أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:35-40].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! علمتم أن السورة مكية وأنها تعالج العقيدة، وفي هذه الآيات يخبر تعالى بما يلي: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]، بهذا واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]؛ فلعظيم قدرته كان سيمنعنا، وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] مما حرمناه، لكن ما شاء الله ذلك، ولو كانوا صادقين في هذا القول لكانوا مؤمنين بالله عز وجل، لكنهم كاذبون، يريدون فقط أن يغطوا ضلالهم ويستروا شركهم وباطلهم.
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [النحل:35] بالله عز وجل أصناماً فعبدوها معه، كاللات والعزى ومناة وهبل، قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا [النحل:35] الأولون وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]؛ لأنهم حرموا أنواعاً من الأنعام، كما جاء في سورة المائدة، في قول الله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:103]، فهذه حرموها وجعلوها لآلهتهم فقط، وحين يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين خطأهم وشركهم وباطلهم يحتجون بقولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] نحن ولا آباؤنا.
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]، قال تعالى: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل:35]، ليس العرب فقط، بل عاد قبلهم وثمود ومدين و.. أمم كثيرة، حين ترفض دعوة الحق ولا تقبلها تحتج باحتجاجات باطلة، وادعاءات لا قيمة لها.
قال تعالى: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]، الرسول يبلغ يقول: عباد الله! عبادتكم هذه باطلة؛ لأنها لغير خالقكم ورازقكم، هذه عبادة للأهواء والشياطين فاتركوها، عباد الله! ما حرمتموه ليس بحرام عليكم، لا تحرموا ما أحل الله لكم. هذا الذي على الرسل، أما أنهم يملكون القلوب ويصرفونها ويحولونها إلى التوحيد فلا، وليس لهم قوة وقدرة أيضاً بالسلاح والسيف، فالرسول لا يطالب يوم القيامة إلا بالبلاغ، فإن بلغ سلم ونجا، وحاشاهم أن يفرطوا، والله لقد بلغوا.
فلما واجهوا الرسول هذه المواجهة، وهذا الادعاء للعلم والمعرفة، كان لا بد أن يتألم، فسلاه الله وخفف من ألم نفسه، وقال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35]، لا تكرب ولا تحزن ولا تبال بما يقولون، وهكذا الرسل كلهم عليهم السلام يواجهون هذه المواقف.
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36]، والرسول: نبي أرسله الله إلى قوم برسالة يحملها، ما مضمون هذه الرسالة، بم يرسلهم؟ بكلمة: اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، يا قوم اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، اعبدوا الله وحده ولا تعبدوا معه غيره، واجتنبوا ما يدعو إليه الضُلال من الأباطيل والترهات والكذب وما إلى ذلك، إذ الطاغوت الأصل فيه هو إبليس، ما هناك أكثر طغياناً من إبليس، وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.
إذاً: (اجتنبوا الطاغوت) أي: الشيطان وما يزين لكم ويحسن من عبادة الباطل وارتكاب المحرمات والمنهيات، هكذا يخبر تعالى ويقول: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] مهمته ورسالته: أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، أي: اجتنبوا عبادة غير الله، اعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة غيره، سواء كان المعبود ملائكة كما كان بعض الناس يعبدون الملائكة، أو كان كوكبًا من الكواكب، فالشعرى كانت تعبد باليمن، أو ولية من أولياء الله وصالحة من صالحي عباده، وعيسى وأمه يعبدان إلى الآن.
تأملوا -يفتح الله عليكم-: كتب الله في كتاب المقادير كل ما هو كائن، حتى حركة يدي هذه -والله- مكتوبة، ولا تعجبوا؛ فقد كان الأولون يؤمنون بهذا ويقولون: آمنا بالله وبما أخبر به الله ورسوله، ولم يروا شيئاً مما رأينا، ونحن الآن نشاهد هذه الأشرطة تحفظ قناطير الكتب، إذاً: قولوا آمنا بالله.
فالذين علم الله أنهم سيؤمنون ويطيعون كتب سعادتهم وطاعتهم، وما إن يخرجوا إلى الدنيا حتى يهديهم فيقبلوا الدعوة ويمشوا وراءها ليدخلوا الجنة، والذين علم الله أنهم لا يستجيبون للحق ولا يعبدون الله، بل يحاربون دعوة الله ويكفرون بالله كتب شقاوتهم وضلالهم، فحين يخرجون إلى الدنيا ما يستجيبون لعيسى ولا لموسى ولا لمحمد، ويصرون، أما أصر أبو جهل ؟ وعشرات من أمثاله مع معرفتهم؟ أصروا؛ لأن الله كتب شقاوتهم فلم يهتدوا.
وعليه فقول ربنا جل وعز: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ [النحل:36]، أي: المبعوث فيهم، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] والعياذ بالله. من هم الذين هداهم الله؟ الذين كتب الله هدايتهم؛ لأنه علم أنهم يجيبون الدعوة ويستجيبون للحق، وأمّا الذين حقت عليهم الضلالة فإنهم لا يستجيبون؛ لأن الله قد كتب ضلالهم، وقد عرض الله على الناس قبل أن يكونوا أن يقروا بربوبيته، كما أخبر بقوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172]، أي أنه: مسح ظهر آدم مسحاً، فاستخرج منه ذريته كلها، وأنتم تعرفون الآن الحيوان المنوي يكون منه في النطفة كذا مليونًا وهي لا تملأ فنجانًا، مسحها واستنطقها فنطقت، وأشهدها على أنفسها فشهدت، فمن ثم من علم الله أنه يتمرد ويطغى ويفجر ويكفر كتب ذلك عليه، وهذا حقت عليه الضلالة، ومن علم أنه يستجيب ويلين ويقبل الحق كتب ذلك، فإذا خرج إلى الدنيا استجاب.
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، هذه هي الرسالة، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36]، عرفنا كيف هدى الله وكيف حقت الضلالة؛ لأنه نظر إلى الروح، إلى ذلك المخلوق قبل أن يكون، فعلم أنه شقي، ونظر ورأى آخر فعلم أنه سعيد، فكتب شقاوة هذا وسعادة هذا.
هذه القضية قضية صعبة، ينبغي لإخواننا أن يتفهموها، وأعيد المثال: يا سامعي الكرام! أسألكم بالله: أما تعرفون المهندس كيف يرسم فِلّة أو قصرًا أو حديقة أو مدينة أو قرية كاملة في ورقة؟ فإذا كانت له قدرة على الإيجاد يوجدها كما هي؛ فكذلكم الله عز وجل -وله المثل الأعلى- كتب في (كتاب المقادير): الأشقياء والسعداء، الهداة والضلال، فيتحقق ذلك كما هو مكتوب، وهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر.
قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] بماذا بعثه؟ أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، الطاغوت: من الطغيان،وهو العلو والارتفاع، إبليس تكبر وقال: لا أسجد لآدم، خلقتني من نار وخلقته من طين، كل من تكبر طغى، فكل من عبد من دون الله فهو طاغ إذا رضي بذلك.
فَمِنْهُمْ [النحل:36] أي: من الخلق مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36].
وفي قراءة: (إن الله لا يُهدَى من يُضل)، فالذي أضله الله لا يستطيع كائن أن يهديه، لا رسول ولا نبي ولا ولي أبداً، ولا حتى بالمدفع، وهذا فيه تخفيف عن رسول الله ألم نفسه، إنكم ما عرفتم ألم الإعراض، جرب فقط في قريتك، حاول أن تدعوهم إلى الله واصبر، فإنك ستسمع من الكلام ما لا يطاق، فكيف بمن يواجه البشرية كلها؟
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ [النحل:37] أي: على هدايتهم، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]، (لا يُهدى من يضل)، وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل:37]، اتركهم في ضلالهم فليس لهم من ناصر، وسوف ينزل بهم العذاب والعقوبة الإلهية.
هل نُصر أحد من قوم عاد أو ثمود أو قوم شعيب أو قوم موسى؟ ما نُصر أحد، من ينصرهم؟ إذا جاءت الساعة وآن أوان الدمار والخراب فهل هناك من ينصر؟
فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ [النحل:37] أي: الضالين وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل:37] ينصرونهم إذا وجب العذاب وحانت ساعته.
إذاً: فجاءت الفكرة لتريحهم من الكنيسة والصليب، ومن قول: هذا حلال وهذا حرام، فأقبلت المسيحية على الشيوعية، وسرى التيار إلى بلاد المسلمين فصار من صار شيوعيًا، إلا أنها ما انتشرت في البلاد الإسلامية بالمعنى الكامل؛ لأنهم ما قبلوها؛ إذ كيف يقال: لا إله؟! فولدوا منها نظامًا عجيبًا هو الاشتراكية، ولدوا من الشيوعية الاشتراكية لتروج في العالم الإسلامي؛ لأنه ما فيها كلمة: (لا إله)، وإنما فيها: العدل، المساواة، وانتشرت في العالم الإسلامي، إلا من أنجا الله، ثم فشلت الشيوعية وفشلت أيضاً الاشتراكية، لكن هل خاب اليهود؟ في الحقيقة ما خابوا، فقد أسسوا دولة في العالم الإسلامي، وهذا انتصار، دولة بني إسرائيل، وتل أبيب هي العاصمة، فهل هذه أحلام؟ لقد أسسوها.
ولما زالت الشيوعية بإذن الله وانهزمت روسيا وتحطمت وتكسرت، وتبخرت الاشتراكية وذهبت، ماذا فعل بنو عمنا اليهود؟ جاءوا بكلمة جديدة هي: العلم. يعني: لا صلاة ولا صيام ولا كذا، العلم هو كل شيء، فأصبحت العلمانية بدل الشيوعية بأسلوب عجيب، يقولون: انظر ماذا فعل العلم: طرنا في السماء وغصنا في الماء وأنشأنا وأوجدنا كذا وكذا. فالعلمانيون هم الشيوعيون، لكن تحت ستار فقط، ولكن الله فضحهم ويفضحهم.
قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [النحل:38]، يعني: حلفوا وأكدوا أيمانهم حتى بلغ الجهد منهم: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38] أبداً، من أين لكم أن الله لا يبعث من يموت، أهو أعلمكم بهذا؟ كيف علمتم أن الله لا يبعث من يموت؟ أنتم تشاهدون جيلاً يحيا وجيلاً يموت، فأين يذهبون؟ والجسم هو الجسم، الجسم كخشبة أو صنم أو حجر، والروح من أين أتت وأين ترجع؟ وهل الإنسان بروحه أو بجسمه؟ بالروح، إذا فارقته ارمه في المزبلة، أو ادفنه في التراب، الروح كيف دخلت وكيف خرجت؟ كيف تقول إذاً: ما هناك حياة ثانية وهي موجودة؟
المهم أن أصحاب النظرية الشيوعية البلشفية العلمانية عندهم إلى الآن أنه لا حياة ثانية أبداً، حتى لا يقال: صم ولا صل ولا زك ولا اتق الله ولا اعبد الله، محو للشريعة الإسلامية.
هاهم المشركون في مكة يواجهون رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاً لوجه، ويحلفون بالله ما هناك من يبعثهم أبداً، يقولون: من مات مات، لا تخوفنا بيوم القيامة والبعث والجزاء.
ثم بعد ذلك يأتي السؤال والجواب، ثم الجزاء إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم، أي: إما فوق وإما أسفل، إما في سجين في أصحاب الأرواح الخبيثة وإما في عليين مع أصحاب الأرواح الطيبة الطاهرة النقية: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7]، كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18].
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل:39] وهو لا إله إلا الله. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39] الذين كانوا يحلفون بالله لا يبعث الله أحداً، يتبين لهم هذا.
فكيف بهذا القرآن يا أبنائي تقرءونه على الموتى؟ دلوني يرحمكم الله، في باريس أو في بلاد العرب والمسلمين، كيف يقرأ القرآن على الموتى؟ أيقرأ عليهم ليقوموا فيصلوا؟ ليردوا مظالم الناس التي ظلموها؟ ماذا يفعلون؟ لم يقرأ القرآن على الموتى؟
إنه الثالوث الأسود المكون من المجوسية واليهودية والصليبية، نظروا في تاريخ الإسلام والمسلمين فوجدوا أن الإسلام عز وساد أهله بالقرآن الكريم، إذ هو روح ولا حياة بدون روح، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] قالوا: إذاً نبعد عنهم القرآن، قالوا: ما نستطيع أن نحرقه ولا أن نمحوه، فهو محفوظ في الصدور، فكيف نصنع؟ كيف نبعد القرآن عنهم؟ قالوا: فكروا كيف تبعدونه عنهم، فقالوا: تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ، وخطؤه كفر. وهذه عبارة مذكورة في شرح الحطاب على خليل .
قالوا: تفسير القرآن الكريم صوابه خطأ وخطؤه كفر، فما أصبح بعدها واحد يقول: قال الله أبداً، إذاً: ماذا نصنع بالقرآن؟ نقرؤه على الموتى، فإذا مات فلان قال وليه: ابحثوا لي عن طلبة القرآن، فيأتون ثلاث ليال أو سبع ليال يقرءون ويأكلون الطعام ويعطونهم شيئًا من المال، لهذا يقرأ القرآن فقط، والله ما يحفظ إلا لهذا، من إندونيسيا إلى موريتانيا، القرآن يقرأ على الموتى، فماذا يستفيدون؟
أسألكم بالله! لو كان كل المسلمين يجتمعون على كتاب الله هكذا كل ليلة طول العام أيبقى جاهل؟ لا، وإذا انتفى الجهل أيبقى الظلم؟ أيبقى الخبث؟ أيبقى الشر؟ أيبقى الذل؟ والله ما يبقى، ولكن مكر العدو ومددنا أعناقنا واستسلمنا له.
أولاً: الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية ]، قالوا: لو شاء الله ما أشركنا. فرد الله عليهم.
[ ثانياً: تفسير لا إله إلا الله ] ما معنى لا إله إلا الله؟ الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. رسالة الرسل ما هي؟ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، هي لا إله إلا الله، أي: لا تعبدوا إلا الله، اعبدوا الله وحده.
[ ثالثاً: التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه، فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته ]. التحذير من طلب الضلال والمشي وراء الضلال والاستجابة له، فإن هذا يشير إلى أن هذا العبد سيضل ولا يهتدي، لأنه وافق كتاب الله، كتاب القضاء والقدر، فلهذا لا بد من البعد عن الضلال والضُّلال، نجتهد طول حياتنا ألا نجتمع مع ضال ولا نمشي وراءه أبداً بحال من الأحوال حتى نحمي أنفسنا؛ لأن الله قد قال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37].
[ رابعاً: بيان بعض الحكم في البعث الآخر ] ليبين لهم الكذب، أما كانوا يقولون: لا بعث ولا حياة؟ فالآن انظروا هل وقع البعث أم لا؟ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39]، وليعرفوا الخلاف الذي كان بينهم وبين الرسل، وأنه خلاف باطل، وأن الحق هو التوحيد وعبادة الله، هذه الحكمة أفادتها الآيات، ولكن الحقيقة الأولى هي: أن هذه الحياة كانت للعمل، والحياة الثانية للجزاء، أما هذا فمن باب التدليل فقط، الحياة الدنيا أوجدها الله من أجل أن يعبد فيها وحده دون من سواه، فمن عبده وزكى نفسه بالعبادة أهَّله للملكوت الأعلى وأنزله منازل النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن تكبر أو أعرض أو جحد وعاند ومشى وراء الضلال ومات ونفسه خبيثة فهو في سجين في أسفل سافلين، الجزاء هناك والعمل هنا. عرفتم هذا يا معشر الأبناء؟ هيا نعمل، فلا نقضي ساعة إلا ونذكر الله تعالى فيها ونعبده، وأنت تسوق السيارة اذكر الله، في يدك المسحاة سبح الله، في يدك المطرقة وأنت تذكر الله، تعمل من أجل الله، تأكل باسم الله، تنام لأجل الله، حياتنا كلها وقف لله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] هذا الوقف الذي أوقف الله رسوله عليه والمؤمنين.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر