أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن مع سورة الأنعام.
وأعيد إلى أذهان المستمعين والمستمعات أن هذه السورة تقرر المبادئ الثلاثة العظمى: التوحيد، والبعث الآخر والنبوة المحمدية، إذ هذه هي عناصر الإيمان القوية، من ظفر بها فآمن بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن البعث حق، فهذا حي، وأصبح قادراً على النهوض بكل ما يكلفه الله ورسوله من فعل أو ترك، ومن فقد هذه العناصر فهو ميت، ومن فقد بعضها فهو ميت، ومن أصابه ريب فيها أو في بعضها فهو هالك.
فسورة الأنعام التي زفت بسبعين ألف ملك لهم تسبيح وزجل، نزلوا مع هذه السورة المكية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه السورة من أولها إلى آخرها وهي تقرر مبدأ: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا بد من لقاء الله والجزاء على الكسب في هذه الدنيا الخير بالخير والشر بالشر، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث أو الأربع، ولنستمع إليها من مجودها، لعل قلوبنا تخشع، ولعل أسماعنا تضطرب وتسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:25-29].
معاشر المستمعين والمستمعات! هيا نتدارس هذه الآيات:
قول ربنا جل ذكره: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، الضمير في (إليك) يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقائل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25] هو الله جل جلاله، الله يخاطب رسوله في مكة وهو يعاني ويقاسي من آلام الكفر والشرك والعناد والتكذيب والتهديد، يقول له ربه تعالى: وَمِنْهُمْ [الأنعام:25]، أي: من المعاندين العادلين المشركين المكذبين، غلاتهم وطغاتهم، منهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، يستمع: يصغي بأذنه يسمع، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، هم يسمعون ولكن الله حسب سنته جعل قلوبهم في أكنة، فلا يتسرب إليها علم ولا يصل إليها معنى، والكنان: ما يكن به الشيء ويستر. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، أي: ما تقرؤه من كتاب الله، وما تتلوه من آيات الله، وما تقرره من دعوتك إلى الله لأن يعبد الله وحده ولا يشرك به سواه، جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وجعلنا في آذانهم وقراً، والوقر: الثقل، وهو من: وقر الحمل على الناقة، ووقر النخل: إذا كانت قنوانها كثيرة، فهو ثقل في آذانهم.
فالجواب: حاشاه تعالى أنه يأتي إلى عبده ويجعل في آذانه وقراً، أو يجعل قلبه في كنان يكنه، وإنما سنة الله في الذي يسمع الحق ويتكبر عنه ويتركه، ويعلن الحرب عليه أنه يوماً بعد يوم يصبح لا يعقل ولا يسمع.
سنن الله دائماً أقررها: شرب السم واحتساؤه يقتل أم لا؟ فإذا شرب العبد السم وقتله نقول: قتله الله بسنة من سنته. والحديد يقطع أم لا؟ فإن ضربت بالسيف لتقتل هذا المخلوق أو الحيوان فالقاتل هو الله، ولكن قتله حسب سنته أن الحديد يقطع.
فهؤلاء العتاة الطغاة كـأبي جهل وأضرابه منهم بعض يأتي ليستمع حتى يثير الزوابع ويقول الترهات والأباطيل: سمعناه يقول كذا وكذا. بل كانوا يأتون إلى المكان الذي فيه الرسول يصلي ويقرأ وهم يستمعون، لكن ذلك الاستماع ما هو لوجه الله، ما أرادوا أن يؤمنوا وأن يعرفوا الحق، أرادوا أن يثيروا الزوابع والفتن: سمعناه يقول كذا. ويكذبون على رسول الله وعلى ربه.
فقال تعالى: وَمِنْهُمْ [الأنعام:25] أي: من أولئك العادلين بربهم مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام:25]، ولكن ما يستفيدون، لم؟ قال: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الأنعام:25] أغطية، وجعلنا في آذانهم وقراً وثقلاً، فهم لذلك لا يفهمون ولا يفقهون.
قلت: إن قيل: لم جعل ربي هذا؟ قلنا: هذا حسب سنته، الذي يكثر من العناد والمكابرة لن يرجع أبداً، ويصبح ما يسمعه من الكلام لا يفقهه، يفهمه حسب مراده، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25] أي: حتى لا يفقهوه، وجعلنا في آذانهم وقراً، أي: ثقلاً، فهم لا يستفيدون مما يسمعون، وليسوا كلهم يأتون ويسمعون، بل منهم من يستمع.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الأنعام:25]، الذين لا يستمعون عشرات، لكن بعضهم كان يحاول أن يستمع، ولكن لا يفقه شيئاً؛ لأن الله طبع على قلبه، كتب شقاوته وهلاكه: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]؛ لأن بعض المؤمنين كـبلال والجماعة المؤمنة كانوا يودون لو أن الله يعطي محمداً صلى الله عليه وسلم آية فيؤمن عليها أهل مكة وينتهي الصراع، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب هذا، فأعلمه الله بأنهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، ووالله لا يؤمنون، والذين كتب الله سعادتهم ما احتاجوا إلى آية أبداً، دخلوا في الإسلام وعرفوه وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية ليست ضرورية للإيمان، وكم من أمة شاهدت الآيات وما آمنت، وهل هناك أعظم من آية صالح: الناقة تخرج من جبل، وتشرب ماء البلاد وحدها في يومها؟ ثم بعد ذلك حاولوا قتلها وقتلوها، فأي الآيات -إذاً- توجد إيمانهم؟
فلهذا قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ [الأنعام:25] يأتون أحياناً للجدال والخصومة، يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:25]، وهنا تسجيل كلمة الكفر، ما قال: يقولون، بل قال: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:25]؛ لأن علة هذا المرض هي الكفر، لا داء أكبر منه، فإذا كفر الإنسان ربه وجحده، وجحد آياته، وجحد لقاءه، وجحد شرائعه فكيف سيصبح هذا؟ كيف يخاطب، كيف يعيش مع الإنسان؟ وقد علمنا بكتاب ربنا أن هذا المخلوق شر ما خلق الله عز وجل: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].
قال تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا [الأنعام:25]، أي: ما هذا الذي يقرؤه محمد ويقول: إنه كتاب الله إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25] جمع أسطورة، أساطير الأولين الماضين من الأمم، فهو يحكيها ويقصها.
وبعض هذه الحالات الآن موجودة، ظنناها قد انتهت، أحد الطلاب اليمنيين قال: لما كنت قادماً إلى المملكة أوصتني أمي ألا نجلس في حلق العلم في المسجدين؛ لأنهم وهابيون، فيفسدون عقيدتك وقلبك. فجاء وكان يصلح الدوافير أيام كانت الدوافير، قال: جئت من بعيد فجلست في باب المسجد أنظر إليك كأنك شيطان، بل أبشع من الشيطان! قال: وأصبحت أتردد، حتى قال لي بعض إخواني اليمنيين: أنت واهم وأنت غالط، هذا الشيخ ما هو بوهابي، هذا جزائري، كيف تقول: هذا وهابي؟ قال: فأصبحت أدنو شيئاً فشيئاً، حتى تمكنت منه الدعوة، وأصبح داعية، وترك الحديد ودخل في دار الحديث وانتقل إلى الجامعة وتخرج منها، وهو اليوم داعية في اليمن.
والشاهد عندنا: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26]، ما يحضرون ولا يسمحون للآخر أن يحضر، ما السبب؟ بغض هذه الفكرة وهذه الدعوة، هذه المبادئ ليست لنا، إذاً: يريد صاحبها أن يفسد علينا أوضاعنا وحالنا، فلذلك يكرهوننا ويكرهون أيضاً من يأتي.
ما معنى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ [الأنعام:26]، أليس معنى (ينأون) يبتعدون؟ وينهون أبناءهم وإخوانهم: لا تجلسوا، لا تسمعوا، لا تمشوا وراء هذا كذا، وهم في نفس الوقت أبداً لن يمروا بحلقة الرسول ولا يجلسون إليها، والمخبر بهذا من هو؟ إنه الله جل جلاله.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26]، (إن) بمعنى ما، وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، لو كانوا يشعرون أنهم يدمرون في قلوبهم ويمزقون في نفوسهم ما فعلوا، لكن لا يشعرون، كيف لا يشعرون؟ لأن في آذانهم الوقر، وقلوبهم في أكنة، وفاقد الإحساس ما يشعر أبداً.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ [الأنعام:26]، أي: وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك، لو شعروا لأغمي عليهم، ولعادوا إلى الحق واستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، هل قال: وُقِفُوا أو: وَقَفُوا؟ قال: وُقِفُوا. فهم لا يقفون بأنفسهم، تضطرهم الزبانية بالدفع إلى أن يقفوا: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13]، تعبير عجب هذا، يدفعون دفعاً؛ تلك الأجسام الصعاب التي تناطح السحاب.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27] إلى الدنيا، تمن باطل ولن يتحقق، قالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، هذه فيها قراءات متعددة: (يا ليتنا نرد ولا نكذبُ بآيات ربنا ونكونَ من المؤمنين)، (يا ليتنا نرد ولا نكذبُ بآيات ربنا ونكونُ من المؤمنين)، هل تمنوا الثلاثة أو تنموا العودة فقط ثم هم بعد ذلك يؤمنون ويعبدون الله؟ الكل داخل في تمنياتهم، فماذا قالوا وقد وقفوا على النار ولا مهرب، ما هي أمنيتهم؟ أن يعودوا إلى الدنيا ليعبدوا الله عز وجل، ويومها لا يكذبون ويكونون من المؤمنين، ومعنى هذا أنهم الآن مكذبون وغير مؤمنين، كل مكذب كافر، وكل غير مؤمن كافر، فهم كافرون، هذه الأمنية الغالية، ومع هذا والله لو ردوا لعادوا، من يخبر بهذا؟ إنه الله تعالى.
فهؤلاء قالوا: يا ليتنا نرد، ما قالوا: نرجع، قالوا: نُرد، يردنا الجبار الذي يملك ذلك، نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].
إذاً: هذا الفريق منهم: بَلْ بَدَا لَهُمْ [الأنعام:28] أي: ظهر لهم ما كانوا يخفون من قبل، أو شاهدوا النار وما فيها، وقد عرفوا قبل ذلك في الحياة الدنيا هذا وكانوا يخفونه على أتباعهم حتى لا يستجيبوا للرسول ويدخلوا في دينه. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام:28] ويسترون ويجحدون، ظهر لهم علناً وهو عذاب النار.
ثم قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [الأنعام:28]، هاتوا علماء النفس يشرحون هذه، لو ردوا إلى الحياة الدنيا بعد أن شاهدوا النار وما فيها لعادوا إلى الشرك والكفر والفسق والضلال والإجرام.
واللص يقول علماء النفس: أنت تشاهده وهو مكبل بالحديد يجر إلى السجن بواسطة الشرطي، وأنت حين تراه تبكي أو تخاف أو ترحمه، وهو في ذلك الوقت يفكر إذا خرج من السجن كيف يسرق، أنت ترحمه وتتألم من مشيته إلى السجن، وهو في ذلك الوقت يفكر إن خرج كيف يسرق فلان، وكيف يدخل إلى محل فلان!
ولو لم يقل هذا الأطباء ولا جربناه فخالق الطبائع هو الذي قال هذا: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [الأنعام:28]، مرة ثانية يردون أيضاً فيقولون: هيا نفرفش ونغني ونلهو ولعب، وإذا متنا ودخلنا النار يردنا مرة ثانية.. وتبقى هكذا سلسلة، وصدق الله العظيم: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، ما الذي نهو عنه؟ الكذب، الكفر، النفاق، الشرك، الخداع، الفسق، الفجور، الظلم.. كل ما نهى الله تعالى عنه من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح؛ كل ذلك مما نهى الله عنه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].
يقول عمر : لاعب ابنك سبعاً، السبع الأولى من السنة الرابعة والخامسة والسادسة لاعبه في منزلك بين يديك وبين يدي أمه، حتى يتمرن على القوة، وإذا دخل السنة السابعة يجب أن تملأه بالحكم والمعارف والأمثال الحية، والتجربة الصادقة بين يديك ليل نهار مدة سبع سنوات، فإذا بلغ الخامسة عشرة حفظ القرآن، حفظ السنة، حفظ الحكم في الأشعار، ونما على حب الله ورسوله ورجاء الله والدار الآخرة وذكر الله، كالملك بين يديك، لا يعرف كلمة سوء ولا ينطق بها، لكن الرجال الآن ينطقون بالسوء، والله إن منهم من ينطق بالسوء، وإذا كان أبوه ما ينطق بالسوء فإنه يسمع التلفاز ينطق بالسوء، يشاهد هذا، هاهم يشترون البرانيط يضعونها على رءوسهم، أمس رأيت بنتاً صغيرة على رأسها برنيطة، ما هذا المسخ؟ ما فهموا أن هذا زي اليهود والنصارى؟ أما علموا أن الله حرم على لسان رسوله التشبه بهم؟
فإذا كان عندك أطفال فلاعبهم في السنوات الأولى لا بأس، في السنة الرابعة والخامسة والسادسة، تجعل نفسك كالبعير وتحمله على ظهرك مثلاً، فإذا دخل في السنة السابعة املأه بالعلم والحكمة، كل يوم أعطه حديثاً، كل يوم أعطه حكمة، وراقبه في سلوكه، في أكله، في شربه، في مشيه، كيف يتعامل مع أمه وإخوانه وأخواته؟ وحين يبلغ سن المراهقة احتضنه واربطه معك، إذا كنت نجاراً فهو في المنجرة، إذا كنت تاجراً فهو في الدكان، إذا كنت فلاحاً فالمسحاة في يده معك، إذا كنت موظفاً فهو معك، المهم ألا تتركه للشيطان في هذه الفرصة، والشياطين من الإنس الشبيبة مثله، يجتمعون فيضحكون ويتكلمون على عورات النساء والباطل والمنكر، يغرزون في قلوبهم الباطل والشر.
فإذا بلغ الولد الواحدة والعشرين وهو يعيش وحده دونك فماذا تصنع به؟ أما إذا لازمته سبع سنوات من الخامسة عشرة إلى الواحدة والعشرين فاعلم أنه قد ورثك حياً، أخلاقك أخلاقه، آدابك آدابه، صبرك صبره، صناعتك صناعته، أصبح مثلك فورثك.
وعلى أهل المدرسة أيضاً أن يراعوا أطفال المسلمين، إذا سمعوا ضحكاً أو باطلاً من تلميذ يؤدبونه، إذا خرجوا في فسحة فلهم رقباء يراقبونهم، ما يسمعون كلمة سوء أو البذاءة أو المنطق السيئ من أي لسان ينطق به، أثناء التدريس يذكر كل آية، كل حديث، كل كلمة فيها حكمة، يذكرهم بالله ولقائه؛ ليتخرجوا ربانيين أولياء لله، لا يتعلمون من أجل المادة فقط فينسوا الله عز وجل، وإذا كنت مضطراً إلى هذا فخذه بعد نهاية الدرس، بعدما يخرج من المدرسة احتضنه إلى غدٍ.
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، هذا إخبار الله تعالى عن هؤلاء المعاندين العادلين بربهم.
[ أولاً: بيان سنة الله تعالى في أن العبد إذا كره أحداً وأبغضه وتغالى في ذلك ] في البغض والكره [ يصبح لا يسمع ما يقول له، ولا يفهم معنى ما يسمع منه]، أخذنا هذا من قوله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25]، سنة الله الآن من باب الفرض والتقدير، زوجتك إذا كرهتك وأبغضتك لأنك آذيتها وكذا والله ما تصبح تسمع كلامك ولا تفهم ما تقول، وإنما تطبق ما في نفسها هي.
ومثلنا بأهل البدع الذين يكرهون أهل السنة ويبغضونهم ولا يستطيعون أن يسمعوا كلامهم، ويؤولون ما يسمعون، والسياسيون أيضاً أصحاب السياسة والأحزاب، إذا أبغضوا آخرين لا يسمعون منهم ولا يعترفون بكلامهم ولا بدعوتهم، هذه سنة الله، لا إله إلا الله.
[ ثانياً: شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه، وينهى من يقبل عليه ]، شر دعاة الشر من هم؟ من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه، لا تجلسوا، قوموا، لا تجلس إلى فلان، لا تمشوا مع الفلانيين، وينهى من يقبل عليه كذلك، هؤلاء شر الدعاة أم لا؟ أما قال تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26]، فالذي يصرف الناس عن دعوة الحق هل يفلح؟
[ ثالثاً: سبب الشر في الأرض الكفر بالله، وإنكار البعث والجزاء الآخر ]. سبب الشر في الأرض ما هو؟ الكفر بالله، من جحد الله، جحد دينه وجحد رسله وجحد لقاءه وجحد كل شيء، وإنكار البعث الآخر، فإن كان يؤمن بالله لا إله إلا هو، ولكن لا يؤمن بالحياة الثانية، ولا بجزاء يقع فيها على أعمال الدنيا؛ فهذا كذلك شر البرية، ولا يرجى منه الخير أبداً.
ولهذا كانت البلشفية الشيوعية من شر المبادئ التي ظهرت في العالم، والآن تلبست بلباس جديد سموه العلمانية، والنسبة إليه علماني، نطبق العلم فقط، أما ما وراء العلم فهذه خيالات وضلالات، وهم أبشع من الشيوعيين؛ لأن الشيوعيين كفار وملاحدة وجهال، وأما هؤلاء فيدعون العلم، إذا:ً ما هناك شر ممن يكفر بلقاء الله عز وجل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر