إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (43)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان العرب في الجاهلية يشرعون لأنفسهم شرائع باطلة، ومن ذلك أنهم حرموا أكل بعض الأنعام على أناس دون آخرين، وحرموا ركوب بعض الأنعام دون بعض، وبعض الأنعام لا يذكرون اسم الله عليها، ولا يحجون عليها، وهي بزعمهم للآلهة، كما أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على نسائهم، وجعلوها خالصة للرجال منهم، يشربون ألبانها، ويأكلون لحومها، أما إن كان ميتاً فيتشارك فيه النساء والرجال، وكلها أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، إن هي إلا ضلالات وافتراءات منهم على الله العزيز الجبار.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    والآن أعيد إلى أذهانكم أننا مع سورة الأنعام المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة التي تعالج أعظم قضايا في الدين الإسلامي، ألا وهي: توحيد الله عز وجل بألا يعبد في الكون سواه.

    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية، وأن محمداً رسول الله حقاً وصدقاً.

    ثالثاً: اللقاء يوم القيامة مع الله ثم الحساب والجزاء، إما بالنعيم المقيم، أو بالعذاب الأليم.

    رابعاً: صحة هذه الشريعة وصدق ما فيها من الحكم والأحكام الشرعية.

    السورة تدور على هذه القواعد الأربع.

    وها نحن مع هذه الآيات، فلنستمع إلى ترتيلها مجودة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما فيها من الهدى والخير.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:136-140].

    تحقق الكمال والسعادة في العلم بكتاب الله تعالى والعمل به

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم بأن العرب أهل هذه الديار كانوا يعيشون في ظلمات الجهل وظلمات الشرك والكفر، وكانوا أحط الناس، ولكن الله عز وجل أكرمهم بأن اصطفى من بينهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه كتابه، فآمنوا واهتدوا وكملوا وسعدوا، وما زالت هذه الدعوة المحمدية قائمة إلى يوم القيامة، ما من فرد أو أسرة أو أهل قرية أو مدينة أو إقليم يأخذون بهدي الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا كملوا وسعدوا في الدارين؛ لأنه دواء صانعه الله عز وجل، العليم بالعلل والأسقام والأمراض، فهو دواء لكل العلل والأسقام والأمراض، فمن أقبل عليه في صدق واستعمله في نية صادقة شفاه الله عز وجل.

    وعلى سبيل المثال: لما عم الشر والظلم والخبث والفساد العالم الإسلامي استعمرتنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وحتى هولندا العجوز، من إندونيسيا إلى موريتانيا، فكيف يسود الكفر الإيمان؟ كيف يحكم الكافرون المؤمنين؟ والجواب: أعرضنا عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم فنزل بنا ما نزل.

    وشاء الله تعالى أن يقيم الحجة له على البشرية كلها، في الوقت الذي صفق الشرق والغرب وزغردوا وولولوا وقالوا: انتهى الإسلام، ولن تعود له دولة، ولن يسود فيه طهر ولا صفاء. وظنوا أنهم بلغوا منتهاهم فلن ترفع راية لا إله إلا الله بعد اليوم، فجاء الله بـعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مع مجموعة من أصحابه وأقام الله تعالى بهم دولته في هذه الديار، ولا ينكرها إلا أحمق أو جاهل أو مريض، وطهر الله هذه الأرض كما طهرها على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق من يحلف بغير الله، ولا من يذبح أو ينذر لغير الله، ولم تبق قبة ولا قبر مشيد مصان عليه تابوت يعبد من دون الله من طرف المملكة إلى طرفها، وساد حكم الله فأقيمت الصلاة في العسكر والمدنيين والأغنياء والفقراء أجمعين، وجبيت الزكاة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقيمت حدود الله فرجم الزناة، وقتل القتلة، وقطعت أيدي السراق، وتجلت حقيقة هذه الملة المحمدية، ووقف ضدها الأبيض والأسود، وارتفعت راية تحمل هذا اللفظ الكريم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ومعنى هذا: إن أرضاً تظلل هذه الراية لا يعبد فيها إلا الله ولا يتابع فيها إلا رسول الله، هذا هو الرمز الحقيقي، ووجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأعداء يحاولون ليل نهار إطفاء هذا النور، اللهم لا تعنهم عليه. فعرف العالم من جديد أن القرآن والسنة لو حكما في أي أرض ساد أهلها وطابوا وطهروا، عرباً كانوا أو عجماً، أغنياء أو فقراء.

    فهيا بنا إلى ما ذكر تعالى لنا من معايب أهل هذه البلاد قبل أن يلوح النور الإلهي في ديارهم، وهم مشركو العرب.

    توبيخ المشركين وذمهم في جعلهم نصيباً لله تعالى وآلهتهم الباطلة من الحرث والأنعام وحيفهم في القسمة

    بالأمس عرفنا قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ [الأنعام:136] من هؤلاء؟ العرب والمشركون في هذه الديار. مِمَّا ذَرَأَ [الأنعام:136] أي: مما خلق، والخالق هو الله. مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ [الأنعام:136] الحرث ما يحرث من الزروع على اختلافها، والأنعام: الإبل والبقر والغنم، جعلوا لله نصيباً، وقلنا: هم في هذا مع جهلهم خير من المسلمين لما جهلوا، لما جهل العرب والمسلمون كانوا إذا حرثوا أرضاً أو زرعوها أو غرسوا نخلاً أو زيتوناً ما يجعلون لله شيئاً، ولكن يجعلونه لسيدي فلان وفلان، والمشركون العرب يجعلون لله شيئاً ولآلهتهم آخر، فعجب هذا أم لا؟ وما رضي الله بهذا، لماذا؟ لأنه ما أذن لهم فيه، ما شرعه لهم، كيف يشرعون لأنفسهم؟

    ولامهم أيضاً وعتب عليهم أنهم يتحيزون، فالذي جعلوه لله إذا أنتج ولم ينتج الذي جعلوه للآلهة ينقلون ما جعلوا لله إلى الآلهة، وإذا كان العكس فلا، فقال تعالى وقوله الحق: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136].

    إهلاك الشياطين للمشركين وتلبيسهم عليهم في تزيين قتل أولادهم

    ثم قال تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137]، كهذا التزيين لهذا التشريع الباطل الذي جعلوا به لله من الحرث والأنعام نصيباً ولآلهتهم نصيباً، والله ما شرع ولا أنزل فيه وحيه ولا كتابه. قال: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ [الأنعام:137] من زين لهم قتل أولادهم؟ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137] آلهتهم، وهل آلهتهم تنطق؟ هل اللات أو العزى تقول: يا فلان! افعل؟ لا، فاللات والعزى مكان فقط والشيطان هو الذي يحل فيه، الشيطان هو الذي يزين، هو الذي يحسن، هو الذي يحدث الإنسان في خلوته ويفهمه ما يريد أن يفهمه، فالشيطان هو الذي زين لهم قتل أولادهم، ولماذا يقتلونهم؟

    بينا أنه لواحدة من ثلاث: إما مخافة الفقر، إما مخافة العار، إما أنه ينذره للإله الذي يعبده: إن تحقق لي كذا فسأذبح لك ولدي. وقد علمتم أن عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم نذره عبد المطلب للآلهة، ولما وجب ذبحه فداه بمائة من الإبل وهي الدية المعروفة، وهذا بتدبير الله حتى يكبر ويتزوج ويلد محمداً صلى الله عليه وسلم، تدبير ذي العرش، والشاهد عندنا في أنهم كانوا ينذرون أولادهم للآلهة.

    ابتلاء الله تعالى لخلقه بفعل الخير والشر ونفاذ مشيئته فيهم

    إذاً: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:137] يخلطوا عليهم، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137] وقفنا هنا وقفة، وهي أنه لو شاء الله ما عبدوا غيره، ما وجدت آلهة ولا أصنام، ما وجد شيطان، لكن الله -كما علمتم- أراد أن يخلق خلقاً فهيأ لهم هذه الأرض وعمرها لهم بكل مقوماتها، وأوجدهم فيها ليبتليهم، من كفر وعصى وتمرد عذبه، ومن آمن وأطاع أكرمه وأنعم عليه، فلهذا لو شاء أن يجعلهم موحدين لجعلهم، يخلقهم على ذلك، لكن الدار دار ابتلاء: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:1-2] لماذا؟ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] فمن كان أحسن عملاً أكرمه في الملكوت الأعلى وأسعده، ومن كان أسوأ عملاً أهلكه في عالم الخسران.

    وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:137]، لا تحزن يا محمد ولا تكرب إذا ما استجابوا أو عصوا، لو أراد الله ألا يشركوا لفعل، ولكنه الامتحان والابتلاء، فَذَرْهُمْ [الأنعام:137] إذاً واتركهم وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:137]، أي: يختلقون ويكذبون.

    حرمة تقحم مهالك التشريع بما لم يأذن به الله تعالى وسوء عاقبته

    وهنا بينا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يشرعا ولو كلمة، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة على الأرض أن يشرعا ديناً ولو كان كلمة، فالشرع حق الله، هو الذي يشرع، يحلل ويحرم، يأمر وينهى لعلمه، ولأنه الذي يجزي به، أما أنت فلا تعلم الغيب ولا ما يأتي به الغد وتشرع؟ وهل تجزي على ذلك العمل؟ هل تسعد عليه أو تشقي؟ الجواب: لا. فلا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلل أو يحرم أو يقنن أو يشرع.

    وقد يقال: يا شيخ! باستثناء هذه البقعة العالم الإسلامي كله لا يحكم شريعة الله، فماذا نقول؟ الجواب: انتظروا فقط، إن لم يتداركنا الله بتوبة عاجلة فسوف يحل بنا بلاء أمر وأشد ألماً مما سبق، فربنا بالمرصاد، اتركوهم يلهون ويلعبون ويقننون ويشرعون معرضين عن الله ورسوله وعن كتاب الله وشرعه، لكن إلى متى؟ هل عجز الله؟ ما هو إلا الإمهال، إلا الإنظار فقط، أما انتظر المسلمين قبل الاستعمار قروناً وهم يعبثون ويخلطون ويفسدون، وبعد ذلك أذاقهم مر العذاب أم لا؟ سلبهم الدولة والسلطان فتحكم فيهم عدوهم وأذلهم وأرخصهم حتى أصبحوا أرخص الناس.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088511671

    عدد مرات الحفظ

    777042360