القرآن مدرسة لأتباعه، يرشدنا الله فيه إلى حسن المعاملة مع أهل الكتاب، وأن نجادلهم بالتي هي أحسن ولا نسارع برد ما يقولون، بل نؤمن بكل ما أنزل إلينا وإليهم مما لم تتسلل إليه يد التحريف، ونعلن الخضوع لربنا وربهم سبحانه، ومن هنا تظهر جلالة هذا الكتاب وشمولية أحكامه، ولذا فإن المنصفين من أهل الكتاب بل حتى الكفار يؤمنون به وبمن أنزل إليه، كيف لا وهم يرون هذا النور العظيم والصراط المستقيم ينزل على من لا يقرأ ولا يكتب، وإنما كفر به من كفر بسبب جهله وظلمه، وإلا فأهل العلم لا يمترون فيه ولا يعرضون عنه.
تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وما زلنا مع آيات سورة العنكبوت المكية المدنية، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
ومن غريب الآية: أنها مكية وأخبرت بما سيكون في المستقبل، فليس في مكة أهل كتاب ولا من يجادل، لكن سوف تهاجرون وتتصلون باليهود في المدينة والنصارى في الشام.
وهذا من إخبار الغيب الذي وقع كما أخبرت الآية، والسورة مكية وليس في مكة جدال لأهل الكتاب ولا وجود لهم، لكن في المستقبل بعد عشر سنوات تم هذا.
وقيل فيهم أهل كتاب؛ لأن اليهود بأيديهم التوراة وهم أهلها، والنصارى بأيديهم الإنجيل وهم أهله، فلهذا هم أهل الكتاب، أي: أصحاب الكتاب.
والمراد من الكتاب: التوراة والإنجيل.
معنى قوله تعالى: (إلا بالتي هي أحسن)
وقوله: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، أي: بالكلمة الطيبة.. بالحجة الباهرة.. بالدليل القطعي.. بوجه طلق وابتسامة، فإن قبلوا واستجابوا فهنيئاً لهم، وإن لم يقبلوا ويستجيبوا فيا خسرانهم، وما أنتم بمسئولين عنهم.
أما الغلظة والشدة فلا، دعوتنا إلى الله تكون بالتي هي أحسن، سواء مع اليهود والنصارى أو مع غيرهم.
هذا تأديب الله للمؤمنين وتربية لهم وتعليم، وقد تعلم وتربى ودخل في الإسلام ملايين الناس، فالذين أسلموا وهم أكثر الناس لم يسلموا بالعصا والحديد أبداً، بل بالكلمة الطيبة والدليل القاطع والبرهان الساطع.
معنى قوله تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم)
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، هذا استثناء، فالذين ظلموا من أهل الكتاب وهم الذين ما دخلوا في ذمتنا ولا تحت رايتنا بل ما زالوا يعلنون الحرب علينا ويقاتلوننا فهؤلاء لا جدال معهم ولا كلام وإنما الحرب والنار.
فهمتم هذا الاستثناء؟ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، وهم الذين ما دخلوا في ذمتنا ولا دخلوا تحت رايتنا ولا أدوا الجزية لنا، هؤلاء ليسوا أهلاً لأن نتكلم معهم ونربيهم؛ لأنهم لا يزالون على الكفر والعداء والحرب فكيف نجادلهم؟ كيف نتحدث معهم؟
هذه الجملة يجب أن يحفظها كل مسلم وأن يقولها عندما يجادل أهل الكتاب؛ لأن الأمر هنا للوجوب.
وَقُولُوا [العنكبوت:46] أي: لما تجادلون بالتي هي أحسن، ويقول لكم اليهود والنصارى كذا وكذا لا تقولوا كلامكم باطل أو كذب فقد تكذبوا الحق، أو تقولوا هذا حق وقد يكون باطل، فتكذبوا الحق وتصدقوا بالباطل، وهذا لا ينبغي.
نحن أما آمنا بالتوراة؟ أما آمنا بالإنجيل؟ أما آمنا بالزبور؟ آمنا بها. آمنا بالقرآن أم لا؟ وهم ما آمنوا فشأنهم.
وإلهنا وإلههم واحد أم لا؟ لا إله إلا الله، ونحن بصورة خاصة له مسلمون، وأنتم ما زلتم بلا إسلام أيها اليهود أو النصارى.
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به...)
ثم قال تعالى وقوله الحق: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [العنكبوت:47]، أي: كما أنزلنا التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والزبور على داود أنزلنا إليك أنت يا رسولنا الكتاب العظيم الفخم الضخم القرآن العظيم.
قال الكتاب بأل للتفخيم والتعظيم، وما قال: أنزلنا إليك كتاباً.
قال تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [العنكبوت:47]، أي: التوراة والإنجيل والزبور، وعرفوها وعملوا بما فيها يؤمنون به -أي: بالقرآن- وبنبي القرآن، ومن هؤلاء المشركين في مكة من يؤمن، وقد آمنوا.
إذاً لو كنت هكذا لارتاب المبطلون وشك الموسوسون والمرضى في قلوبهم وأصحاب الخواطر فيجدون منفذاً ويقولون: هذا كتبه وقرأه، لكن قطع الله هذا الطريق أبداً، فما كتب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلمة.
وأمّا موضوع كتابة الوثيقة فإنما أملاه على علي ونعت له فقط ولم يكتب رسول الله بيده شيئاً.
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، فالذين أوتوا العلم -أي: علم التوراة والإنجيل- يعرفونها معرفة حقيقية وهم الذين دخلوا في الإسلام، يعرفون الرسول قبل ما بعث، وينتظرونه متى يبعث، عارفين صفاته كاملة في ذاته.
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا [العنكبوت:49] إلى اليوم إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]، الذين يريدون أن يعيشوا على غير منهج الله، يفسقون ويفجرون ويظلمون، ما يؤمنون بالقرآن ولا بالشريعة؛ ليعيشوا على الكفر والفسق والفجور كالعلمانيين والبلاشفة الحمر الشيوعيين وما إلى ذلك.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات: من هداية الآيات:
أولاً: مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذِّمّة بالتي هي أحسن].
مشروعية جدال أهل الكتاب الذين هم تحت ذمتنا وفي بلادنا خاضعين لسلطاننا ويدفعون الجزية لنا.
هؤلاء لا بأس أن نجادلهم، ولكن ليس بالغلظة والخشونة والعنف بل باللين والرقة والعفو.
أمور الدين لا يسألون عنها أبداً، أمّا أمور الدنيا فلا بأس كالسؤال عن الزراعة والفلاحة والصناعة؛ لأن أمور الدين إذا سألناهم وقالوا شيئاً فما صدقناهم وهو حق نكون قد كذبنا الحق، أو قالوا لنا باطلاً وصدقناهم نكون صدقنا بغير الحق فهلكنا، فهذا توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ).
[ رابعاً: إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر، فيكون ذلك آية على أنه من وحي الله تعالى].
إخبار القرآن بالغيب قبل ما يقع يدل على أنه كلام الله ووحيه، إذ هذه الآيات نزلت في مكة قبل الاتصال باليهود والنصارى.
[ خامساً: تقرير صفة الأمية في النبي صلى الله عليه وسلم كما هي في الكتب السابقة ]. لو تقرأ التوراة والإنجيل تجد من صفات النبي الخاتم الأمية وأنه لا يقرأ ولا يكتب بقلم.