إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (32)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أسلوب القرآن أنه يجمع بين الترهيب والترغيب، فهو يهدد من كفر، ويحذره عاقبة جحوده، وأن النار هي مصيره، خالداً فيها مخلداً، وبالمقابل يرغب المؤمن بأن له جنة عرضها السماوات والأرض، خالداً مخلداً فيها أبداً، ولكن ذلك لا يكون إلا للمؤمن، الذي حقق الإيمان اعتقاداً وقولاً وعملاً، فلا يضره شك الشاكين، ولا يؤثر فيه جحد الجاحدين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة وآياتها المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها؛ سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا -والعلم ينفع- أن الإنس والجن -هذان العالَمان: عالم الإنس وعالم الجن- نسبتهم إلى الله أنه ربهم .. خالقهم .. مدبر حياتهم، فما هناك من يتعزز أو يترفع أو يتسامى بنسبة خاصة عنده إلى الله عز وجل، وفي الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب ). فالله عز وجل يُدخل دار السلام .. الجنة .. دار الأبرار مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لذلك، وطلبوه، وعملوا على الحصول عليه، سواء كانوا بيضاً أو سوداً، عرباً أو عجماً، أشرافاً أو أوضاعاً، إنساً أو جناً.

    ويدخل عالم الشقاء .. النار؛ دار البوار -أعاذنا الله وإياكم منها- مِن الإنس والجن مَن تهيئوا لها، وعملوا لها واستعدوا لدخولها.

    وها نحن مع أشرف الناس .. مع بني إسرائيل، حيث يقول تعالى لهم بعد ما أبطل دعاواهم ومزاعمهم وجهالاتهم: بَلَى [البقرة:81]، أي: ليس الأمر كما تزعمون أو تدَّعون أو تقولون: إننا لا نعذب بالنار إلا أياماً معدودة، فالقضية أن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة:81]، وكلمة (مَنْ): اسم موصول من ألفاظ العموم، يدخل فيه الذكر والأنثى، والعربي والعجمي، والشريف والوضيع.

    قال: مَنْ كَسَبَ أي: بنفسه، وقد علمتم سابقاً الكواسب والجوارح السبع التي بها نكتسب ونجترح. فالسيئة هي: كل قول أو عمل أو اعتقاد يحدث السوء في النفس بالظلمة والخبث والعفن والنتن. فذاك هو السوء، والواحدة سيئة.

    وقوله: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، أي: مع العلم بأنه يكون مريداً لا مكرهاً، مختاراً لا مغالَطاً، فمن كسب سيئة بعمده وإرادته فهذه هي السيئة التي تحدث له المساءة في نفسه، أما مع الإكراه فلا تكون سيئة.

    ومن كسب سيئة واحدة ثم توالت عليه السيئات واحدة بعد أخرى فقد أحاطت به، وقد مثل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الإحاطة عند قوله تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، إذ بين لنا أن العبد المكلف، العاقل، البالغ، المريد، المختار إذا اكتسب سيئة وقعت نكتة سوداء على قلبه، فإن تاب مسحت وصقلت كما تصقل الزجاجة، وإن هو لم يتب وزاد سيئة أخرى وقعت إلى جنب الأولى، وهكذا الثالثة، والرابعة، والخامسة حتى يغطى القلب، وذلكم هو الران الذي قال الله تعالى فيه: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، أي: يكسبونه بجوارجهم: بالسمع .. بالبصر .. باللسان .. باليد .. بالرجل .. بالبطن .. بالفرج.

    وهذا قضاء الله وحكمه، فلا تقل: أنا ابن الأنبياء .. أنا حفيد أو سليل الأشراف، فكل هذا لا قيمة له؛ إذ هذا الكلام وجهه الله تعالى رداً على مزاعم بني إسرائيل.

    وقال تعالى بعد ذلك: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، أي: أهلها الذين تصاحبهم ويصاحبونها أبداً، فلا مفارقة.

    وقد عرفتم أن نار الآخرة صورتها موجودة في النار التي نوقدها للطبخ والاستدفاء، فهي آية من آيات الله الدالة على النار التي هي عالم الشقاء، ومن غفل أو ما تبين كيف أن ذلك العالم كله جحيم .. كله نار فليرفع رأسه إلى الشمس، الكوكب النهاري المضيء، وليذكر ما قاله أهل العلم من أن كوكب الشمس أكبر من كوكب الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فالشمس نار ملتهبة، ومن شدة حرارتها تصل إلينا بالصورة التي تعرفون، ولو جمعنا الإنس والجن -وكنا نقدر على ذلك- ووضعناهم في الشمس فإنهم لا يسدون عشر ما في الشمس، ويبقى ذلك العالم.

    فهذه هي الأرض قد ملأتنا وملأناها، وحملتنا موزعين فيها، ولو بعث أسلافنا الذين ماتوا لوقفوا في الأرض ووسعتهم!

    فإذا كانت الشمس لو جمعنا لها البشرية والجن ما سددنا جزءاً منها فكيف بعد ذلك تسألني عن النار أو عن أي عالم آخر؟!

    وهذا العالم بكواكبه ونجومه وشمسه كله يتبخر، ويصبح سديماً وبخاراً كما كان، وأما الجنة فتكون في الأعلى، ويكون عالم الشقاء في الأسفل.

    قال تعالى: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ والجمع: خطيئات، وهذا تنويع: السيئة والخطيئة، فلما يخطئ تحدث المساءة.

    وقوله: فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فلم يبق ما يتعزز به المرء من نسب أو شرف أو قوة مالية أو بدنية أو .. أو .. لا، ما هو إلا حكم الله النافذ.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088534068

    عدد مرات الحفظ

    777179100