إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (40)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سنة الله عز وجل التي لا تتخلف ولا تتبدل أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن، فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد، فيناصر كل فريق أهل ولايته، ويحارب أهل عداوته، ثم الله عز وجل يعطي كل فريق ما يستحقه، فالصالحون في رحمة ربهم هم داخلون، وفي جناته ساكنون، وأما الفاسدون فإلى جهنم يحشرون.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس بإذن ربنا كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي زفت بسبعين ألف ملك ولهم زجل وتسبيح، هذه السورة تعالج ثلاث قضايا من أهم القضايا وأعظمها:

    الأولى: التوحيد، قضية أنه لا يوجد في العوالم العلوية والسفلية من يعبد بحق سوى الله، لا إله إلا الله، أي: لا معبود يستحق العبادة إلا الله، وذلكم لربوبيته، لكونه الخالق الرازق المدبر للخلق والكون، فكيف يعبد معه غيره؟! فربوبيته استلزمت ألوهيته.

    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية وإثباتها، وأن محمد بن عبد الله رسول الله ونبي الله.

    ثالثاً: مبدأ البعث الآخر، الحياة الثانية والجزاء فيها على الكسب في هذه الحياة.

    السورة تدور على هذه القضايا وتقررها.

    وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي ونستمع لتلاوتها مرتلة مجودة ونحن نتدبر ونتفكر فيها، ثم نشرحها بإذن الله ونعلم ما فيها من هدى الله، اللهم حقق لنا ذلك.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [الأنعام:129-132].

    المراد بتولية الله تعالى بعض الظالمين بعضاً

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، تأملوا هذه الآية الكريمة: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129].

    أولاً: تدل الآية دلالة واضحة قطعية على أن الظالمين -وهم الذين خرجوا عن صراط الله المستقيم، فكفروا وظلموا وفسقوا وخرجوا- هؤلاء من الإنس والجن يولي الله تعالى حسب سنته بعضهم بعضاً.

    وتقدم بالأمس أنهم قالوا: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128]، الإنس والجن عالمان، الشياطين منهم الظلمة الكفرة الفسقة هؤلاء يتولى بعضهم بعضاً، وينتفع بعضهم ببعض، وهذا اعترافهم: اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128].

    وهذا شأن الظالمين من الناس كذلك، يولي الله تعالى بعضهم بعضاً، الظالمون في أي مكان كلمتهم واحدة ويدهم واحدة، وسواء كانوا فجرة أو فسقة أو ظلمة، الفجار الخارجون عن حدود الله أمرهم واحد ونهجهم واحد، وهكذا تدل الآية دلالة واضحة على أنه من سنة الله تعالى أنه يولي الظالمين بعضهم بعضاً، فيتناصرون ويتعاونون على ظلمهم وباطلهم وشرهم وفسادهم، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو أمماً وشعوباً، أما تعاون الشيوعيون في العالم؟ أما تولى بعضهم بعضاً؟ إذاً: هذه سنة الله عز وجل.

    وتدل الآية دلالة أخرى على أن الله يسلط الظالمين على الظالمين ويوليهم عليهم، وحصل هذا ويحصل.

    والمهم أن نتبرأ من الظلم وأهله، أن نتبرأ من الظلم والظالمين، هذه سنة الله تعالى فيهم.

    وتدل الآية دلالة أخرى أيضاً على أن أهل القرية أو الشعب أو الأمة إذا ظلموا يظلمهم حكامهم ويصبحون ظلمة لهم، أما قال: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [الأنعام:129]، أهل إقليم لو استقاموا ولجئوا إلى ربهم في صدق وقالوا: آمنا بالله، واستقاموا على منهج الله كيف يحكمهم حاكم ظالم؟ من أين يأتي؟ من أبنائهم وإخوانهم يفسق ويظلم وهم صالحون؟! والله ما كان، ما عليه إلا أن ينسجم معهم فيصلي ويستقيم.

    استقامة الناس وسيلة محققة لعدل الحاكم

    أيما إقليم من أقاليمنا الإسلامية من إندونيسيا إلى موريتانيا لو أن أهله فزعوا إلى الله ولجئوا إليه لا بالضجيج والصياح والقتال والهيشات، لكن بالإنابة الصادقة إلى الله، وأسلموا قلوبهم ووجوههم لله عز وجل، وتراحموا وتعانوا حتى تنتهي مظاهر الفسق والظلم والخبث والشر والفساد، فكيف سيكون الحاكم؟ يكون مثلهم أو أكثر تقوى منهم.

    سنة الله لا تتبدل: الطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، سنن لا تتبدل، وكذلك الظلم والفسق والفجور والخروج عن منهج الله يسبب تسلط الظالمين المعتدين.

    والاستقامة الربانية الصادقة كذلك، يولي الله تعالى المستقيمين على المستقيمين، كما ولى المعوجين على المعوجين، سنته لا تتبدل.

    فالذين يريدون أن يصلحوا أقاليمنا الإسلامية وهي تعيش على هذا الباطل ماذا يصنعون؟ هل يأتون بـعمر بن الخطاب ؟ والله ما ينفع، أقسم بالله أنه لو جاء عمر فلن يقدر، بل لا بد أن تكون دعوة ربانية، أهل البلاد يؤمنون حق الإيمان ويسلمون الإسلام الحق ويستقيمون على منهج الله، ويعرفون الطريق إلى الله، ومن ثم فأيما حاكم يقودهم باسم الله.

    فالنظرية التي تقول: طريق الحاكمية القتال حتى نقيم الدولة الإسلامية نظرية باطلة، ولن تنتج إلا الخراب والدمار، يا شيخ!كيف تقول هذا؟ لقد قلنا هذا منذ خمسين سنة، والإخوة المسلمون هائجون في كل مكان، فأثبتوا أن شيئاً تحقق؟ هل قامت دولة إسلامية في دولة من العالم؟

    إن القضية ما هي بقضية نظرية، قضية علم وحقيقة شرعية، ائت إلى أهل البلاد وأصلحهم وأنت متخل عن السياسة تمدح الحاكم حتى لا يغضب، وانشر دعوة الله، فإذا استقام أهل البلاد وأصبحوا ربانيين حكمهم الإسلام.

    أما أمة فيها الزاني واللوطي والمجرم والمرابي والجاهل والخرافي والمشرك وتريد أن تقيم فيها دولة إسلامية بالكلام أو بالحديد بالنار فلن يتم هذا، ها هي قد مضت السنون فهل حصل شيء؟ وعلة هذا البعد عن منهج الله المستقيم، أعرضنا عن كتاب الله وقرأناه على الموتى، وهجرنا آيه، وما تتبعنا نوره ولا هداه فنحن نتخبط في حيرتنا.

    يقول تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي [الأنعام:129]، من الذي يولي؟ الرب جل جلاله، بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [الأنعام:129]، وقال معللاً: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، أي: بكسبهم لأنفسهم، ما هو بظلم الله لهم فولاهم فقط لجبروته وقدرته، ولكن بكسبهم، وهذا الكسب لو كان خيراً فلن يسميهم ظالمين، هذا كسب الشر والجرائم والموبقات، سلط الله بعضهم على بعض، أو ولى بعضهم بعضاً وتناصروا وهكذا.

    معاشر المستمعين والمستمعات! هل فهمتم من هذه الآية ما قلت لكم؟

    وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، قالوا في عرصات القيامة: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128]، خدمونا وخدمناهم، عاونونا وعاوناهم، وقفوا إلى جانبنا ووقفنا إلى جانبهم، هؤلاء عالم الإنس والجن باعترافهم، فهم الآن أيضاً ينصر بعضهم بعضاً، لا يوجد ظلم وظلمة إلا وأهله ينتصر بعضهم لبعض، ولكن قد تمضي فيهم سنة أيضاً أن يسلط الله بعضهم على بعض فيدمر بعضهم بعضاً، ووقع في التاريخ ويقع.

    بيان سبب البلاء المسلط على أمة الإسلام في العصر الحاضر

    واللطيفة التي لا ننساها: (كيفما تكونوا يولَّ عليكم)، لما فجرنا وفسقنا وأشركنا بربنا وعبدنا القبور، وظلم بعضنا بعضاً، وانتشر فينا الفساد سلط الله علينا أوروبا من هولندا إلى إيطاليا وأسبانيا فشردونا وحكمونا؛ لأننا انحرفنا وفسقنا وخرجنا عن طريق الله، ما أصبحنا أولياء لله، يوجد بيننا أولياء وصالحون رحمهم الله، فسلط أوروبا علينا حتى خف ذاك الضغط والتنكيل والتعذيب الذي كان بين المسلمين، وأنتم لا تعرفون هذا، كان الإنسان إذا أراد الانتقال من قرية إلى قرية لا يمر إذا لم يدفع جزية، اللصوص والمجرمون في الطرقات وفي كل مكان، في المدينة قالوا: كان المجرم يأخذ الباب ويبيعه، وإياك أن تقول: هذا بابي. هبطت هذه الأمة هبوطاً كاملاً.

    إذاً: فتدبير العلي العظيم الحليم الكريم أن سلط علينا من شاء أن يسلط، واقرءوا: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129]، ولما استقللنا وتحررنا من هولندا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا؛ فبدل أن نشكر الله عز وجل ونقبل عليه بإنابة صادقة وإسلام صحيح حتى تنتصر دعوة الله وتعلو راية الإسلام، عملنا العكس: أقبلنا على الشهوات والمناصب والوظائف والتكالب على الدنيا وأوساخها حتى أصبحنا أسوأ مما كنا، ماذا نفعل؟ أسألكم بالله -يا عقلاء- أليس هذا هو الواقع؟

    أما ينظر الله كيف نعمل بعدما نجانا من حكم الكافر، أما ينظر كيف نتصرف؟ ثم ينظر كيف تعملون، فبدل أن نشكر الله ونطبق شرعه ونستقيم على منهجه عكسنا القضية من جديد، وها نحن تحت النظارة، وسوف أموت وتذكرون، إما أن ينقذ الله العالم الإسلامي بتوبة صادقة وإما أن يسلط عليهم بلاء لا نظير له ما عرفوه.

    والنجاة النجاة، كل بلد فيه مؤمن عليه أن يطلب النجاة لنفسه فيتبرأ من تلك التكتلات والأباطيل ويلزم باب الله عز وجل حتى يتوفاه الله مسلماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088462853

    عدد مرات الحفظ

    776871778