إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (15)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عداوة إبليس لآدم عليه السلام وذريته لا تنتهي إلا بانتهاء الدنيا، ودخول آدم والمؤمنين الجنة، ودخول إبليس ومن تبعه من الخلق النار، وقد ذكر الله قصة هذه العداوة في كتابه العزيز، محذراً عباده من اتباع خطوات الشيطان، ومذكراً إياهم بمكره بآدم وحواء ليخرجهما من الجنة، حسداً منه لهما ولذريتهما من المؤمنين من بعدهما.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وقد تم لنا هذا الموعود، فقف يا عبد الله وانظر إلى هؤلاء المؤمنين في هذه الحلقة فإنك تشاهد السكينة، ولو كان هذا الاجتماع في غير هذا المكان لكنت تسمع اللغط، والقول، والكلام، والضحك، والالتفات، والقيام والقعود، فما لنا ساكنين؟ لأن السكينة نزلت، والرحمة غشيتنا في هذه الساعة، في هذه اللحظة، فلا شر ولا أذى ولا ظلم ولا، فأية رحمة أظهر من هذه؟!

    وأما الملائكة فيحفوننا، والله إنهم ليحفون بالحلقة ويطوفون بها ويستمعون الذكر وإن كنا لا نراهم لضعف أبصارنا، فلا قدرة لنا على رؤيتهم وإلا فهم يحفون بهذه الحلقة، وأما ذكر الله لنا في الملكوت الأعلى فهو ثابت بإذن الله وإن كنا لا نرى ولا نسمع، والحمد لله.

    وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآيات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:34-37] إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني المبارك الكريم.

    الفرق بين المداهنة والمداراة

    هنا أضع بعض الأسئلة:

    الأول: ما الفرق بين المداهنة والمداراة؟ وما الممنوع منهما وما الجائز؟

    الجواب: المداهنة حرام؛ لأن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، والمداهنة: أن نتنازل عن شيء من ديننا لنحفظ به شيئاً من دنيانا والعياذ بالله.

    أما المداراة والمصانعة والمجاملة فهي: أن نتنازل عن شيء من دنيانا لنحفظ به شيئاً من ديننا، وهذا محمود.

    سبب تآمر المجوس واليهود والنصارى على أمة الإسلام

    السؤال الثاني وهو ذو أهمية: لماذا تآمر علينا الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، وقلبوا الأوضاع علينا فجعلوا أحياءنا أعداء لله وأمواتنا أولياء لله، وحصروا الولاية فيمن مات فقط فضربت على قبره القباب ووضعت التوابيت والأخشاب، وسيق إليه قطعان البقر والغنم، وحلف به وعظم وبجل كالله، وأما الأحياء فلا يوجد ولي فينا! حتى قال أحد المحشين على متن خليل بن إسحاق المالكي : من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة!

    وجواب ذلك: أن هذا أمر عظيم، وقد روى الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، ومعنى هذا: أيما قرية، أيما جماعة، أيما مؤمنون أو مؤمنات بلغهم هذا وعرفوه فقد انتهى الأذى من بينهم، فلا سب، ولا شتم، ولا تعيير، ولا تقبيح، ولا ضرب، ولا سلب.

    ومن يقدر على أن يؤذي ولي الله؟ لا نقدر؛ لأننا إذا آذينا ولي الله أعلن الله الحرب علينا، وانهزمنا وانكسرنا، بل وخسرنا؛ لأن الله يقول في هذا الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فلكي يأكل المؤمنون بعضهم بعضاً ويسخرون من بعضهم ويستهزئون ويأكلون أموالهم ويفجرون بنسائهم، فامرأة مؤمن يفجر بها مؤمن، وبنت مؤمن يفجر بها مؤمن؛ إذاً: نقول: لا ولي لله إلا من مات وبني على قبره ضريح، ووضعت التوابيت والأزر الحريرية عليه وعكف حوله النساء، وسيق إليه المرضى! ذاكم الولي، أما أنتم الأحياء فلا ولي فيكم، هذه هو قصد هؤلاء.

    صفات أولياء الله تعالى

    معشر المستمعين والمستمعات! من هم أولياء الله؟

    الجواب: كل مؤمن تقي هو لله ولي، أبيض أو أسود، عربياً كان أو أعجمياً، غنياً أو فقيراً، شريفاً أو وضيعاً، كل مؤمن ومؤمنة اتقى الله عز وجل -أي: خافه- فلم يترك ما أوجب عليه ولم يرتكب ما حرم عليه؛ فهو ولي الله، ومن آذاه فقد أعلن الله تعالى الحرب عليه، وهل يفلح من أعلن الله الحرب عليه؟

    لا والله لا يفلح، فمن هنا كان مجتمعنا الإسلامي مجتمع الطهر والصفاء والعدل والمحبة والولاء، فلما عرف الأعداء هذا احتالوا علينا في عصور الظلمة والجهل، وهم الذين جهّلونا ومنعونا من أن نقول: قال الله، تعيش بين علماء لا يقول أحدهم: قال الله ولا قال رسول الله، بل قال الشيخ الفلاني، وقال سيدي فلان! فحرمونا حتى من ذكر الله.

    والقرآن هو الروح، تلك الروح التي -والله- لا حياة بدونها!

    القرآن حولوه إلى المقابر والمآتم وليالي البكاء، يقرأ على الموتى فقط، ولا يجتمع اثنان في ظل شجرة أو جدار ويقول أحدهما للثاني: أسمعني شيئاً من كلام الله.. اقرأ علي من كلام ربي شيئاً. لن يكون هذا أبداً!

    وزادوا المحنة الأخيرة التي ذكرنا، وهي: من قال: أنا ولي فإنه يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة!

    إذاً: هل أقول: أنا عدو الله! أعوذ بالله.

    الآن ما بقي من السامعين والسامعات من يؤذي أحداً منا بنظرة ولا بكلمة نابية، ولا بسلب مال وإن قل، ولا ولا بهتك عرض وإن صغر، لأننا أولياء الله، والله يقول: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).

    عند باب المنزل جاءني شاب يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: أنا حارس هذا المنزل، فإذا جاء الرجل بسيارة قلت له: ضع السيارة هكذا، فأول كلمة يقولها لي: ما هو بحق أبيك، من أنت! ويسبونني، فهل هؤلاء مؤمنون؟ أهذا هو الولاء يتركون المؤمن يبكي؟

    معاشر المستمعين! أعود فأقول: من هو ولي الله؟ هل سيدي عبد القادر ؟ لقد عايشناه وعاصرناه، عرفنا عنه، مولاي إدريس عرفنا عنه، سيدي العيدروس، البدوي، سيدي أحمد التجاني.. عرفنا أنهم أولياء؟ فكيف عرفنا؟ لقد عرفنا ما لا ينبغي أن يعرف، وجهلنا ما يجب أن يعلم ويعرف.

    أولياء الله هم المؤمنون والمؤمنات الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويحلون ما أحل الله، ويحرمون ما حرم الله، كل مؤمن تقي هو لله ولي، فمن هنا لا غيبة، لا نميمة، لا كذب، لا خيانة في مجتمعنا الإيماني مجتمع أولياء الله، على هذا نحيا وعليه إن شاء الله نموت.

    سبيل تحقيق ولاية الله تعالى

    كيف نحصل على ولاية الله؟

    نحصل على ذلك بإيمان وتقوى؛ إذ قال تعالى في تقرير هذه الحقيقة التي جهلها ملايين من المسلمين، قال تعالى من سورة يونس: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكأن سائلاً يقول: من هم أولياؤك يا رب الذين لا خوف عليهم ولا حزن؟ فيجيب تعالى بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] أولئك أولياء الله لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، لا يموت أحدهم حتى يبشر بالجنة، برؤيا صالحة يراها أو ترى له.

    الاتباع سبيل الفوز بمحبة الله تعالى

    نعود إلى نتائج وعبر وهداية الآيتين اللتين شرحناهما بالأمس، وهما قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31-32].

    تذكرون أن وفد نجران النصراني لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة النبوية وجاء يجادل، وادعوا أنهم ما ألهوا عيسى وأمه إلا من أجل أن يحصلوا على حب الله! يقولون: عظمنا مريم أم عيسى، وعظمنا عيسى إلى حد التقديس والتجليل والإكبار والعبادة، من أجل أن نحصل على حب ربنا عز وجل!

    قالوا: ما عبدناهما لذاتهما، ولكن من أجل أن يحبنا الله ربنا وربهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية يقول فيها لرسوله: يا رسولنا! قل لهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، ومعنى هذا: إن كنت تحب الله والله لا يحبك فماذا استفدت إلا الحزن والكرب والألم، أنت تحب الله وهو لا يحبك، فماذا استفدت يا محب سوى الكرب والهم والحزن؟ إذ ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تُحب.

    يا عقلاء! أليس الشأن أن تُحَب لا أن تَحِب، فما دمتم تريدون أن يحبكم الله فحبه لا يأتيكم من طريق عبادة غيره وتأليه مخلوقاته، وأنا أرشدكم إلى الطريق الذي يصل بكم إلى أن يحبكم الله، فتسعدوا بحبه وتكملوا، ألا وإنه اتباع رسوله النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، اتبعوه يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، هذه من اليقينيات، وهل يتم حب للعبد من الله بدون أن يمشي وراء خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم؟ والله ما ظفر به ولا حصل عليه أبداً.

    معشر المستمعين والمستمعات! من أراد أن يظفر بحب الله تعالى له فليمش وراء رسوله، يرفع رجله كما يرفعها رسول الله ويضعها كما يضعها رسول الله، ويتناول اللقمة كما يتناولها رسول الله، ويركب ويهبط على نهج رسول الله، وينام ويستيقظ على نهج رسول الله، ويقضي ويحكم بما حكم وقضى به رسول الله، هذا الذي يظفر بحب الله، ومن طلب حباً لله من غير هذا المسلك فوالله ما ظفر به ولا حاز عليه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وقد شرحنا هذا الموضوع.

    سر جلب اتباع رسول الله محبة الله تعالى للعبد

    كيف كان اتباع رسول الله يجلب حب الله ويحققه للعبد؟ ما السر في هذه القضية؟

    إن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه العقائد والعبادات والآداب والأخلاق من شأنها أن تزكي نفس العبد وتطهر روحه، فإذا زكت روح العبد وطابت وطهرت أحبه الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيبين، وقد أصدر حكمه على الخليقة كلها بقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي: نفسه. وتزكية النفس تتم بماذا؟ هل بالماء والصابون؟! يا عبد الله! بم تزكي نفسك؟

    زكها بهذه العبادات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدها كما بينها فتنتج بحمد الله زكاة نفسك، وتطيب روحك، وتصبح بين الصالحين طاهر النفس، ويدل على ذلك أنه لا خبث ولا تلوث ولا ظلم، ولا شر ولا فساد؛ لأن النفس طابت وطهرت، فكل ظلم وخبث وشر ناتج عن خبث النفس أولاً.

    وقد رمز إلى هذا الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ قال: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )، فمحط الطهر والزكاة في القلب والقلب مقر النفس.

    إذاً: متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الخراءة، تبول كما كان يبول رسول الله، تتابعه في كل شيء، فهذه المتابعة تنتج للعبد المتابع بصدق زكاة روحه وطهارتها، ويومها يحبه الله عز وجل، ويصبح من أحباء الله، ومن أحبه الله أسعده والله وما أشقاه؛ إذ كيف يشقي أولياءه؟!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088511351

    عدد مرات الحفظ

    777038068