إسلام ويب

تفسير سورة البقرة (33)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا الله وحده، ولا يعبدوا معه غيره، وهذا البند هو أكثر ما أكد عليه القرآن، ومع هذا نجد كثيراً من المسلمين لا يحققونه، ولا أدلّ على ذلك من انتشار الأضرحة، ومظاهر التعبد لغير الله، أما البند الثاني من الميثاق فكان متعلقاً بالإحسان إلى الوالدين، وهذا معنى يشمل كل ما يسمى أحياناً بما في ذلك صلة أهل ودّهم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، ومع الآيات المباركات التي ما زلنا نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.

    قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة:81-83]، إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    تدسية النفس بكسب الخطايا والسيئات

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81-82]، هذا قضاء الله .. هذا حكم الله، وقد عرفنا -والحمد لله- الآية التي تحمل هذا الحكم الإلهي، وأصبح من الضروريات عندنا معشر أهل هذا الدرس! وهو قول الله تعالى بعد ذلكم الإقسام العظيم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت فإن نسبتك إلى الآباء والأمهات لا تغني عنك شيئاً، وما هو إلا أن تزكي نفسك فتنجو من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أو تدسيها فتذل، وتهون، وتخسر في الدنيا والآخرة.

    أعيد هذا الحكم وتأملوه، وأعيدوه، وتحدثوا به، وبلغوه اليهود والنصارى والمجوس والمشركين؛ إذ الكل عبيد لله، خلقهم ورزقهم، وإليه مصيرهم، أحبوا أم كرهوا، فتَجاهلهم لا يجدي ولا ينفعهم، فهم مخلوقون مربوبون، يجب أن يتعرفوا إلى خالقهم وربهم، وهذا حكمه فيهم بعد أن أقسم تعالى بأعظم إقسام: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، هذه تسعة أيمان، حتى أقسم بنفسه.

    لكن على ماذا أقسم؟ أقسم على هذا الحكم الذي لا ينقض بحال من الأحوال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه، فطهرها وطيبها حتى تكون كأرواح أهل الملكوت الأعلى صفاءً وطهراً، وَقَدْ خَابَ خسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].

    وكأنكم تسمعون رسول الله وهو ينادي: ( يا بني فلان! يا بني فلان! أنقذوا أنفسكم من النار )، حتى قال: ( يا فاطمة ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً ).

    والآية تبين لنا الآن ما تدسى وتزكى به النفس، فقال تعالى: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، تدست نفسه، وخبثت، وتلوثت فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81].

    إذاً: النفس تتدسى وتخبث بالسيئات، وبتلك الأقوال والأعمال والاعتقادات التي حرمها الله، وأودع فيها مادة الخبث، وما من عبد يفعلها إلا وتخبث نفسه، وخالق السم في العقرب والأفعى هو جاعل هذه التدسية في الكذبة يكذبها عبد الله.

    تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح

    بم تزكو النفس؟

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فبين لنا ما تزكو به النفس، وهو الإيمان والعمل الصالح.

    فسبحان الله العظيم! أبعد هذا نطلب مزيداً؟!

    أيحلف الجبار على أن من زكَّى نفسه فاز، فزحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن دساها فقد خاب وخسر، ونطلب غير ذلك؟!

    بين الله لنا الفوز بقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وبين التدسية أيضاً ومعنى الخسران فقال: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

    تعجيل التوبة من الخطايا

    معاشر المؤمنين والمؤمنات! إذاً: هذه الآية تخاطب بني إسرائيل .. اليهود الذين كانوا يجادلون رسول الله في المدينة، فلما ادعوا تلك الدعاوى أبطلها الله، وبين أنه لا قيمة للنسب.

    بَلَى [البقرة:81] أي: ليس الأمر كما تدعون، كيف إذاً يا ألله؟! قال: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81]، لأن الخطايا لا تأتي إلا بعد أن تكون خطيئة، فلهذا إذا اقترفت ذنباً فعجِّل بالتوبة وإلا فستتوالى الخطايا، والتوبة تجب على الفور بإجماع هذه الأمة؛ لأنك إذا أذنبت وتساهلت فسوف تتوالى الخطايا، وتحيط بنفسك، وحينئذ يكون قد فُرغ منك، ولن ينفعك شيء.

    قال: فَأُوْلَئِكَ [البقرة:81] البعداء أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، فالنار عالم، وما عالمنا هذا إليه إلا كقطرة ماء في المحيطات الخمسة، واللسان فقط يقول: النار، وكوكب الشمس المضيء؛ الملتهب، الذي هو أكبر من الأرض بمليون أو نصف مليون مرة، لو كان هو النار فلن تملؤه البشرية ولو كانت مثل هذا خمسين مرة، لكن هذا الكوكب سيحترق وينطفي، والنار وراء ذلك.

    التلازم بين الإيمان والعمل الصالح

    قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82]، فلولا الإيمان ما عمل عبد الله العمل الصالح، وإياك أن تتصور إيماناً بدون عمل صالح، أو تتصور عملاً صالحاً بدون إيمان، فإنك ما أصبت الحق.

    كيف هذا؟

    إذا وجد الإيمان الحق المطلوب فأنت تجري وتطلب أهل الأرض: دلوني على عمل يحبه ربي .. دلوني على ما يكره مولاي. فلا تستطيع أن تؤمن بالله ولقائه ولا تعمل ما يرضيه، ولا تترك ما يسخطه، هذا مستحيل.

    فالإيمان بمثابة الروح، وإذ حيي العبد أمكنه أن يسمع ويبصر، ويقول ويعمل، لكن قبل الحياة كيف يعمل؟ لا يستطيع.

    فلا تتصورن وجود إيمان حق بدون عمل صالح، إلا لمن آمن ومات مباشرة. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم أدركه الموت، فلا اغتسل، ولا صام، ولا صلى.

    أما أن تتصور أن إنساناً أو جاناً يعيش مؤمناً اليوم واليومين .. والعام والعامين ولا يطلب مرضاة ربه بالعمل الصالح، وترك سخطه بالعمل الفاسد، فوالله ما كان ولن يكون، ومن عنده دليل فليأتنا به؟

    فكونك تجد عملاً صالحاً بدون إيمان هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يكون العمل -حقيقة- صالحاً وناتجاً عن غير إيمان بالله ولقائه، فلهذا هما مقرونان في كل آيات القرآن: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، حتى إذا ذكر الصالحات أولاً يأتي بالإيمان بعد ذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أي: والحال أنه مؤمن.

    إذاً: هذه الآية الكريمة تكفينا وتكفي أهل الأرض، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله عن سورة (والعصر): لو ما أنزل الله تعالى إلا هذه السورة لكفت. لأن الله عز وجل أقسم بالعصر، وله أن يحلف بما يشاء. فحلف على أن هذا الإنسان مخلوق في خسر، واستثنى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088534705

    عدد مرات الحفظ

    777184208