إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (31)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنزل الله الكتب لتكون سراجاً منيراً للناس، وأعلاماً هادية لهم، وأملاً مشرقاً حين تدلهم الخطوب، وبدلاً من أن يعتصم بنو إسرائيل بكتابهم إذا بهم يعدون عليه تأويلاً وتحريفاً، زيادة ونقصاً، وهم في كل ذلك يحاولون إلصاقه بالوحي الإلهي، ولكن عبثاً يحاولون، فويل لهم، أما خشوا مكرهم أن يحيق بهم، وسيئتهم أن تهلكهم أم تراهم ركنوا إلى أمانيهم، وجهلوا أن الأماني لا تغني من الحق شيئاً.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة ومع آياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ * وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:78-81] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل .. عن اليهود الذين عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة، وقد علمنا الله الكثير من أحوالهم الظاهرة والباطنة، وما زال السياق فيهم.

    قوله جل وعز: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] هو كما أخبر؛ والله العظيم إن من اليهود لأميين لا يعلمون من الكتاب إلا مجرد القراءة فقط، وأما المعاني .. أما الفقه .. أما المعرفة فلا نصيب لهم في ذلك، وهذا ذم وتقبيح لحالهم، وها نحن أيضاً أصبحنا مثلهم، فالذين يقرءون القرآن بالملايين ولكنهم لا يعرفون منه شيئاً، بل مجرد قراءة فقط.

    ومن هنا نسلّي أنفسنا ونعزيها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )، ها نحن في تلك الورطة، فأكثر المسلمين من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً لا يعلمون من الكتاب إلا مجرد القراءة فقط، فلا يعرفون عقيدة، ولا أدباً، ولا خلقاً، ولا حلالاً، ولا حراماً، ولا جهاداً، ولا حرباً، ولا سلماً، مع أن القرآن يحوي ذلك كله، فما هو السبب؟ السبب أننا ما جلسنا في مجالس أهل العلم، ولا أصغينا لأهل العلم، ولا رغبنا في أن نتعلم، فاكتفينا بقراءة القرآن، فالكثيرون يحسنون القراءة، ولكن لا معرفة، ولا فهم، ولا بصيرة.

    فماذا ترجو منهم؟ أترجو أن يكونوا ربانيين وأولياء لله وهم لا يعرفون ما أحل الله ولا ما حرم الله، لا يعرفون ما يحب الله ولا ما يكره؟ هذا من جهة.

    ومن جهة أخرى -وقد علمتم-: أمَّا حالَ أعداء الدين بيننا وبين فهم كلام الله؟ أما وضعوا تلك القاعدة وهي: أن تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ، وخطؤه كفر؟ فحرموا المسلمين من أن يفسروا كلام الله، أو يتدبروه ويستخرجوا الهدى وأنوار الهداية منه، فأصبح القرآن يقرأ على الأموات، فمن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا يجتمع على القرآن إلا من أجل ميت يقرأ عليه.

    لما بعدنا عن الكتاب، وبعدنا عن السنة النبوية اكتفينا بمصنفات صنفها علماؤنا في مذاهبنا المتعددة، وأصبحنا لا نجتمع على سنة رسول الله وأحاديثه، وإذا تقدمنا نجتمع على السنة للبركة، فندرس صحيح البخاري للبركة، لا لمعرفة الآداب، والأحكام، والشرائع أبداً، بل للبركة، فما أصبح في القرية من يقول: قال الله، ولا من يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسادنا الجهل، وانتظمنا عدم المعرفة.

    ومن أراد أن يدلل، أو يبرهن، أو يجادل فنقول: لو كنا عالمين، ربانيين، أولياء للرحمن هل يسلط علينا الكفرة الفجرة، الفسقة، فيسوسوننا، ويحكموننا، ويسودوننا، ويفعلون ما يفعلون فينا، أيعقل هذا الكلام؟ ممكن يسلط الله أعداءه على أوليائه؟ هذه برهنة، وهذا دليل قطعي.

    وما زلنا نتهيأ أيضاً لمحنة أخرى؛ إذ انفجرت الثورات، واستقل العالم الإسلامي عن سيادة الكفر وحكمه، وقد عرفتم أن من ورث الحكم هم تلامذتهم، وخريجو كلياتهم وجامعاتهم، فكما قلنا: خرجوا من الباب، ودخلوا من النافذة، وإلى الآن ما بلغنا أن الإقليم الفلاني أصدر حكّامه أمراً بإقامة الصلاة إجبارياً على المدني والعسكري .. على الكبير والصغير، فلا ينبغي أن يوجد بيننا من يتهاون في الصلاة أو يضيعها أو لا يصلي، كيف ترون هذا؟ أصحيح أم باطل، أم لغتي بربرية لا تفهمونها؟

    نيف وأربعون دولة، ذات رايات، وجيوش، وطائرات، ما استطاعت دولة واحدة أن ترضي الله عز وجل بإقامة الصلاة؛ لأن الإنسان مخلوق للصلاة، والصلاة هي ذكر الله وشكره، فتلتقي مع ربك خمس مرات في مواعيد منتظمة على لباس خاص، في مكان خاص، خمس مرات، فهذه هي العبادة التي من أجلها خلق الإنسان، أما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؟ فهل أمروا بإقامة الصلاة؟ لا، إذاً ما هو الفرق؟!

    مع أن الله تعالى يعلمهم ويخبرهم أن إقامة الصلاة من شأنها أن تقلل الفاحشة في الديار، وأن تبعد المنكر عنهم إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فلو أقاموا الصلاة في قرية .. في مدينة تقل الجريمة قلة عجباً، ممكن لا يبقى (5 %) مما كان يرتكب في الأسبوع أو في الشهر.

    حقيقة ما يعاب على بني إسرائيل أصبح يعاب علينا ونحن أهله، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، إلا مجرد قراءة فقط، أو أمانٍ وظنون، لا يقين -أبداً- عندهم فيما أحل الله، ولا: فيما حرم، ولا فيما أوجب، ولا فيما نهى وترك.

    وهيا بنا نخرج من هذه الورطة، فنعتبر، كيف نعمل حتى لا يبقى في قريتنا رجل ولا امرأة إلا وهو يعلم ما في كتاب الله من حلال وحرام، وآداب وأخلاق، وشرائع عامة وخاصة؟

    قالوا: لا نستطيع. قلنا: كيف لا تستطيعون؟

    المخرج من فتنة المعاصي

    ما الحيلة يا شيخ؟ ما هو الطريق؟ ما السبيل؟

    أيها السامعون! الذين سئموا هذا الكلام، هذا الكلام لا يترك إلا إذا نفذ مراده، وطبق ما أريد به، وإلا حرام السكوت، ليس هناك وسيلة ولا سبيل يمكننا أن ننتقل به من هذه الورطة إلا أن نعود إلى بيوت الرب تعالى.

    وكيف العودة يا أبناء الإسلام؟ إنها كاجتماعكم هذا فأهل القرية ذات الثلاثة آلاف نسمة أو الألفين أو الألف أو أقل أو أكثر، يوسعون جامعهم حتى يتسع لكافة أفرادهم نساء ورجالاً، بالخشب والحطب، لا بالحديد، ولا بالإسمنت، ويجتمعون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، نساء وراء الستار، والأطفال أمامهن أو دونهن، والمربي بين يديهم، ليلة آية يقرءونها بصوت واحد، ويتغنون بها فتحفظ عن ظهر قلب، فيشرحها المربي ويبين مراد الله منها، ثم يضع أيديهم على المطلوب إن كان معتقداً اعتقدوه، وإن كان حراماً عرفوه وتخلو عنه، وإن كان أدباً تأدبوا به، وإن كان وإن كان .. والليلة الثانية بعدها: حديث من أحاديث نبيهم الصحيحة السليمة، وهكذا طوال العام! لا. طوال الحياة، وهل هذا يعتبر صعباً؟

    قلنا لهم: إن أعداءكم من أهل الملل الخاسرة الهابطة .. من أهل النار إذا غابت الشمس ذهبوا إلى الملاهي والمقاهي، والمقاصف، ودور السينما و.. و..، وأنتم لستم مثلهم، أنتم تريدون أن تنزلوا الملكوت الأعلى؟ تريدون أن تخلدوا في دار السلام؟ شأنكم غير شأنهم.

    إذاً: أنتم إذا غربت الشمس ذهبتم إلى بيوت ربكم، بنسائكم وأطفالكم، وما الذي يحدث لكم سوى أن تستنير قلوبكم، وتشرق بالزكاة نفوسكم، وتطهر أرواحكم، وتعلو آدابكم وأخلاقكم، وينعدم بينكم السوء، فلم يبق في القرية سوء، ولا باطل، ولا منكر، ولا جريمة، ولا قبح أبداً؛ لأنها سنن الله التي لا تتبدل، فالطعام يشبع .. الماء يروي .. النار تحرق .. الحديد يقطع .. العلم ينير القلب والسمع والبصر، فيمشي عبد الله في هداية الله، فلا يسرق .. لا يزني .. لا يكذب .. لا يغتاب، ولا ينمم .. لا يحسد .. لا يبغض.. لا لا، ولن تتخلف سنن الله.

    فهل نحن فاعلون؟

    يا شيخ! كيف نفعل؟ لو أن هناك كتاباً نبتدئ به.

    وجد كتاب: ( المسجد وبيت المسلم) وقد حوى ثلاثمائة وستين آية وحديثاً بمعدل السنة الكاملة.

    يا شيخ! وهل جربتموه؟

    درسناه هنا عاماً وثلث العام وحده، لنعلم الناس كيف يفعلون، لكن ولا حركة.. موت. كيف نخرج من هذه الفتن؟ ما نحن إلا نتهيأ لغضبة أخرى من غضب الرب، فإذا بنا في أسوأها وأقبحها. أنعجز عن هذا؟!

    إذاً وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [البقرة:78] ومنا، بل كلنا أميون إلا من ندر منا، اليهود كلهم على الأقل خمسة ملايين، ومئات الملايين من هذه الأمة، اليوم ومن أكثر من ستمائة سنة وهم لا يعرفون من الكتاب إلا قراءته، ولا يجتمعون عليه، ولا يقول المؤمن: قال الله أبداً، ولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وحصل الذي حصل، وتم الذي تم، وإن أردتم أن تفتحوا أعينكم فإخوانكم الآن في شرق أوروبا جمهوريات إسلامية كيف ابتلعتها الشيوعية؟ كيف أصبحوا ملاحدة؟ كيف تم هذا؟ لو كانوا عالمين ربانيين -والله- ما استطاع العدو أن يكفرهم أو يصبغهم بصبغة الباطل والشر.

    قلنا: يا جماعة! المسلمون يتنصرون، وجمعيات التنصير عاملة عملها، وتستغل بلاد الضعف والحاجة والفقر فتبني المساجد، وتبني المصحات والمستشفيات، وتوزع الدواء، والمسلمون يتنصرون بالآلاف .. بالملايين!

    ماذا نصنع؟ هيا نجمع المال، وهيا لنعمل مؤسسة الإغاثة، التي تحول بين الصليبيين وبين نشر الصليبية.

    وقلت وما زلت أقول: ليست قضية فقر أبداً ولا حاجة، القضية أنهم ما عرفوا الله، وما أحبوه، ولا رغبوا فيما عنده، ولا رهبوا ما لديه من عذاب، فأدنى كلمة تلقى في قلبه تجد محلها؛ فالقلب فارغ ليس فيه نور ولا هداية، فقد عاش هو وأمه وأبوه وجده قروناً ما عرفوا الله بأسمائه وصفاته، أميون؛ لا يعرفون الكتاب إلا أماني، فأدنى شبهة تلقى في قلوبهم يذعنون لها ويخضعون.

    وإن كنتم جادّين أيها المسلمون علّموهم، فإذا عرف وأصبح عالماً لو يمزق ويقطع .. لو يصلب لا يرتد عن دينه، ما هي قضية مال وطعام ولباس.

    إذاً: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] وهكذا عقائد المسلمين (95%) ما هي إلا ظنون، ليس هناك عقيدة راسخة تجري مع الدم، وملتحمة مع اللحم لا تتبدل، ولا تتغير أبداً، مهما كانت الأحوال؛ لأنه ليس هناك يقينيات، ومن أين يأتي اليقين؟ بالدراسة .. بالعلم بقال الله وقال رسوله، ما قال زيد أو قال فلان وفلان، سبحان الله العظيم! هذه الآية كأنها نزلت فينا اليوم لا في اليهود.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088524998

    عدد مرات الحفظ

    777127648