذه الدورة، ويخلق الله تعالى البشر خلقاً جديداً، فحين تكتمل أجسامهم ترسل تلك الأرواح ولها دوي، فما من روح إلا وتدخل جسدها، ذلك أنه تنبت الأجساد كما ينبت البقل، والبقل كالبصل، والثوم، والخردل، فحين تكتمل الأجساد وتنبت نباتاً يرسل الله تعالى الأرواح، أرواح السعداء من عليين، وأرواح الأشقياء من سجين، فلا تخطئ روح جسداً، فينفخ إسرافيل النفخة الثانية فإذا هم كالجراد المنتشر.

    والشاهد في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ [البقرة:240]، أي: يموتون، ولكن من يتوفاهم ويوفي آجالهم وأعمارهم؟ الله عز وجل، قال تعالى: مِنْكُمْ [البقرة:240] يا معشر المؤمنين لا من غيركم من الكافرين والمشركين، هؤلاء ما هم بأهل للتشريع والبيان؛ لأنهم كفروا الله وجحدوه، وكفروا رسوله وأنكروه، وكذبوا بكتابه ورفضوه، ما هم بأهل لهذا، مِنْكُمْ [البقرة:240] معشر المؤمنين، فالحمد لله أن كنا أهل شأن عند الله، ينزل كتابه علينا ويبين لنا الطريق ويهدينا السبيل؛ لنكمل ونسعد، فالحمد لله.

    معنى قوله تعالى: (وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج)

    وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:240]: يتركون زوجاتهم، ماتوا عنهن، والأزواج هنا: النساء، بمعنى: الزوجات؛ لأن الخطاب للفحول، فإذا مات الفحل فما لزوجته؟

    قال تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ [البقرة:240]، يوصون وصية لأزواجهم، قبل أن يموت يوصي أبناءه، إخوانه، أعمامه، أقاربه: إن فلانة تبقى في البيت سنة كاملة إن رغبت في ذلك، لا تزعجوها، لا تقلقوها، هي زوجي وأنا زوجها، أوصيكم أن تبقى بعدي أربعة أشهر وعشرة أيام أو تبقى فوقها سبعة أشهر وعشرين يوماً، إلا إذا أحبت أن تخرج فمع السلامة.

    وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، وتأكل وتشرب كما كانت، وتنام، هذا إحسان عظيم، فهل عرفه الناس؟ تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال، وتكمل السنة في بيت زوجها مع أولاده، مع بناته، مع أولادها، لا تزعجوها سنة، وإذا أرادت أن تخرج قبل السنة إذا أكملت أربعة أشهر وعشر ليال فشأنها، لكن من باب مراعاة الإحسان الذي يعيشه المسلمون، وهو شعارهم، فدعوها في بيت زوجها حتى تكمل السنة ثم مع السلامة.

    خلاف أهل العلم في نسخ الآية بسابقتها

    ومن أهل العلم من يقول: إن هذه الآية منسوخة، وناسختها الآية السابقة. وقد يقال: كيف تنسخ اللاحقة بالسابقة؟! نقول: لا حرج، أما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ [البقرة:142] وقد قال تعالى في الآية بعدها: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] إلى آخر الآيات، فهذه الأخيرة مقررة للأولى، فقد قالوا ذلك بالفعل بعدما نزلت، ولا حاجة إلى هذا.

    والذي ذهب إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري أن الآية ليست منسوخة، وتوجيهها كما علمت، ورجح هذا ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يفصح ابن القيم تلميذه.

    إذاً: لا بأس أيضاً أن تنزل آية ثم تنزل أخرى، والأولى تنسخ الثانية؛ لأن كتابتها يأذن جبريل فيها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول له: اكتب الآية الفلانية في الموضع الفلاني، وتنزل الآية وتبقى سنة وسنتين ثم تنزل الآية الأخرى وتكتب معها بعدها، إلى أن نزلت آخر آية من كتاب الله: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] هي آخر آية من كتاب الله، وآخر سورة نزلت هي سورة النصر.

    إذاً: نعود إلى السياق الكريم، وتهيئوا لتعملوا إن شاء الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً [البقرة:240]، يوصون لزوجاتهم، ويمتعونهن بهذا الوصية متاعاً، بحيث تبقى المرأة مع أولادها، أو أولاد زوجها من زوجة أخرى، أو مع أبيه حتى تكمل أربعة أشهر وعشر ليال، ولا تخرج أبداً من البيت إلا لضرورة، ولا تبيت إلا في بيتها؛ مراعاة لمصيبة أهلها، هم حزينون متألمون، وهي تخرج وتتعرض للزواج؟! لا يتلاقى هذا أبداً مع المروآت والكمالات، وإنما تمكث أربعة أشهر وعشر ليال وهي في بيت زوجها مع أولادها إن كان له أولاد، فإن انتهت الأربعة أشهر والعشر فلا بأس بأن تكتحل، أن تتجمل، أن تقبل من يخطبها للزواج.

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240]، لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهذا التبيين أثره، فالله تعالى عزيز قوي، لا يمانع في شيء يريده، حكيم يضع كل شيء في موضعه.

    إذاً قوله تعالى: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ [البقرة:240]، أي: إلى العام، غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، أي: لا تخرجوهن، فإذا انتهت السنة فإن شئتم أخرجتموها، وإن شاءت خرجت هي.

    معنى قوله تعالى: (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف)

    فَإِنْ خَرَجْنَ [البقرة:240] أثناء المدة؛ فلا حرج، إن خرجت فيها المرأة فلا بأس، لكن من الإحسان إلى هذه المؤمنة أن تبقوها في بيتكم لتكمل السنة وتخرج إن شاءت، فإن أرادت أن تخرج بعد نهاية العدة التي هي أربعة أشهر وعشر ليال فلها ذلك، فقد أذن لها سيدها: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ [البقرة:240] من التجمل، والتحسين، والتعرض للخطاب للتزوج.

    وقوله: فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة:240]، هذا القيد دائم، أذن لها في أن تتحسن، وتتزين، لكن في حدود معقولة، لا تخرج إلى الشوارع وهي متطيبة لتفتن الناس، بل بالمعروف، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:240].

    فهذه الآية الأولى اعلموا أن القول الراجح فيها أنها ليست منسوخة، لا بآيات المواريث ولا بالآية التي تقدمت، وإنما هي محكمة.

    إرشاد الآية الكريمة إلى الإحسان بين المؤمنين

    وما فائدتها؟ الإحسان بين المؤمنين والمؤمنات، لا أن تنتهي أربعة أشهر وعشر فيقال لها: اخرجي عنا، نريد أن نؤجر الغرفة، فهنا الإرشاد: أعطوها فرصة أخرى، هذه أمكم، هذه امرأة أبيكم، امرأة أخيكم، امرأة عمكم، أعطوها فرصة حتى تكمل سنة وهي تتناول الطعام والشراب معكم، فإن تمت السنة فمع السلامة إذا أرادت أن تخرج، وإن هي رغبت بأن تخرج قبل السنة فالباب مفتوح حيث أذن لها سيدها، فإن خرجن فلا جناح، لا إثم ولا حرج.

    ومعنى هذا: إذا أوشك الفحل أن يموت فإنه يوصي أبناءه أو إخوانه: فلانة أتركوها معكم سنة، لا تزعجوها، وإذا أرادت أن تخرج فلتخرج، فهل هذا يتنافى مع الأدب؟ مع العلم؟ مع الرحمة؟ مع الحكمة؟ هذا مظهر من مظاهر الدعوة الإسلامية ومنهجها السليم.

    واسمعوا الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] في الأربعة الأشهر والعشر الليالي، هذه فريضة واجبة من أنكرها كفر، ومن أهملها يؤدب حتى يتوب، لكن في الزيادة على أربعة أشهر وعشر ليال، أراد الله تعالى للمؤمنين أن يعيشوا على المعروف والإحسان، إذ قد توجد امرأة غريبة، جاءت من ديار بعيدة فمات زوجها وما عندها أولاد، فيقول إخوان الزوج أو أعمامه: عودي إلى بلادك، فهنا يقول الهدي القرآني: ارحموها، لتجلس سبعة أشهر أخرى وعشرين ليلة حتى يفرج الله عنها، فإن أكملت السنة فلكم ذلك، وقبله تأكل وتشرب معكم، أما كانت مع أخيكم أو أبيكم؟ فلم تطردونها إذاً؟ وإن هي آثرت ورغبت في الخروج فلا بأس، فالآية -إذاً- محكمة، وأدت فضيلة عظيمة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088538583

    عدد مرات الحفظ

    777203717