إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (48)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الوصايا التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغها للعباد أن حرم عليهم قتل النفس بغير حق، إلا أن يأتي بما يستحق القتل كالزنى بعد الإحصان، والقتل، والردة عن دين الله، كما أبلغهم حرمة أكل مال اليتيم، فمن كان وصياً على مال يتيم فليس له أن يأكله، إلا أن يكون ذلك بالمعروف، مع الحرص على مال اليتيم، وأبلغهم بأنه يلزمهم إيفاء الكيل والوزن، والوفاء بالعهود، والعدل في القول، واتباع صراط الله المستقيم واجتناب السبل المنحرفة.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس بإذن الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .

    وها نحن في آخر سورة الأنعام ومع الوصايا العشر، فلنستمع إلى تلاوة الآيات الثلاث التي تحمل عشر وصايا من أجل الوصايا وأعظمها، نسمعها مرتلة مجودة من أحد الأبناء ثم نأخذ في شرحها وبيانها إن شاء الله.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:151-153].

    مكانة الوصايا العشر وتنزيلها في التوراة

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الوصايا العشر التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ( من سره أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام ) كما سمعتم.

    ذكرت لكم أن هذه الوصايا العشر هي في أول التوراة، وعبث بها اليهود وخرجوا عن دائرتها بالمرة فأشركوا وخانوا ونكثوا العهد، والآن أحد المستمعين الكرام قال: بعيني رأيت اليهود يعلقونها في صدورهم في قطعة من حديد، الوصايا العشر يعلقونها في صدورهم تبركاً بها كما نعلق نحن آية الكرسي في أعناقنا.

    سبحان الله العظيم! كثيرون منا يعلقون آيات ولا يعملون بها، فكذلك بنو عمنا عليهم لعائن الله أعرضوا عن تمثيلها بالمرة، وفي نفس الوقت يتبركون بها ويعلقونها في صدورهم، لا إله إلا الله! البشرية هي البشرية، إذا خرج الإنسان عن سبيل الله تخبط في كل ميدان.

    وقد ذكرت لكم أنه ينبغي أن نحفظ هذه الوصايا العشر أولاً، لو نحفظ الآيات كما هي فعلى الأقل نحفظ الوصايا وصية وصية، عشر وصايا من أعظم الوصايا، والذي يهملها يهلك، ومن وفق لمعرفتها وتطبيقها نجا وفاز وسعد.

    الوصية باجتناب الشرك

    أول وصية: ألا نشرك بالله شيئاً لا في ربوبيته بأن نعتقد أن فلاناً يفعل ويفعل ويخلق ويوجد، ولا في ألوهيته بأن نعبد معه غيره ولو بالحلف به، فضلاً عن الانحناء والركوع له، فضلاً عن الذبح والنذر له، فلا إله إلا الله، لا نشرك بعبادة ربنا أحداً من الشركاء، إذ هذه أول وصية، إذ قال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا [الأنعام:151] ناد أولئك العادلين بربهم الذين يحللون ويحرمون ويشرعون بأهوائهم وتزيين الشياطين لهم فقل: تعالوا أقرأ عليكم ما حرم ربكم عليكم لا ما حرمتموه أنتم على أنفسكم.

    يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العادلين به: تعالوا أتل -أقرأ- ما حرم ربكم عليكم وعلى غيركم، وكما قلت: الجار والمجرور هنا تأخر لتعطف عليه ما شئت، لو قال: (ما حرم عليكم ربكم) لكان خاصاً بهم، لكن قوله: (ما حرم ربكم عليكم) أي: وعلى غيركم. ما من كائن ما من مخلوق إلا وحرم عليه هذه التي ذكر تعالى.

    أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151] وهي معنى لا إله إلا الله قولاً واعتقاداً وعملاً، لا نعرف من نلتفت إليه بقلوبنا أبداً إلا الله، هو المعطي هو المانع الضار النافع المحيي المميت، بيده كل شيء وإليه مرجع كل شيء، إذاً: فقلوبنا معه لا نرى غير الله عز وجل.

    الوصية بالإحسان إلى الوالدين

    ثانياً: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151] أي: وأتلو عليكم ما أوجب ربكم عليكم وهو الإحسان بالوالدين، والمراد من الوالدين الأب والأم والجدة والجد وهكذا ما علو وهبطوا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، تحسنوا بهم بمعنى: تلصقوا الإحسان بهم.

    إذا قال والدك: ناولني القهوة فلا تضع القهوة بين يديه، ضعها في يده، وإن شئت أن تجعلها في فمه فتلصق به الإحسان إلصاقاً، إن كان في حاجة إلى كسوة فما ترمي بالثوب بل ألبسه الثوب، أو كان في حاجة إلى نعل فتأتي بالنعل وتلبسه في رجليه حتى تؤدي معنى وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، نلصق الإحسان بهم.

    وقدمنا بيان كثير من هذه المسائل في الدرس الماضي، منها: إذا كنت طويلاً فتطامن وتقاصر حتى لا تظهر طويلاً أمام أبيك، وإلا فما معنى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، وحق الوالدين بعد حق الرحمن الرحيم؛ لأن الله الخالق الرازق، ولأن الوالدين كانا سبب وجودك وعلة وجودك، لولا أبوك وأمك ما كنت.

    أضف إلى ذلك الأتعاب التي تحملاها، وقد قلت لكم: لو أن أحدنا يلزم بأن يحمل هذا الكتاب في بطنه سبع ليال فقط مربوطاً فيه ما يطيق، فكيف بالجنين لتسعة أشهر؟!

    ثم الإرضاع، فالدم يتحول إلى لبن أبيض، وعواطف الأبوين لا تقدر أبداً بقدرها، فمن لم يحسن إلى والديه كان كالذي أشرك بربه أو قريباً منه.

    الوصية باجتناب قتل الأولاد للفقر

    الوصية الثالثة: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، والإملاق شدة الفقر، لا يحملك الفقر على أن تقتل طفلك ذكراً كان أو أنثى؛ إذ كان المشركون إذا خافوا المجاعة للقحط الذي تجلى وظهر لهم يقتلون أولادهم، وقدمنا أن هناك من أشاع في بلاده أن على المواطنين ألا يزيدوا على ثلاثة أطفال خشية الجوع، وهذا كقتل الولد ولا فرق بين ذلك.

    فالذين يحددون النسل ويصدرون قرارات بألا يزيد النسل على كذا، هؤلاء اعتدوا على منصب الرب تعالى، بل كفروا بالله وجحدوه وما عرفوه، والذين يجهضون ويسقطون الأجنة كالذين يدفنونهم وهم أحياء، كالمشركين قبل نزول هذه الآيات.

    ولا يحل استعمال الحبوب ولا إسقاط جنين إلا للمرض الخطير الذي يقرر الأطباء أن هذا المرض يؤدي إلى هلاك الأم، في هذه الحال تنقذ الأم لأنها تعبد الله.

    وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]، ما أنتم الذين ترزقونهم حتى تقتلوهم، أنتم تحتاجون إلى الله في رزقكم، لولانا ما رزقتم، نحن نرزقكم وإياهم، تقريراً لحرمة قتل الأولاد.

    الوصية باجتناب ما ظهر من الفواحش وما بطن

    رابعاً: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، قلنا: الفواحش جمع فاحشة، والفاحشة:الفعلة الذميمة القبيحة إذا اشتد قبحها يقولون: هي فاحشة، وهناك فواحش من القول، الكلمة إذا قبحت فما يطيق أن يسمعها السامع فاحشة، ويتناول اللفظ أولاً فاحشة الزنا واللواط، وفي الدرجة الثانية البخل، فالذي يمنع الخير وهو بين يديه ويبخل به بخله فاحشة سماها الله تعالى في كتابه الفاحشة.

    ثم كل قول كل عمل يقبح ويشتد قبحه يسمى فاحشة، لو يقوم الآن أحدنا ويصرخ ويلعن الحاضرين مثلاً ففعله فاحشة، فكل ما قبح واشتد قبحه يجب ألا يأتيه المؤمن ولا المؤمنة، وصية الله عز وجل، فلا تسمع من أخيك ولا تشاهد منه فاحشة أبداً طول حياته.

    وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151] وقد ذكرت لكم أنهم في الجاهلية كانوا لا يزنون علناً، ولكن يتخذ الرجل خليلة في السر وهو ما يسمى بالفاحشة في الخفاء، ما هي ظاهرة، والزنا حرام سواء كان علنياً أو كان خفياً، وهكذا كل الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088517790

    عدد مرات الحفظ

    777077361