أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال -فداه أبي وأمي- صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا رجاءنا، فإنك مولانا ولا مولى لنا سواك.
وقد انتهى بنا الدرس ونحن في سورة آل عمران إلى هاتين الآيتين الكريمتين، وتلاوتهما بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:116-117].
أولاً: الكفر معناه: الجحود، يقال: كفَر نعمة الله، أي: جحدها، وفلان كفر ما كان بيننا وبينه من الخير والبر والإحسان، أي: جحده، فالكافر جاحد، وهذا الجحود يتناول أولاً -كما هو مذهب البلاشفة الشيوعيين والملاحدة الدهريين-: جحود وجود الخالق عز وجل، وهذا كفر باطل هابط ممزوج مردود، ولا يقول به إلا هؤلاء الذين صنعهم اليهود بأفرادهم، وإلا فالفطرة البشرية تصرخ بوجود خالقها ورازقها ومدبر أمرها، بل مضت قرون على البشرية -آلاف- ما أنكر فيها أحد -عربي أو أعجمي- وجود الله، وما كان إنسان من عهد آدم إلى هذا القرن يوجد من ينكر وجود الله، إذ الفطرة تعد هذا وتقرره، لكن لعبة اليهود التي صنعوها واستطاعوا أن ينجحوا فيها فقد أوجدوا المذهب الشيوعي الدهري البلشفي، فقالوا: لا إله والحياة مادة!
وأُطايبكم بتلك اللطيفة: حدثنا أحد إخواننا كان مهاجراً من فرنسا إلى المدينة، يقول: كانت له صديقة فرنسية أيام كان عيشه في فرنسا، هذه الصديقة أُصيبت بالإلحاد؛ لأن المدارس علمانية، ولذلك من أراد أن يدرس الدين فليدرس في المدارس الخاصة، أما مدارس الحكومة فمدارس علمانية، فقد كانوا يعلمونهم الإلحاد، ونظرية داروين انتقلت حتى إلى بلاد العرب ودرسوها في الثانوية والكليات، ولا عجب؛ لأننا تابعون إلا من رحم الله، فهذه الصديقة التي تبلشفت -وهي مسيحية- كلما ذكرها بالخالق، بالرب تعالى تسخر منه، وتقول: أنت متخلف، أنت رجعي، إلى متى وأنت هابط؟ قال محدثنا غفر الله له: وشاء الله أن تتزوج وتحبل، ثم بلغه أنها مريضة في المستشفى، وأن الطلق يهزها لتضع، قال: فدخلت عليها وسمعتها تصرخ: يا رب، يا رب، يا رب، قال: فتعجبت، فأخرجت ألف فرنك أو ألفين وقلت لها: نادي كما كنت تنادي بهذه، لم عجزت الآن؟! وقبل ذلك كان إذا ذكرها بالله تخرج الكيس وتقول: هذا هو الله الذي ينفعنا! لكن لما هزَّها الطلق وشاهدت الموت: الله، الله، يا رباه، يا رباه، قال: فلما أريتها الجنيه وقلت لها: ادع هذا، سخطت علي وغضبت وقالت: اذهب عني.
فهذه كانت بلشفية ملحدة، لكن لما دقت ساعة الهلاك وعرفت أيقنت أنه لا ينفع إلا الله، فهي تنادي: يا رباه، يا رباه، وقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم إبراهيم، أقوام نتلو قصصها في كتاب الله، فما مر بنا أن قوماً أنكروا وجود الله قط، بل وثقوا فيما تسمعون، فلم يوجد من ينكر وجود الله إلا هذه الطائفة التي كونها اليهود المعروفة بالبلاشفة والشيوعيين فقط، والبشر كانوا يؤمنون بالخالق الرازق، ويؤمنون بالتوسل إليه بالآلهة التي صنعوها وزينها لهم الشيطان، لكن لا ينكرون وجود الله، كذلك العرب كانوا في القمة في الشرك والعياذ بالله، وأنتم تسمعون عنهم في التاريخ أنهم كانوا يحلفون بالله ويؤمنون بالله! ومع هذا كما تسمعون في القرآن أنهم كانوا يسخرون من النبي والقرآن، ويكذبون بالبعث والجزاء.
والمراد من هذا: أن كلمة: (كفروا) لا تفهم منها أنهم اليهود فقط، أو النصارى أو العرب، بل يجب أن نعرف ما الكفر حتى نتجنبه، حتى نذهب من ساحته ونبعد من رائحته الكريهة.
فخلاصة القول: كل من جحد وجود الله، أو جحد أسماء الله، أو جحد صفات الله، أو جحد عبادة الله، أو جحد نبياً من أنبياء الله فضلاً عنهم جميعاً، أو كذب بخبر من أخبار الله، سواء أطاقه عقله واستطاع أن يفهمه أو لم يفهمه، أو كذب رسول الله في حادثة معينة من أمور الشريعة أو الدار الآخرة فهو كافر، والمؤمن هو الذي صدَّق بوجود الله، وبكل ما أخبر الله به، وآمن بكل ما أمر الله أن نؤمن به، ولو أن عبداً آمن بالقرآن الكريم وكذب فقط بآية واحدة وقال: مثل هذه لا أؤمن بها، فهل يبقى مؤمناً؟ والله لا يبقي مؤمناً، وإنما كفر بالله تعالى، كذلك آمن بكل الرسل إلا أنه قال: إن فلاناً -عيسى- لا أصدق أنه رسول الله، فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، إذ إن الكفر: التكذيب والجحود والإنكار لله وبكل ما أمر به من الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والقضاء والقدر، والبعث والجزاء، وأحوال الآخرة وما يقع فيها من شقاء أو سعادة، فذلكم الكافر، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] بهذا المعنى.
وهنا لطيفة: لمَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]؟ لأن كفرهم سببه المال والولد، والحفاظ على أموالهم وأولادهم حملهم على أن يكذبوا رسول الله، والاعتماد عليهما -المال والولد- على أن صاحبهما لا يشقى ولا يكرب ولا يحزن ولا يخسر في الدنيا، هذه النظرية باطلة، وذكر تعالى المال والولد لعلمه بخلقه، وأن الكافرين يعتزون بأموالهم وأولادهم، كالاعتزاز أيضاً بالجيوش، والاعتزاز بالوطن، والاعتزاز بالحيل، وبالتالي كل من كفر لا بد وأن لكفره عاملاً وسبباً من الأسباب، وأكثر ما يحمل على الكفر هو الحفاظ على المال والولد، إذ الاستغناء يجعل هذا الغني لا يبالي بما يُطلب إليه من الدين، أو ما يُدعى إليه من الإيمان والعمل الصالح، وصدق الله إذ قال: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]، وتأمل واقعنا تجد المؤمنين كغيرهم، إذ إن أكثر الذين يعرضون عن ذكر الله سبب ذلك اعتزازهم واستغناؤهم بأموالهم وأهليهم، فأبطل تعالى هذا بقوله: لَنْ [آل عمران:116] التي تفيد التأبيد، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:116]، فإذا أراد أن يضربهم في الدنيا بوباء من الأوبئة، بأن يسلط عليهم عدواً من أعدائهم، بأن يسلبهم عقولهم، بأن يفني ما لديهم وما عندهم من الأولاد والمال، فهل هناك من يرد عنهم شيئاً؟! تُغني عنهم أموالهم وأولادهم؟! لا؛ لأن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الخير للإنسان أن يفزع إلى الله ويلجأ إليه ويحتمي بحماه، أما أن تغتر نفسه بما لديه من سلطة أو جاه أو مال، ويعرض عن الله معتزاً بما عنده، والله لن يغني عنه من الله شيئاً متى أراده الله؛ لأن كثيراً من كفار العرب -الذين كفروا وحاربوا- كانوا معتزين بأموالهم وأولادهم، فهذا الوليد بن المغيرة كان معتزاً بأولاده وماله، واقرءوا ذلك في سورة المدثر، اليهود كذلك حافظوا على كفرهم وأبوا الإسلام معتزين أيضاً بأموالهم ورجالهم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران:10]، متى أراد أن يُنْزِل بهم نقمه، وأن ينزل بهم عذابه.
فأولاً: ما هي هذه النار؟ لولا أن الله عز وجل أوجد لنا جزءاً منها من سبعين جزءاً، لكان البشر يكذبون بشيء ما عرفوه، فقطع الله عز وجل عليهم الحجة وأرانا النار، وبها نصطلي ونستدفئ ونطبخ، فهي موجودة، فمن ينكر هذه النار؟! جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، هذه النار وهذا اللهب وهذه الحرارة أصلها من تلك النار التي هي في عالم أسفل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن نارنا هذه جزء من سبعين أو ستين جزءاً من نار الدار الآخرة.
ثم هذا الكوكب النهاري -كوكب الشمس- بإجماع البشر على أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، هذا الكوكب كله نار، فمن أوجد نار هذا الكوكب؟ آباؤنا؟! أجدادنا؟! أيضاً هذا الكوكب الناري -كما نقول غير ما مرة- ما دام أنه أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فقد قال علماء الإسلام قبل أن يعرف هذا علماء الكفر: لو وضعنا البشرية كلها في الشمس فقط ما سدت جزءاً أو زاوية من زواياها! مع أنه كوكب يجري ويسبح بهذه الضخامة والعظمة طول الحياة، فمن أوجده؟ تلقائياً؟! أتوماتيكياً؟! خرافة الهابطين وسفه السافهين، إنه الله خالق كل شيء.
فهذه النار وصفها الله تعالى بأوصاف لو يؤمن بها العبد وتُتلى عليه أو يتلوها يخر مغشياً عليه، وحسبنا منها ما بلغنا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم من أن بعض الناس الأشقياء يوضع في تابوت -صندوق- من حديد ويغلق عليه، ويقذف في ذلك العالم فيعيش بلايين السنين، لا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا ينطق، ويمزقه الخوف والجوع والعذاب ملايين السنين، فكيف نأكل أو نشرب؟! كيف نضحك؟!
وهذه النار قد عُرضت في ذلك المحراب، شاشة بيضاء قبل أن تعرف البشرية عرض دور السينما وشاشات التلفاز، والله لقد عرضت في محراب رسول الله، في جداره الذي يصلي إليه، وقد شاهدها وشاهد النساء فيها، وآلمه لهبها في وجهه حتى رجع القهقرى، حتى أشاح بوجهه، وليس ذلك العرض الهابط الكاذب، وإنما عرض حقيقي.
ثم ليلة الإسراء والمعراج عند عودته مر بها وشاهد ما يتم وما يجري فيها، هذا العالم العظيم، هذه النار حروفها قليلة: (ن، ر، ا) لكن ماذا نعرف عنها؟ لو نستعرض آيات القرآن.
أما طعامها وشرابها فالحميم والزقوم، والحميم هو: الماء الحار الذي يشوي الوجوه، والله ما يرفع الإناء ليشرب ويدنيه من وجهه من شدة الظمأ والعطش حتى تتهرى بشرته وتنزل، أما الضريع: فهو الشوك، وقد عرفه العرب في صحرائهم، وهو طعام أهل النار، وكذلك الزقوم، وحسب الأشقياء أن يعيشوا في عالم يفقدون آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم، فلا يعرفهم أحد ولا يعرفونه بلايين السنين، فأي نار هذه؟! ماذا نقول؟!
ضرس أحدهم كجبل أحد، إذ يخلق الله تعالى لهم أجساماً ما هي كأجسامنا هذه، وإنما يخلقهم خلقاً جديداً، عرض ما بين كتفي الكافر في النار والله كما بين مكة وقُديد، مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، فإذا كان عرضه هكذا فضرسه والله كجبل أحد، إذ كيف يعيشون ملايين السنين لو لم تكن أجسامهم هكذا؟! كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56].
لطيفة: لما قدَّم أبو جهل -عليه لعائن الله- لأولاده العجوة من المدينة وصِحاف الزبدة قال: تعالوا نتزقَّم، هذا هو الزقوم الذي يهددنا ويخوفنا به محمد، فكلوا العجوة والزبدة، فأنزل الله تعالى فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، جاء في سورة الدخان قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-48]، وقولوا له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، ذق هذا العذاب الروحي الذي هو أشد مليون مرة من العذاب البدني، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:49-50] أي: تشكون.
وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [آل عمران:116]أي: أهلها الذين لا يفارقونها، هُمْ [آل عمران:116]أي: لا غيرهم، فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] والخلود: البقاء الأبدي، فلا يموتون ولا يحيون، ولا تنتهي النار أبداً، ولم يشأ الله نهايتها وإفناءها والقضاء عليها، إذ خلقها لحكمة فلا تخرج عن حكمته، فهل عرفتم جزاء الكفار؟
إذاً: فهيا نحمد الله على أنا مؤمنون: الحمد لله، الحمد لله، بينما أمثالنا بلايين هم كافرون في الشرق والغرب.
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] من أموال في هذه الحياة الدنيا، وليس ينفقونها على أبدانهم فيطعمون ويشربون ويكتسون ويسكنون، وإنما أناس ينفقون الأموال لإطفاء نور الله، وقد نجحوا في ذلك، مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117]، لهذه الأغراض السيئة.
هذه الريح أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117]، والمراد من الحرث: ما يحرث للأرض من سائر الزروع، كالبر والذرة والشعير وما إلى ذلك، أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرع قوم.
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]، وهل يوجد إنسان يظلم نفسه؟ إي نعم، ومسكينة تلك النفس التي بين جنبيه، فبها يسمع ويبصر وينطق ويقوم ويقعد، هذه الروح التي أُودعت في جسمه كأرواح الملائكة طهراً وصفاء، ونوراً وإشراقاً، فيؤاخذ بمجرد أن يصل إلى مستوى التكليف، وتصبح كلمته ينعكس ظلها على روحه وحركته، كلما أذنب ذنباً صب عليها طناً من القاذورات والأوساخ، فهو بذلك قد ظلمها.
ثم هل أودعت نفسه في جسمه مظلمة، منتنة، عفنة، خبيثة؟ لا والله، وإنما نفخها الملك المكلف بنفخ الأرواح وهي نور تتلألأ، والذي حوَّلها من نور إلى ظلمة، ومن طهر إلى خبث، ومن خير إلى شر وفساد، يكون قد ظلمها.
إذاً: فكل الفجار والفساق والكافرين والمجرمين والمشركين والظالمين ظلموا أنفسهم، وليس من حقهم أن يفعلوا ذلك، ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117] فهل عرفتم بمَ ظلموها؟ أخذوا السياط وضربوها كالبهيمة بين أيديهم؟! لا، وإنما ظلموها بأن صبوا فوقها أطنان الذنوب والآثام، فاسودت وأظلمت وخبثت وتعفنت.
فهل يُرى ذلك في خارج الحياة؟ إي نعم، فأصحاب هذه النفوس الخبيثة هم الذين يزنون بنسائنا، هم الذين يحسدوننا على ما آتانا ربنا، هم الذين يتمنون زوال نعمة أنعم الله بها علينا، هم الذين يحتالون علينا ويأخذون أموالنا، أليس هذا مظهراً من مظاهر هبوط النفس واسودادها وخبثها؟ وهل صاحب الروح الطاهرة النقية يفجر؟! والله ما يفجر، وهل صاحب الروح النقية الطاهرة يكذبك؟ والله ما يكذبك، وهل يمد يده إليك ليأخذ مالك أو يخنقك؟ والله ما كان؛ لأن روحه مشرقة طاهرة، إذاً: فمن هو الذي يأتي هذه الجرائم؟ صاحب الروح الخبيثة، إذ إنه كلما ازداد خبثها ازداد شر هذا الخبيث وظلمه وفساده.
أنتم الآن هادئون سالمون راضون، فلو الآن يسب بعضكم بعضاً، ويشتم بعضكم بعضاً، ويلْكِمُ بعضكم بعضاً، فإذا بالدماء تسيل، وإذا بالجيش يطوقكم، وإذا بكم تبيتون في السجن، فهل ظلمكم الله أم ظلمتم أنفسكم؟
كذلك لو تذهب الآن إلى بيتك وتقول لزوجتك: يا أم إبراهيم هات الشحم واللحم كله، فأكلت حتى امتلأ بطنك، وأصبحت لا تستطيع الحركة، ثم نقلوك إلى المستشفى، فهل ظلمك الله أم ظلمت نفسك؟
أيضاً الآن أنا ظالم لنفسي بينكم والله العظيم، فقد شعرت بمغص هناك، ثم خف الآن والحمد لله، وذلك بأني شربت أربعة أكئوس من الشاي الأخضر، مع أن أكلي كأكل الطفل، وغدائي لا يغدي طفلكم، لكن مع فراغ البطن أربعة أكئوس من الشاي أصابني المغص، فهل ظلمني الله؟ لا، وإنما ظلمت نفسي، وقد هممت أن أقول للدكتور: ماذا أعمل لهذا المغص؟ ما هو الدواء؟ لكن الله لطف فسكتُ، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117].
كذلك لما استولى علينا الشرق والغرب وحكمنا، هل ظلمنا الله؟ حاشا لله، وإنما ظلمنا أنفسنا؛ لأننا انقدنا وجرينا وراء الباطل، وجهلنا بربنا وعصيناه، وفسقنا عن أمره وعبدنا سواه، ومزقنا كلمتنا وشتتنا أمتنا وأصبحنا مذاهب وطوائف، فدقت ساعة الانتقام، فأذاق الله أمة الإسلام العذاب، وهذا الذي نصرخ به، وأن الأمة الإسلامية متهيئة وأنها تحت النظارة، ووالله إن لم تتدارك بالأمة بالتوبة الصادقة، فتجتمع على كتاب الله، وتعود إلى منهج رسول الله، لنزل بها بلاء أعظم من بلاء الاستعمار، والغافلون ما يشعرون بهذا.
أمة الإسلام أصبحت أمماً تعبد الطين والوطن، وتُعرض عن ذكر الله وكتابه، وتتعلق بالأوهام والضلالات، وتعتز بالباطل، فلا إله إلا الله! إلى أين تريد أن تصل هذه الأمة؟ ولكن أنفسهم ظالمون لها، والله ما ظلمهم أبداً.
كَفَرُوا [آل عمران:116] ]: كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه.
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمران:116]: لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، إذ لا مال يومئذ ينفع ولا بنون.
مَثَلُ [آل عمران:117] أي: صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام أو للتصدق به ] وهم كافرون، فهل تنفعهم صدقاتهم من بناء المستشفيات وتوزيع الأدوية مع السعي إلى تكفير الناس؟! كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ [آل عمران:117]، والآن الصليبيون ينفقون أموالاً طائلة، فهل هذه تغني عنهم من الله شيئاً؟ إن مثلها: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117]، والله لا ينتفعون بحسنة؛ لأنهم كفار، وينفقون ضد الإسلام للتنصير والتكفير.
قال الشارح: [ الصر: الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده، الحرث: ما تحرث له الأرض وهو الزرع.
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:117]: حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار ].
لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال، ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب؛ ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:116] أي: كذبوا الله ورسوله، فلم يؤمنوا ولم يوحدوا، لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [آل عمران:116] أي: في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإغناء؛ لأن الله تعالى غالب على أمره، عزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:116] فيه بيان حكم الله تعالى فيهم، وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد، هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً، ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرون بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة: لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.
هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية: فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين، وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة، ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد -أي: الزرع- وهم به فرحون، وفيه مؤملون، فأفسدته تلك الريح، وقضت عليه نهائياً، فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ [آل عمران:117] أي: أولئك الكفار، فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:117] أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر، كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ [آل عمران:117] أي: تلك الريح الباردة، حَرْثَ قَوْمٍ [آل عمران:117] أي: زرعهم النابت، فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران:117] أي: أفسدته، فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وَمَا ظَلَمَهُمُ [آل عمران:117] حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد، فجزاهم الله بالحرمان، وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسهم، قال تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [آل عمران:117] ].
أولاً: لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.
ثانياً: أهل الكفر هم أهل النار، وخلودهم فيها محكوم به، مقدر عليهم لا نجاة منه.
ثالثاً: بطلان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر ] فقد يعمل العبد عشر سنين أو خمسين سنة وهو صائم قائم، وإذا بكلمة كفر تخرج منه فتمحو ذلك كله، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، أي: أن بطلان العمل الصالح هو بالشرك وبالموت على الكفر، ومن هنا نعلم أن المشرك يصوم ويتصدق، فهذا الكافر عبد الله بن جدعان الذي سألت عنه أم المؤمنين الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: ( ما تقول فيه يا رسول الله؟ قال: هو في النار، قالت: كان يذبح في الحج الواحد ألف بعير، ويكسو ألف حلة )، من يفعل هذا؟! قال: ( هو في النار؛ لأنه مات على الشرك، مات ولم يقل يوماً: رب اغفر لي وارحمني ).
[ رابعاً: استحسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني ]، فالله ضرب المثل من أجل أن يقرب المعنى إلى الناس ولينتفعوا بما يسمعون، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر