أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع آخر سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:47-52].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47]، هذا نهي: لا تحسبن أيها الرسول، أيها المستمع. من الناهي؟ الله، إذ هو القائل: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47]، الله موجود، هذا كتابه وهذا كلامه، هذا رسوله، هؤلاء عبيده، يوجه رسوله ليحمله على الصبر والثبات؛ لأنه في أيام قاسية شديدة، المشركون متكالبون عليه محاربون له، وهو مع قلة من المؤمنين في مكة، فيوجهه ربه بهذا الخطاب؛ ليزيد في صبره وثباته على نشر دعوة الهدى التي وصلتنا واهتدينا بها والحمد لله.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47]، وقد وعدهم بالنصر، ووعد أعداءهم بالهزيمة، وتم هذا مع هود وصالح ونوح وإبراهيم ومع كل نبي ورسول، فَلا تَحْسَبَنَّ [إبراهيم:47] يا رسولنا اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47]، بل لا بد أن ينجزه وأن يتمه كما وعدهم، وقد تم وحصل، جلس ثلاث عشرة سنة في مكة يدعو إلى الله عز وجل، ثم نزل بالمدينة، وفي السنة الثامنة فتح الله مكة ودانت هذه الجزيرة بالإسلام، فهل هذا نصر أم لا؟
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47]، لماذا؟ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم:47]، والعزيز الذي لا يمانع في شيء يريده، لا يغالب بحال من الأحوال لعزته وجبروته، ذو انتقام من أعدائه المشركين والكافرين والخارجين عن سننه.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ [إبراهيم:47]، غالب قاهر لا يمانع فيما يريد، ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم:47] صاحب انتقام ينتقم ويبطش البطش الشديد.
وأولئك المشركون المعاندون كلهم قتلوا في بدر وألقوا في قليب وناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ [إبراهيم:48]، اذكروا هذا اليوم، فذكرنا له يجعلنا نعبد الله بحبه والخوف منه، يجعلنا نتجنب معاصيه ونبتعد عما يغضبه ولا يرضيه، ذكرنا له يجعلنا نثبت ونصبر على ما ابتلانا الله به، فلا جزع ولا سخط ولا خروج عن طاعة الله ورسوله.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48] غير السموات، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ [الواقعة:1-7] بعد ذلك أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7]، أصحاب اليمين والسابقون وأصحاب الشمال.
وَبَرَزُوا [إبراهيم:48]، ظهروا، ما هناك ما يستترون به عن الله، لأنها أرض ترى فيها كل من هو موجود وتسمع أي صوت يكون، وَبَرَزُوا [إبراهيم:48]، لمن ظهروا؟ لِلَّهِ [إبراهيم:48] الذي كفروا به، وأشركوا في عبادته، وخرجوا عن طاعته، وآثروا عبادة الشيطان وما زين لهم من الأباطيل والشرور والمفاسد، برزوا لله لا لغيره، وهو الواحد الأحد القهار الذي قهر كل شيء.
وقد عرفنا أن أفظع أنواع الظلم الشرك، وهنا نقول أيضاً: من أفظع أنواع الإجرام الشرك بالله عز وجل والكفر به؛ لأن نفس المشرك منتنة، ونفس الكافر كذلك، أما نفس المؤمن الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويذكر الله ليل نهار، ويرجو لقاءه فنفسه طيبة طاهرة، كل يوم يصب عليها أطنان الحسنات، يصلي صلاة فقط فيخرج منها ونفسه نقية، يتصدق بصدقة، يقول: الله أكبر، سبحان الله، ينعكس أثر ذلك على نفسه نوراً مشرقاً فتطيب وتطهر.
فنعوذ بالله من الإجرام والمجرمين، واسمع ماذا يقول تعالى: وَتَرَى [إبراهيم:49]، بعينيك أيها السامع الْمُجْرِمِينَ [إبراهيم:49]، كيف تراهم؟ على أي حال؟ قال: مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [إبراهيم:49]، مشدودة أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل والحديد، ويلقون في النار مشدودة أيضاً أرجلهم مع أعناقهم وأيديهم كالكتل يقذفون في النار.
مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [إبراهيم:49]، جمع صفد: الحبل أو السلسلة التي يشد بها الشيء، هؤلاء المجرمون هل يدخلون الجنة؟ ما هم بأهل لذلك فأنفسهم خبيثة، أين يذهب بهم؟ هل يتركون ويهملون؟ كلا والله، ما كان هذا ولن يكون؛ لأن الله خلق هذا الكون كله من أجلهم، وبعث فيهم رسله ونبأ فيهم أنبياءه وأنزل كتبه، وبين لهم الطريق فأعرضوا واستنكفوا واستكبروا، إذاً: جزاؤهم أن يخلدوا في هذا العذاب الذي لا يفنى أبداً.
نعوذ بالله من الإجرام والمجرمين، والإجرام: هو الإفساد، فلان مجرم أي: مفسد، فأي شخص يفسد في البلاد -في الأرض أو السماء- فهو مجرم، والذي يفسد قلبه فهو مجرم، وكذلك الذي يفسد زرعه أو مال غيره فهو مفسد مجرم، لكن لفظ الإجرام هنا: يراد به الذين أجرموا على أنفسهم بالكفر والشرك وكبائر الذنوب والعياذ بالله.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ [إبراهيم:49] يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات وبرزوا لله، يومها ترى المجرمين مقرنين في الأصفاد، في العرصات، أيديهم مع رءوسهم مع أرجلهم يلقون في النار.
والقطران: مادة معروفة عند البدو والحضر، منتنة سوداء تحرق الجسد، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، تأكل وجوههم النار، أريتم لو كان آباؤنا أو إخواننا أو أمهاتنا من هذا النوع كيف تطيب لنا الحياة؟ فكيف إذا كنا نحن؟! أو نحن ناجون سالمون؟! من أعطانا صكاً بالسلامة والنجاة.
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]؛ لأنهم فيها، هذا الوجه الذي نبعده عن كل أذى وكل مضر تغشاه النار وتغطيه بكامله.
والدار الآخرة، الحياة الثانية التي بعد نهاية هذه -ونحن في طرفها الأخير- لماذا وجدت؟ من أجل الجزاء على الكسب في هذه الدنيا، فعليكم بالعمل، فإن من عمل بعبادة الله نجا، ومن عمل بطاعة إبليس عدو الله خسر وهلك.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ [إبراهيم:51]، لا بما كسب غيرها، ولا بما لم تكسب، بل بما كسبته، ما هذا الكسب عباد الله؟ الكسب يكون في الصالحات ويكون في السيئات، من كسب إيماناً وعمل صالحاً وابتعد عن كسب الشر والشرك والخبث فاز، ومن كسب الشرك والكفر والذنوب والآثام خسر وهلك.
فاسمع: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، هذه يمين أم لا؟ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:2-8]، المحلوف عليه ما هو؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، ما معنى (أفلح)؟ كلكم تعرفون الفلاح، فلان أفلح في تجارته ما خسر، أفلح في زراعته، أفلح في طلبه كذا، تقولون هكذا؟ والفلاح فسره تعالى بالفوز، والفوز يوم القيامة هو النجاة من النار وعالم الشقاء ودخول الجنة دار الأبرار والسعادة الأبدية.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، أيها العمال! لا تطلبوا الجزاء في الدنيا، فالجزاء في الآخرة، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، وبيان هذه الأجور: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، عجب هذا الكلام أم لا؟ لما لا يذكره المسلمون ولا يعرفونه؟
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، من يقول: لا؟ إذاً: فلا تطالبوا أيها العمال بأجوركم في الدنيا، فقد تصلي ثمانين سنة وتصوم وأنت فقير ولا تقل: كيف؛ لأن صيامك وصلاتك ليس للجزاء في الدنيا، وهذا أيضاً يفجر ويكفر ستين سنة فلا تقل: كيف لم ينزل به الجزاء؟ الجزاء ما هو هنا في الدنيا؛ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185]، متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].
ولكن هناك لطيفة بيناها غير ما مرة: الأعمال الصالحة لها يمن وتوجد لها حسنة، صاحب الإيمان والعمل الصالح يعيش في حياته نقياً طاهراً قلبه مطمئن ما يكرب ولا يحزن أبداً، لماذا؟ ليُمْنِ عبادته وحسناته.
وصاحب الشرك والمعاصي والفجور كذلك يلقى شؤم ذنوبه في الدنيا ويذوقه لكن ليس هو الجزاء، الجزاء في الدار الآخرة بعد انتهاء هذه الحياة، وقد بينه تعالى فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، عرفتم هذا الحكم؟ هل تشكون فيه؟
ما دمنا لا نشك في الأول فكيف نشك في الثاني؟ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هل هناك من يقول: إلا بني فلان، أو إلا الدكتور الفلاني؟ إذاً: إذا سلمتم بهذا فلم لا تسلمون بالثاني: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، قد قلت لكم: كم من مؤمن يصوم ويصلي ويعبد الله وهو فقير حتى يموت، وكم من فاجر كافر مملوء بالمال والغنى والترف وهو كافر فاسق؛ لأن هذه الدار ما هي دار جزاء، هذه دار عمل وكسب.
ولكن اللطيفة أن من شأن اليُمن الذي للحسنات أن يحصل المؤمن على طهارة روحه وطمأنينة نفسه وانشراح صدره، فما يكرب وما يحزن وما يصاب كما يصاب أهل الذنوب والآثام، وإن أصيب مجرم بمصيبة أيضاً فما هي الجزاء أبداً، وإنما من شؤم ونحس كفره وشركه وباطله.
فهل صدر علينا حكم من الله إنسنا وجننا؟ ما هذا الحكم الإلهي الذي لا يعقب عليه؟ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، شخص يوظف شخصاً ويقول له: اشتغل عندنا بالسنة، فما له حق أن يقول في الشهر التاسع: أعطني، فالعقد بينهما سنة، أو إذا كان يتقاضى على عمل شهري، فليس له إذا كان يوم خمسة وعشرين أن يقول: أعطوني راتبي، أليس كذلك؟
إذاً: فنحن متى نتلقى الجزاء؟ عند الموت، عند سكرات الموت نتلقى جزاء الصالحات وجزاء السيئات.
قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، نعم وَقَدْ خَابَ [الشمس:10] وخسر مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].
اعملوا على تزكية أنفسكم وتطهيرها، وإذا المرء أساء سيئة وفعل معصية فالماء والصابون متوافران، ما هي إلا أن يبكي بين يدي الله ويحلف له على ألا يعود إلى هذا الإثم أبداً، والله يمحى ذلك الأثر ويغسل كما يغسل الثوب، ولهذا باب التوبة مفتوح لكل إنسان كافراً كان أو مؤمناً، على شرط أن يتخلى عن المعصية وهو نادم على فعلها متألم متحسر، ويبكي بين يدي الله ويعزم على ألا يعود إليها ولو قتل أو صلب أو حرق، فإن أثر ذلك يمحى وتبقى النفس مشرقة كما كانت.
ذكر القرطبي: أن بعض أهل العلم قال: لو أردنا أن نضع للقرآن عنواناً يعرف به لكان هذه الآية، وذكرها مرة بيننا العلامة خريج المسجد النبوي الشيخ: بشير إبراهيم، فظننا أن الله فتح عليه بها فقالها، فوجدناها قد قالها من قبله بمئات السنين، وجائز أن يكون قالها من باب الفتوحات الإلهية، عنوان القرآن هو: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52]، أما الذين قلوبهم منتكسة ميتة فما يذكرون ولا يتعظون.
ما زال السياق الكريم في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين وظلمهم وجورهم وظلمهم وطغيانهم، فيقول تعالى لرسوله: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم:47]، إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت، إنه لا بد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]]، بعد ربع قرن وصل الإسلام إلى الأندلس وإلى ما وراء نهر السند في خمس وعشرين سنة فقط، تم نصر الله أم لا؟ أنجز وعده لنبيه أم لا؟
[ وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ [إبراهيم:47]، أي: غالب لا يغلب، غالب على أمره، ما يريده لا بد واقع، ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم:47] شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه.
واذكر يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48] كذلك تبدل، وَبَرَزُوا [إبراهيم:48]، أي: ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ [إبراهيم:49] يا رسولنا، تراهم مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [إبراهيم:49]، مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم، هؤلاء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد، أجرموا على أنفسهم أولاً، ثم على غيرهم ثانياً، سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه، الجميع قد أجرموا في حقهم.
سَرَابِيلُهُمْ [إبراهيم:50]، قمصانهم التي على أجسامهم، مِنْ قَطِرَانٍ [إبراهيم:50]، وهو ما تدهن به الإبل: مادة سوداء محرقة للجسم، أو من نحاس؛ إذ قرئ: (من قِطر آنٍ) أي: من نحاس]، من قطر آنٍ أي: نحاس أحمر [أُحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة.
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، أي: وتغطي وجوههم النار بلهبها، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة، فعل تعالى هذا بهم لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [إبراهيم:51]]، فعل الله تعالى هذا بهم لماذا؟ من أجل أن يجزي كل نفس بما كسبت، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [إبراهيم:51]، فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها إلا كمن دخل مع باب وخرج مع آخر]، وهذه مأخوذة من نوح عليه السلام، عاش أكثر من ألف سنة، فسألوه عند وفاته: كيف وجدت الحياة؟ قال: كمن دخل مع هذا الباب وخرج مع هذا، ما هناك أكثر، دخل مع باب وخرج مع الثاني.
قال: [ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، أي: وتغطي وجوههم النار بلهبها، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي].
الشرك: هو الكفر، كل كفر شرك، كل كافر مشرك، والشرك: هو أن يعبد مع الله غيره عبادة خاصة بالله كالصلاة يصليها لغير الله، عبادة خاصة بالدعاء وسؤال الحاجة، يعطيها لغير الله، وهكذا مظاهر الشرك وقد بيناها لنتنبه، حتى الحلف، والله ما يجوز لك وأنت المؤمن المستقيم أن تقول: وحق كذا، أو ورأس كذا، والعامة يقولون: والنبي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حلف بغير الله فقد أشرك )، ووجه الشرك فيه واضح؛ فالحلف تعظيم أم إهانة؟ تعظيم، فمن الأعظم؟ من الأكبر؟ الله أكبر أم لا؟ فكيف ترفع مخلوقاً يبول ويخرأ وتحلف به، تسويه بالله عز وجل؟ والعوام حلفوا بالرأس والعين والرجل وبكل شيء، المهم ألا يحلفوا بالله، وهذا يوم صرفوهم عن القرآن وأبعدوهم عنه تلاوةً وتدبراً وشرحاً وبياناً، وخصوه بالموتى يقرءونه عليهم من ذلك الوقت والأمة هكذا.
قال: [ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52]، أي: وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة ].
أولاً: بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله وأوليائه ]، هل تحقق لهم أم لا؟
[ ثانياً: بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم]، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50].
[ ثالثاً: بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.
رابعاً: قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52]، هذه الآية صالحة لأن تكون عنواناً للقرآن الكريم؛ إذ دلت على مضمونه كاملاً مع وجازة اللفظ وجمال العبارة، والحمد لله أولاً وآخراً ].
معاشر المستمعين! هذه ليلة النصف من شعبان، فمن استطاع أن يدعو الله فيها بخير فليدع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر