وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) ، اللهم حقق رجاءنا يا ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.
وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات الثلاث:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:272-274].
أين هؤلاء؟ لقد مضوا، فهل حلف الزمان أن لا يأتين بمثلهم؟
الجواب: لا، بل يوجدون إن شاء الله تعالى، فهيا نتدارس هذه الآيات الطيبات المباركات.
من القائل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]؟ الله. ومن المخاطب بهذا الكلام؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل أمته معه؟ إي وربّ الكعبة.
فقد كان يوجد من اليهود ممن بينهم وبين أهل المدينة أرحام ومصاهرة ومصادقة، ويوجد أيضاً من المشركين أقارب للمؤمنين، وحسبنا أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما جاءتها أمها من مكة وهي مشركة، وكانت ترغب في أن تساعدها ابنتها أسماء، فاستشارت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ( صلي أمك ) فأعطتها ما شاء الله أن تعطيها، فلما تحرج المسلمون من الصدقة على الكفار من يهود أو من مشركين من إخوانهم وأقاربهم أنزل الله هذا البيان الشافي: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] أيها المتصدق، كونك لا تتصدق إلا على مؤمن ولا تتصدق على فقير كافر كتابياً أو غير كتابي؛ فالهداية بيد الله ليست بيدك.
إذاً: فأذن لنا أن نتصدق على فقراء الكفار الذين يسكنون معنا ونشاهد فقرهم وحاجتهم، ونحن في غنى عما نعطيهم إياه، والأمر كما علمتم لم ينسخ، يجوز للمؤمن والمؤمنة أن يتصدق على المشرك إذا كان فقيراً محتاجاً إلى سد حاجته، وأما هدايته فبيد الله، ليس لك أنت حتى تمنع الصدقة عنه.
أعيد واحفظوا وبلغوا: أن الزكاة الواجبة على المؤمن لا يصح أن يخرج منها للفقراء والمساكين الكافرين، لماذا؟ لأن هذا حق للفقراء والمساكين المسلمين، فمن أين لك أن تتصرف فيه أنت، ما هو مالك ، وجب هذا القدر من المال في مالك الصامت أو الناطق، فليس من حقك أن تعطيه من تشاء، هذا بين الله تعالى مصارفه الثمانية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، على أن يكون هؤلاء مؤمنين وليسوا بكافرين، واختلف في صدقة الفطر، زكاة الفطر، فمن رأى أنها فرض واجب منع أن تعطى لفقراء اليهود والنصارى والكافرين، ومن رأى أنها ليست بفرض كأبي حنيفة فإنه يقول: يجوز أن تعطى للفقراء أهل الكتاب وغيرهم.
وحديث ابن عمر في الموطأ: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ..)، الحديث، فكلمة (فرض) توقف الإنسان عند حده.
إذاً: عرفنا أنه يجوز التصدق على الفقراء والمساكين الكافرين، إي والله، وهذه الآية هي الدليل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، من شاء الله هدايته هداه، أنت لا تستطيع أن تهديه، كأن تقول له: اسمع: إن تسلم الآن وتدخل في الإسلام فسأكسوك، سأشتري لك بغلة أو سيارة، ليس هذا لك.
هذا القول قلناه مرات، وهو إن شاء الله من الصواب بمكان، أما في المملكة فالذي يقول: إن ابني ما يصلي أو امرأتي؛ نقول: يجب أن تبلغ الهيئة، وحرام أن تسكت، فضلاً عن أن تعطيهم الزكاة أو لا تعطي، يجب أن يصلوا، لكن البلاد التي ما فيها حكم إسلامي ما يستجيبون لك، تبلغ بهم الشرطة فيقولون: اذهب، وما يستمعون لك.
دائماً أنبه على أن الذي يرغب في الهداية ويطلبها ويطرح بين يدي الله، ويبكي بين يديه يسأله؛ لا يحرمه الله الهداية، الذي يقرع باب الله: ربّ تب عليّ، رب ارحمني، رب اهدني؛ هذا الذي يهديه الله، أما المعرض الذي يعطي دبره ولا يلتفت إلى الله ولا يسأله ولا يرغب في الهداية فلن يهتدي، وهذا البيان نافع بإذن الله، فالذي يقبل على الله ويسأل الهداية ويطلبها كسلمان الفارسي تنقل كذا سنة يبحث عن الدين الإسلامي من فارس إلى الشام حتى وصل المدينة، وانتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فأسلم.
فالذي يقرع باب الله: يا ربّ تب عليّ، يا رب ارحمني، يا رب اهدني، هذا يشاء الله هدايته، وحاشا لله أن تطلبه ويردك عن الهداية، ومن أعرض أعرضَ الله عنه، هكذا نفهم مشيئة الله في باب الهداية.
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] هدايته، فإذا شاء هدايته جعله يطلب الهداية ويقرع أبوابها، ويسأل عنها.
وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة:272] مطلق خير، طعام أو شراب أو غيره، فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272]، أنتم الذين تستفيدونه، وتدخرونه، ويسجل لكم عند الله، وتحاسبون به وتجزونه، لا تفهم أنك إذا أعطيت لكافر لا تثاب عليه، بل ثوابك كامل، أنت ما أعطيت إلا لنفسك، هذا الواقع: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272]، فإذا تصدقت على فقير أو مسكين فلا تفهم أنه الذي انتفع، أنت الذي انتفعت، هو يأكل وتنتهي، أما أنت فتسجل لك وتضاعف حسناتك بها ويزاد فيها، هذا إخبار الله تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272] لا لأولئك الفقراء ولا المساكين، لأنفسكم أنتم.
إذاً: الصدقة الواجبة أو صدقة التطوع يجب أن يكون المراد بها: طلب رضا الله عنك، أما إذا التفت في صدقتك أدنى التفات إلى غير الله فقد بطلت ولو كانت قناطير، هذا تعليم الله، فهل استفاد منه المؤمنون؟
الذين عرفوا استفادوا، ينفق النفقة ولا يريد أن يسمع به أحد، أو يطلع عليه أحد، لا يريد إلا أن يرضى الله عنه: وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة:272]، الماء، الطعام، الشراب، اللباس، قل ما شئت في كلمة خير، حتى الكلمة الطيبة: ( والكلمة الطيبة صدقة )، الابتسامة في وجه الفقير صدقة، إذاً: كلمة (خير) منكرة لتشمل كل ما ينفع: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ [البقرة:272] كاملاً الحسنة بعشر يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ [البقرة:272] والحال أنكم لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272] جراماً واحداً، ولا حسنة، لو أنفقت ملياراً فلا تخف أن تحرم ثواب درهم واحد، لا يظلم الله عبده بأن ينقص من حسناته أبداً، ما دام قد أنفق لله لا لغيره فالله عز وجل لا يبخسه شيئاً مما أنفق.
هذا واضح الدلالة: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [البقرة:272]، والحال أنكم لا تظلمون بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة، عدالة الله عز وجل اقتضت هذا، لا تفهم أنه يزاد عليك سيئة ما فعلتها، أو ينقص من حسناتك حسنة وأنت ما تريد نقصانها؛ لأن الله حرم الظلم على نفسه: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، فهذا مما حملته الآية الأولى من النور.
والصدقة الواجبة -الزكاة- هل تعطى للفقراء والمساكين من الكافرين؟ لا، لماذا؟ لأن هذا حق للفقراء المسلمين في ذمتك، فكيف تعطيه لغيرهم، من أين لك؟ لا بد أن يعطى لأهله وهم إن شاءوا تصدقوا.
والهداية بيد الله، من هو الذي يشاء الله هدايته؟
الذي يتعرض لها، يرغب، يطلب، يجري وراءها، أما المعرض فقد أعرض الله عنه.
وعرفنا: أن ما ننفقه من خير على الفقراء والمساكين لا تفهم منه أنك أنفقت عليهم، بل أنفقت على نفسك، فهو لك أنت، هو يأكل ويشرب ويبول ويتغوط، وأنت أخذت الأجور وسجلت الحسنات في ديوانك، إذاً: أنفقت لنفسك أنت: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ [البقرة:272].
وهنا تنبيه آخر: لا بد عند الإنفاق وعند الصدقة ألا تلتفت أبداً إلى غير الله، لا تريد بريالك ولا درهمك إلا وجه الله، فإن أنت التفت لتحمد أو يثنى عليك أو تدفع عن نفسك المذمة والعيب والعار بطل مفعول صدتك بالتزكية والتطهير؛ لأن هذه العبادات -كما علمتم وزادكم الله علماً- سرها أنها تزكي النفس البشرية، فإن كانت فاسدة فكيف تزكي؟ فلا بد أن تكون صالحة.
فلو صليت صلاة ما أتممتها وما أديت شروطها فهي باطلة، ما معنى باطلة؟ ما تولد الطاقة ولا تزكي، والصيام كذلك، والجهاد كذلك، والصدقة كذلك، وصدقة ما أردت بها وجه الله بطل مفعولها، لن تنتج في نفسك طهارة أبداً.
وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [البقرة:272]، هذا وعد الله، ما أنفق مؤمن خيراً إلا وفاه الله إياه، وما بخسه جراماً واحد من قناطيره: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
وقد كان هناك مكان يقال له: الصفة، في مكان دكة الأغوات الآن، مكان عريض لاصق بالمسجد، لكن منفصل عنه، يجلس فيه المهاجرون الذين جاءوا من مكة، أو جاءوا من الطائف أو جاءوا من جدة، هربوا من الكافرين ولحقوا بالمسلمين، هؤلاء لا يستطيعون أن يخرجوا من المدينة للتجارة ولا للعمل، البلاد كلها ضد المسلمين من شرق وغرب، وليس عندهم في المدينة ما يقومون به من أعمال، فهم محصورون، ما سبب إحصارهم؟ في سبيل الله، فروا بدينهم، هربوا من بلاد الكفر والتعذيب والضغط إلى بلد يأمنون فيه، هؤلاء قد يكونون في بلادهم أغنياء، عندهم أموال، لكنهم الآن محصورون، ما يستطيعون أن يعودوا إلى بلادهم أبداً فسيقتلون، هؤلاء رغب الله تعالى المؤمنين في الإنفاق عليهم: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273]، ما قتلوا وما جنوا وما ظلموا وهربوا إليكم، هؤلاء ما هربوا إلا من أجل الله عز وجل، لينصروا رسوله ودينه، أحصروا في سبيل الله، فإيمانهم.. تقواهم هو الذي جعل العدو يحاربهم ويضطهدهم ويخرجهم من بلادهم.
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273]، الضرب في الأرض ما هو هذا؟ يعني: يمشي برجليه ويضرب بالأرض، فالمسافر يضرب في الأرض، كم ضربة يضرب على وجهها؟ آلافاً، كل مرة يرفع رجله ويضعها على وجه الأرض، فهذا ضرب أم لا؟ وإذا كان على فرس أو سيارة فإنه يضرب الأرض، ولهذا أطلق على السير في الأرض بالسفر أنه ضرب الأرض، أو ضرب في الأرض، وهذا شائع عندهم في لغتهم.
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [البقرة:273]، أي: لا يستطيعون مشياً، لا يشرقون ولا يغربون؛ لأن الكفار محاصرون الإسلام وأهله في المدينة، من أين لهم أن يسافروا إلى الشام أو إلى العراق أو إلى كذا؟ ما يستطيعون.
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273]، بسبب التعفف.
عجب هذا القرآن! لا إله إلا الله، لا يسألون الناس إلحافاً ولا إلحاحاً ولا إحفاءً، الإلحاح معروف، يلح عليه: من فضلك أعطنا كذا أعطنا كذا، هذا الإلحاح، والإحفاء يتعبك أكثر، فلا إلحاح ولا إلحاف ولا إحفاء، لا يسألون الناس ملحين ولا ملحفين ولا محفين ولا غير ذلك، فقد يمضي عليه اليوم والليلة وما أكل ولا شرب ولا يقول: أعطني، لكمالاتهم.
وفي مرة ماذا صنع؟ مر به أبو بكر فقال: يا أبا بكر ! ما معنى قوله تعالى كذا وكذا؟ وإنما سأله لعله يقول: تعال إلى البيت عندنا، فما التفت إليه أبو بكر ، فجاء عمر فقال: يا عمر ! ما المراد من كذا وكذا؟ قال: والله! ما أريد أن أعرف قط، وإنما لألفت نظرهم إليّ، فما التفت إليه، ثم جاء أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وما إن نظر إليه وتفرس في حاله حتى عرفه بسيماه، فقال: أبا هريرة ! امش ورائي، قال: فمشيت وراءه.
وهنا نعرف أننا ما نحن بشيء، ولا نعد شيئاً أبداً، فدخل مع رسول الله إلى حجرته فجلس، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: هل عندكم شيء؟ قالوا: أهدانا فلان لبناً، لا تمر، ولا زبدة ولا خبز.
أحد الأنصار أهدانا قدح لبن، فقال: هاتوه، ثم قال: أبا هريرة ! أخرج فادع أهل الصفة، فقال في نفسه: ماذا سنشرب الآن؟ وكانوا ثلاثين رجلاً، فناولهم أبو هريرة القدح واحداً واحدًا، يقال للأول: سمّ الله واشرب، فيشرب ويشرب، فيقول: أعطه الثاني، سم الله واشرب.. حتى دار على ثلاثين رجلاً، ثم قال: أبا هريرة ! اشرب. قال: فشربت فقال: اشرب فشربت، ثم قال: اشرب. فقلت: لم يبقَ له مسلك يا رسول الله!
ولما اتسعت الحال ورزقهم الله وفتح عليهم بعث لها معاوية رضي الله عنه خليفة المسلمين بكذا ألف درهم فضة، وكانت صائمة، فقالت لمولاتها: وزعيه، فظلت تلك المولاة كالديدبان من بيت إلى بيت توزع الدراهم، وجاء الليل وأذن المغرب فقدمت لها خبزاً بلا مرق، فقالت: يا فلانة! لو اشتريت لنا بدرهم زيتاً نأكل به الخبز! فأين نحن من هؤلاء؟ ولا نحمد الله ولا نثني عليه، ولا نبكي بين يديه، فلا إله إلا الله! إننا هابطون وكنا في علياء السماء نسامي الملائكة، فهبطنا إلى الأرض كالحيوانات نأكل ونشرب ونلبس ونركب ونطير في السماء، وقلّ منا من يقول: الحمد لله في صدق.
ونسرق ونفجر، ونأكل الربا ونكذب ونغش ونخدع ونمنع الحقوق، ونمنع حتى الزكاة، فكيف نحن؟
سِيمَاهُمْ [الفتح:29] من السيما إن كنت من ذوي البصائر، إذا نظرت إلى أخيك وهو جائع أو عطشان فإنك تستطيع أن تتفرس فيه ذلك، كالطبيب ينظر فيشخص ويعرف المرض، فذو البصيرة إذا نظر إلى المؤمن يعرف أنه محتاج، هذه علامات خاصة: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273] ولا غير إلحاف، لا يلحون ولا يسألون.
وهنا أفتى الإمام أحمد وغيره أنه يجوز للمؤمن إذا لم يتغدّ وجاع، أو لم يتعش وجاع، له أن يقول: أي فلان! ما تغديت، فيعطيه قرص عيش، أو حفنة تمر، أو يقول: فلان! ما تعشيت، أو مضى عليّ يوم ما أكلت، فلا بأس، إن كان صادقاً يجوز هذا لإحياء نفسه، والإبقاء على عبادة الله عز وجل، أما أن يطلب ليدخر ويوفر فلا، لا يحل هذا.
فالمؤمن مطمئن النفس هادئ البال، إذا أخرج درهمه أو قرصه فهو مطمئن إلى أن الله عرفه وعلمه وهو الذي أعانه على ذلك وأنفقه ويثيبه عليه، سبحان الله!
هذا القرآن إذا لم ندرسه هذه الدراسة في العالم الإسلامي ونعيش عليه فهل سنكمل؟ والله! ما نكمل.
طريق كمالنا أغلقناه، انصرفنا عنه، كيف بشخص عاش أربعين سنة ما سمع هذا الكلام، كيف يتعلم، كيف يكون وفياً طاهراً نقياً يحسن إذا أعطى، ويحسن إذا أخذ؟ مستحيل، فهيا نتعلم، كم ليلة بكينا، هيا بنا نتعلم.
وقد تقول: يا شيخ! مدارسنا الآن بالملايين، أصغر بلد فيه الجامعات والمدارس، فأي تعليم تنادي به أنت؟
أقول: أين آثار ذلك العلم؟ أين مظاهره في الآداب والأخلاق، في العدل والرحمة، في الصدق والوفاء في الطهر والصفاء، أين آثار ذلك العلم؟ وجوده كعدمه، لِم؟ لأنه ما أريد به وجه الله، فلن يثمر، أريد به الدنيا، حتى البنت يقال لها: تعلمي يا بنت لمستقبلك! هذه البنت مستقبلها مضمون بإذن الله، ما دامت في حجر أبيها فهو الكفيل، وزوجها هو الكفيل لها، فإن ولدت فأولادها الضامنون، أي مستقبل يا بابا!
هل يبعث بها لتتعلم كيف تعبد الله، كيف تستحي، كيف تطيع زوجها، كيف تربي أولادها؟ لا، بل للمستقبل، للوظيفة! وزاحم النساء الرجال في الوظيفة، فلا إله إلا الله، ماذا أصابنا؟ الجهل، فهيا بنا لنزيل هذا الجهل، هل نحتاج إلى مليارات الدولارات؟ لا، والله ولا ريال واحد، كيف الطريق؟
اسمعوا: كتبنا هذا وأعلناه وصحنا به وضحكوا علينا وسخروا منا، واستهزءوا بنا، وحسبنا الله، ولن نترك هذا، ما هو الطريق إلى أن يتعلم المسلمون ليكملوا، ويسعدوا يطيبوا ويطهروا، وتتحقق ولاية الله لهم، فينتفي من بينهم الحسد والغل والغش، والكفر والبدع والضلال؟ هل الطريق أن نقتدي باليهود والنصارى؟
الطريق إذا دقت السادسة مساءً، أي: مالت الشمس إلى الغروب؛ نوقف العمل، كاليهود والنصارى، أغلق الدكان، أغلق المقهى، أغلق المطعم، ارم المسحاة من يدك يا فلاح، ارم القلم يا كاتب، ارم المرزبة يا حداد، يا صانع، اغتسلوا، تطهروا، توضئوا، واحملوا بناتكم وأولادكم ونساءكم إلى بيوت ربكم فقط، فما يؤذن للمغرب إلا والقرية ما يوجد فيها رجل ولا امرأة ولا ولد خارج المسجد، والأحياء في المدن، حي بني فلان، الحي الفلاني رقم (6) أو رقم (10) إذا أذن المغرب لا تجد في الحي رجلاً ولا امرأة في الشارع ولا في البيت، كلهم في بيت الرب، فهل هذا شرف أو لا؟ في الرب يصلون المغرب كما صلينا، ويجلسون كما نحن جالسون، النساء وراء الستارة، ومكبرات الصوت بينهن، والأولاد بيننا، ونحن نتعلم الكتاب والحكمة كتعلمنا هذا، وكل ليلة وطول العام، وعلى مدى حياتنا، فهل يبقى والحال هكذا جاهل أو جاهلة؟ والله! ما يبقى، لا نكتب ولا نقرأ، كما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، نتلقى الكتاب والحكمة بأسماعنا، ونتفاعل في نفوسنا، ونحوله إلى آيات النور والهداية بيننا، فهل هذا يكلف المسلمين شيئاً؟
وأما عوائده فوالله! فوق ما تتصور، أقسم بالله: إن ميزانية الدولة سيكتفى بنصفها إذا أقبلنا على الله، وينتهي الفقر والخلف والكبر والكذب والغش والخداع، والتكالب على الدنيا، ونصبح أشباه الملائكة في الأرض، تسودنا الرحمة والصفاء والمودة والإخاء والحب والطهر والصفاء، فما المانع أن نفعل هذا؟ لا ندري.
اليهود والنصارى ما يقبلون قطعاً، ولو يشاهدون هذه الأنوار فإنهم ما يطيقون، لكن دائماً نمد أعناقنا لهم ليذبحونا، فهل عرفتم كيف يزول الجهل، فهل هناك غير هذه الطريق؟ كلا.
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، والمقصود: أنهم ينفقون دائماً، ما ينتظرون إلى العام الفلاني والشهر الفلاني وكذا، أو حتى يطلع النهار، أو حتى يجيء الليل، هذه حالهم، صدقة بالليل والنهار سراً وعلانية حسب الحاجة، هؤلاء يقول تعالى عنهم: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، نفى الخوف عنهم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، ونفى الحزن عنهم كذلك، أهل هذا الإيمان وهذا الطهر هل يحزنون؟ هل كان أبو هريرة حزيناً؟ والله! ما كان حزيناً أبداً، جاء يتألم وقلبه منفتح، وهو ينتظر رحمة الله، هذا وعد الله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، على من ينفقونها؟ على الفقراء والمساكين كافرين ومؤمنين، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]، والله! لا يخافون كما يخاف غيرهم، ولا يحزنون كما يحزن غيرهم، لصلتهم بالله، وولايتهم المتأكدة لله، فهم في ذلك دائماً مطمئنون، لا يخافون ولا يحزنون عندما يخاف غيرهم ويحزن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر