إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (14)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مظاهر علم الله وحكمته الموجبة لعبادته سبحانه وحده أنه خلق آدم، وجعله خليفة في الأرض، وقد استفهم الملائكة ربهم عن جدوى كونهم أكرم المخلوقات، فهم يسبحون الله ويقدسونه، بخلاف هذا المخلوق وذريته الذين سيفسدون في الأرض لكن الله سبحانه أظهر لهم شرف آدم بأن عرض المسميات وسألهم عنها، فعجزوا وأجاب آدم، فعاتبهم ربهم بأنه يعلم الغيب كله، فكيف يستغربون حكمه.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.

    من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء. وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:30-33].. إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    حقيقة أنه لا إله إلا الله

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هنا في هذا السياق الكريم تتأكد حقيقة أنه لا إله إلا الله، فلا كفر ولا شرك ولا نفاق، إذ تلك المعبودات أوهام باطلة، لا تستحق أن تعبد أبداً بحال من الأحوال.

    وهاهنا تتجلى مظاهر الربوبية والألوهية الإلهية، وتتجلى مقتضيات عبادته؛ وهي القدرة التي لا يعجزها شيء، والعلم الذي أحاط بكل شيء، والحكمة التي لا يخلو منها شيء، والرحمة التي تتجلى في كل المخلوقات، فهذا الذي يستحق أن يعبد، وهذا الذي ينبغي أن يحب، وأن يبجل، ويرجى، ويعظم، أما من عداه من تلك الآلهة المزعومة المدعاة فعبادتها باطلة، وأهلها مبطلون.

    وها هي ذي آيات الله تبين لنا عظمة ربنا عز وجل، وعلمه، وقدرته، ورحمته، وحكمته، وتقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله، فلولا أنه غير رسول الله فمن أين له أن يأتي بهذه العلوم والمعارف؟ وكيف تأتيه؟! فهي علوم لا تتلقى إلا من طريق السماء، وليست هي علوم كونية في الأرض أو في السماء، هذه علوم إلهية، ولولا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء بهذا العلم الإلهي.

    خطاب الله تبارك وتعالى للملائكة

    يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أي: اذكر يا رسولنا لهؤلاء المنافقين والمشركين، والكافرين، والمرتابين، والفاسقين، والمفسدين؛ إذ الكل يشملهم الضياع والخسران، وقل لهم، واذكر لهم.

    وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ جل جلاله وعظم سلطانه، (ربك) أي: خالقك، ورازقك، ومدبر أمرك، والموحي إليك، والذي نبأك وأرسلك، وفي هذا تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلاء لمكانته، إذ يتكلم عن الله بما علمه الله.

    وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ وقد عرفنا من هم الملائكة؟ هم عالم مادة خلقه وتركيبه النور، وهذا العالم لا يحصي عدد أفراده إلا الله، وحسبنا ما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر أو موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد )،وقد عرفنا أن كل آدمي معه عشرة ملائكة.

    هذا العالم الأطهر الله عز وجل يقول لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً يريد أن يعلمنا أسلوب السؤال والجواب، إذ هما طريقتا العلم والحصول عليه، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يورد الأسئلة على أصحابه ثم يجيبهم، فطريق السؤال والجواب للحصول على علم طريقة رحمانية ربانية.

    خلافة الإنسان في الأرض

    وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ماذا قال لهم؟ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً أية أرض هذه؟ هذه الأرض قبل أن يعمرها بنو آدم، إذ علمنا أنها أعدت إعداداً خاصاً للحياة فيها، وأنها مخلوقة مع السماوات .. قبل السماوات أو بعدها كما علمتم، وهذا لا يهمنا، فقط يهمنا أنها أعدت إعداداً خاصاً ليحيا عليها هذا الإنسان، فهي دار ضيافة ونزل من أجل ابن آدم.

    إذاً: هذه الأرض هي المقصودة بقول ربنا تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ المعروفة المعهودة لهم.

    خَلِيفَةً خليفة يخلف من؟ لأهل العلم طريقان نسلكهما معاً، ولا منافاة؛ لأن القرآن حمال وجوه.

    الطريقة الأولى: هي أن الجن سكنوا هذه الأرض قبل بني آدم، امتحنهم الله فأسكنهم هذه الأرض، فلما سكنوها ما كان منهم إلا الحروب والفتن، وسفك الدماء، والجرائم المتنوعة المتعددة، وهذا يشهد له قوله تعالى: يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، قالوا هذا لعلمهم السابق بما حصل من عالم الجن وأنهم أفسدوا في الأرض بالمعاصي، وارتكاب المحرمات، وإضاعة الواجبات، كما هو الفساد المعروف، وبسفك الدماء بقتال بعضهم بعضاً، وهذا ورد، وأن الله أرسل مع إبليس قبل أن يبلس جيشاً من الملائكة قاتلوا معه، وأجلاهم من الأرض.

    فلما علمت الملائكة هذا وسألهم الله مختبراً لهم ومستشيراً، وليس في حاجة إلى أن يستشير، ولكن من باب التعليم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا [البقرة:30] أي: بارتكاب المعاصي. وعرفنا الفساد في الأرض بم يكون؟ بالكذب، بالخيانة، بالغش، بالخداع، بالفجور، بأكل الربا، بسفك الدماء، هذا هو الفساد في الأرض دائماً وأبداً.

    فقالوا هذا لما علموا مما وقع من ذلك العالم عالم الجن بامتحان من الله وتدبير.

    هذه طريقة، ولا بأس بها، وهي مروية عن الصحابة أيضاً.

    والطريقة الثانية: أنهم تفرسوا، والعلم يكون أيضاً علم فراسة، شاهدوا هذا المخلوق وهو طينة، ونظروا إليه، وعرفوا أن هذا النوع ينتج عنه الفساد وسفك الدماء، وهذا من باب الفراسة.

    ومن الجائز أن يكون الله تعالى أعلمهم، ثم لما علموا ما أعلمهم جاء دور الامتحان والسؤال والجواب، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] فكان رد الله تبارك وتعالى عليهم أن قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]. فما دمت أعلم وما تعلمون فأنا فاعل وخالق ما أريد، وأنتم لا علم لكم، بحسب ما عندكم قلتم كلمتكم، وأنا أعلم ما لا تعلمون.

    أهمية وجود خليفة في حياة الناس على هذه الأرض

    موضوع (خليفة) تكلم فيه أهل العلم وبإيجاز، فقالوا:

    أولاً: خليفة لأن الجن الذين سكنوا في الأرض أجلوا منها وهلكوا، فإذا نزل آدم إلى الأرض مع ذريته أصبح خليفة لمن سبق، وهذا معقول ومقبول، خليفة لمن سبق أن نزل الأرض، وحصل الذي حصل، وأجلوا منها إلى الجزر.

    ثانياً: خليفة عن الله في إجراء أحكامه بين خلقه، فالله شرع قطع يد السارق، ورجم الزاني، وقتل القاتل، ومن ينفذ هذا؟ لابد من خليفة، يخلف في ذلك، ولا حرج أبداً.

    وهنا مما ينبغي أن يعلم أنه لابد للبشرية من خليفة، فهذا فرض، أما نحن المسلمين فالإجماع على أنه لابد من خليفة يحكم المسلمين بشرع الله، ولا يحل أبداً أن يعيش المسلمون على الفوضى، بل لابد من خليفة، وتجب طاعته، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، إلا أن هذا الخليفة لابد وأن يكون من مستويات عالية، فلا يكون صعلوكاً من صعاليك الناس، ولا مجهول النسب، ولا أمياً وجاهلاً، ولا فاسقاً ولا فاجراًً، ولا كافراً ولا ساحراً، وهذا أمر مفروغ منه؛ بل يكون خلاصة ما عندنا من الصلحاء، والأطهار، والأصفياء.

    فإذا أراد أهل إقليم مبايعة حاكم لابد وأن تكون فيه صفات الكمال؛ لأنها أمانة لا توضع إلا في يد من هو أهل لها، وهذا أمر معلوم بالضرورة.

    ومتى كان الحاكم شريف النسب، معروف الأصل والحسب، ذا حياء وعلم ومعرفة، ييسر الله له الأمر، ويسود المسلمين بالهدى والخير.

    ودل على هذا: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فلا يحل للمسلمين أن يعيشوا بلا إمام يقودهم، ولا حاكم يحكمهم.

    وكونهم يختارون نعم. إلا إذا حاكم قهرهم وغلبهم وحكم، فبمجرد ما يستتب له الأمر وجبت طاعته والإذعان لأمره والمشي وراءه وجوباً؛ لأن الإسلام لا يسمح أن تراق دماء المسلمين، وأن تسلب أموالهم وتنتهك أعراضهم في الفوضى، لابد من حاكم، والآية صريحة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .

    سبب استفهام الملائكة ابتداء عن جعل خليفة في الأرض

    لم قالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]؟

    إما لما لاحظوه من علم سابق أعلمهم الله، وإما لما علموا من أهل الأرض الذين سكنوها وسفكوا الدماء وأفسدوا فيها. فهذا هو جوابهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ؟ فرد الله تعالى بقوله: قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

    وهنا يا معشر المستمعين والمستمعات! من سئل عما لا يعلم فليقل: الله أعلم. ما أبردها على الكبد كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فإذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، وذلك خير لك. إذ قال تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فرضوا بتدبير الله وحكمه وقضائه، وسكتوا، وفوضوا الأمر لله العليم الخبير.

    تسبيح الملائكة وتقديسهم لله تبارك وتعالى

    ثم قال تعالى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]؟ معنى (نسبح بحمدك) نقول: سبحان الله وبحمده، وهذا ورد يردده المؤمنون والمؤمنات إلى يوم القيامة، وهو قولك: سبحان الله وبحمده، وجاء في التبشير بهذا الورد أن من قالها مائة مرة حين يصبح وحين يمسي حط الله عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر! سبحان الله وبحمده.

    وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي: نقول: سبحان الله وبحمده، والملائكة طول الدهر وهم يسبحون بهذا التسبيح. ليل نهار.

    وقوله: وَنُقَدِّسُ لَكَ الأصل: ونقدسك، والتقديس: التنزيه والتطهير عما لا يليق، وزيدت اللام لتقوية الكلام، إذ زيادة المبنى تزيد في المعنى في لسان هذه الأمة؛ اللسان العربي.

    وسبحه: نزهه عما لا يليق به من الشرك، وقدسه في ذاته بحيث تبعد عنه كل ما يعرف بنقص، فالتسبيح كالتقديس، إلا أن التقديس يتعلق بذات الله عز وجل، والتسبيح يتعلق بصفاته وما له من حقوق، وهي عبادته وحده.

    وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ بمعنى: ما هناك حاجة إلى خلق هذا المخلوق وإنزاله في الأرض من أجل أن يعبدك، فنحن نسبح لك ونقدس، فهذا رأيهم، وهذا منتهى علمهم، فلا علم لهم، فقالوا قولتهم هذه، ولو فوضوا الأمر إلى الله لكان خيراً، ولكن هذا اجتهادهم، لما استشارهم سألهم: إني جاعل كذا، ليسمع منهم ما يرون وما يقولون، فلما أعلمهم قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ فأسكتهم. وسوف يبين لهم أيضاً مراده من خلق هذا المخلوق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088530148

    عدد مرات الحفظ

    777154439