وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!
إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!
وها نحن مع سورة النساء، وهي رابعة السور القرآنية الكريمة، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30].
وقبل كل شيء المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:29] لبيك اللهم لبيك! مر نفعل، انه ننتهي، علم نعلم، بشر نفرح، حذر نرهب ونخف، هذا استعداد من المؤمنين لأنهم أحياء؛ ولهذا ناداهم لينهاهم، لو كانوا أمواتاً ككل الكافرين من المجوس واليهود والنصارى والمشركين والبوذيين؛ ما هم بأهل لأن يناديهم الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، وما هم بأهل لأن يستجيبوا له في ما أمرهم به أو نهاهم عنه، وإنما ينادي المؤمنين بوصفهم أحياء، والحي حسب سنة الله يسمع ويبصر وينطق، ويأخذ إذا يعطى، ويعطي إذا طلب؛ لكمال حياته.
إذاً: فلتهنأكم حياتكم. الحمد لله! والله لولا هذا الإيمان ما نحن بأهل لأن ينادينا الله عز وجل، لكن هو الذي أحيانا في أبداننا، وأحيانا بإيماننا، أصبحنا أهلاً لأن نسمع كلام الله ونمتثل أمره ونجتنب نهيه، الحمد لله.
أوما عرفتم قيمة الإيمان؟ إليكم هذا العرض السريع.
في هذه المدينة النبوية كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع بعض أصحابه، فمر بين أيديهم رجل في طريقه إلى أهله أو حاجته، وكان رثَّ الثياب دميم الخلقة، لا يلفت النظر أبداً، فلما مضى قال لهم صلى الله عليه وسلم: ( ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا خطب ألا يزوج، وإذا أمر ألا يطاع، وإذا قال ألا يسمع، وسكت! ومضى في حديثه معهم، فمر رجل آخر -رجل منظره جذاب الهيئة وحسن الثياب كأحسن ما يكون- فقال لهم: ما تقولون في هذا. قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج، وإذا أمر أن يطاع، وإذا قال يسمع له. فقال لهم -ولعله حلف-: لملء الأرض من هذا لا تساوي ذلك! ) ملء الأرض من هذا المنافق صاحب المظهر لا تساوي ذلك المؤمن الرثِّ الثياب الفقير الضعيف.
هذا تقبلونه أم لا؟!
وصح لو أن أهل الأرض اجتمعوا على قتل نفس مؤمنة لكبهم الله في نار جهنم ولا يبالي! ما هو قبيلة أو عشيرة أو جيل من الأجيال، لو أن أهل الأرض أجمعوا على أذية مؤمن من عباد الله وأوليائه وقتلوه لكبهم في نار جهنم.
إذاً: فهيا نحمد الله على هذه النعمة.
لا يحل لمؤمن أن يأكل مال أخيه المؤمن بغير حق، وهكذا أمن الله تعالى المؤمنين، إذا وجد المؤمنون في أرض الله في أي بلد وصح إيمانهم حصل أمن كامل، لا يحتاجون إلى شرط ولا بوليس ولا سجون أبداً، لا يوجد مؤمن يأخذ مال أخيه بالباطل.
لم؟ لأن المؤمنين أحياء، آمنوا بربهم وبلقائه، وبوعده ووعيده، وبالدار الآخرة وما فيها من عذاب أليم أو نعيم مقيم.
مولاهم سيدهم أمرهم ألا يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل؛ فما بقي من يمد يده ليأخذ مال أخيه المؤمن، والواقع يشهد، لا يوجد مؤمن حق الإيمان عرف وآمن يمد يده ليختلس مال مؤمن أبداً ولو مات جوعاً.
فأموال المؤمنين كأنها مال واحد منهم، إذ حياتهم متوقفة عليها: لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] نظيره: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5].
ابنك سفيه أو أخوك بمعنى: لا يحسن التصرف في المال لا تعطه المال، امرأتك لا تحسن التصرف، لا تضع المال بين يديها، حرام عليك! لم؟ لأن المال قوام الأعمال، والحياة شاهدة، والشاهد عندنا: في جعل الأموال أموال المؤمنين، وليس هذا من باب الافتراء ودعاوى الاشتراكيين التي فعلت الأعاجيب في الناس، ذاك المعنى باطل، سلبوا أموالهم وصادروها وأخذوها بحجة أن الأموال مشتركة بين المواطنين، وفعلوا في إخوانهم الأعاجيب وهلكوا.
كل ما في الأمر: يجب أن نعلم أن مالي كمالك كمال أي مؤمن يجب ألا يؤكل إلا بحق، وألا ينفق إلا فيما يرضي الله عز وجل؛ لأن هذه الأموال حياتنا موقوفة عليها، ونحن مجتمع رباني إيماني إسلامي، لا يرى بيننا جائع ولا عار ولا ضائع؛ لأن أموالنا كمال واحد.
لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] أي: بدون حق يقتضي ذلك.
قيل: لما نزلت هذه الآية أصبح المسلمون لا يقبلون الهدية، ولا يقبلون العطية يعطونها، ولا يأكل أحدهم عند أحد، تدعوه يقول: لا آكل، ما دفعت شيئاً، لما نزلت آية سورة النور بينت الطريق للسالكين، إذ قال تعالى: وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [النور:61] فأصبح المؤمن لا يتحرج، دخل على بيته دعاه أبوه يأكل، ما يقول: ما دفعت شيئاً! دعاه خاله للأكل يأكل، ما يقول: أنا آكل بالباطل، ما دفعت شيئاً، فزال ذلك الخوف.
( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) ذي قاعدة وضعها صلى الله عليه وسلم، البيعان أحدهما بيِّع على وزن سيد، وهو بمعنى البائع.
واختلف أهل الفقه: ما لم يتفرقا بالقول أو بالبدن؟ فذهب من ذهب إلى أن التفرق يكون بالقول، وذلك إذا قال: ندمت. ما بعتك، أو قال الآخر: ما اشتريت، مع الأسف ما أريدها، فتفرقا بالقول.
والتفرق بالبدن: أن يخرج من الدكان أو السوق أو محله.
والذي هو أرحم أن يكون التفرق بالأبدان، ما داما في المجلس الواحد ساعة ساعتين يتكلمان يتحدثان، ثم قال أحدهما: من فضلك ما أبيع أو عدلت، يجب أن يقبل ويرد المبيع له، ولا يؤذي أخاه، لكن إذا تفرقا هذا ذهب إلى بيته، وهذا إلى بيته لم يبق هناك مراجعة، لا خيار، أما في المجلس فهذا أخوك تذكر شيئاً كان نسيه، لاحظ شيئاً في القضية فقال: سامحنا. ينبغي أن تستجيب لأخيك، بل الصالحون حتى لو ذهب إلى بيته وطالب أن يرد له يستجيب له، لكن بدون ما حق.
وفي هذا فتح باب للتجارة ولا بد منها، لماذا؟ لأن حاجة الإنسان تقتضي ذلك، إذا لم يوجد من يتجر في الحبوب في الثمار في الملابس، في اللحوم أين يجد أهل القرية ذلك؟! أكل شيء موجود في قريتهم؟ غير معقول.
فلهذا التجارة محمودة، والتاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وإليكم نص الحديث الكريم. قال: يكفي في الرد على من عاب التجار في تجارتهم وقالوا: هذا عدم توكل، وهذا من جماعة التصوف، يرد عليهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( التاجر الصدوق ) تعرفون هذه أم لا؟ كثير الصدق لا يعرف الكذب، أما التاجر الكاذب فاجر.
( التاجر الصدوق الأمين المسلم ) ثلاث صفات: أن يكون أولاً مسلماً، أما كافر لا قيمة له عند الله.
ثانياً: أن يكون أميناً، أما أن يكون خائناً، لا حق له في هذا المنصب.
ثالثاً: الصدوق لا يعرف الكذب.
( التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة ).
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] هذه الآية أو هذا بعض الآية الأولى حرم الله تعالى على المؤمنين والمؤمنات أكل أموال بعضهم بعضاً بغير حق، بغير مقابل، بغير عوض، أما ما كان برضا أخيك المؤمن فآية سورة النور وضحت الموضوع، فأكل مال أخيك مع طيب نفسه ورضاه هو من الحلال الذي لا يشك في نيته.
هناك أيضاً لطيفة سبق أن عرفتموها:
إذا كان الشخص حيياً لا يرد سائلاً، وعرفت أنت هذا، ثم جئت فطلبته فأعطاك الذي يملك وبقي جائعاً أو متألماً، هل هذا أخذته بطيب نفس؟ لا، نفسه ما هي طيبة، لكن حياؤه منع أن يردك.
مرة ثانية: أهل القرية أهل الحي إذا عرفوا شخصاً بينهم حيياً لا يرد سائلاً يتحاشون طلبه؛ خشية أن يأخذوا مالاً بدون طيب نفس أخيهم، واضح هذا المعنى؟
لأن الكفار المكذبين لله ورسوله ولقائه الآن فيهم الانتحار، ونسبته تسمعونها، العهر والزنا والجرائم بلا حساب، ما يعرفون شيئاً اسمه تقوى الله. وإن ظهروا أمامكم أنهم كذا، وفي بواطنهم الخبث الذي لا يذكر، ولا سبب إلا الكفر أموات أوساخ كالحيوانات، ويدلك دلالة قطعية أن المؤمن الصادق في قريتك في جماعتك لا يسرقك لا يكذبك لا يغتابك لا يقتلك لا يأكل مالك، ما السبب في هذا؟ خائف من البوليس؟ آمن فعرف.
والذين هبطوا من كمالهم، أمة الإسلام ومن ألف سنة وهي هابطة، وسبب هبوطها ضعف إيمانها، طاقاتها هبطت؛ لأن النور الدافع هبط منها، وهذا من كيد الأعداء ومكرهم، هم الذين حولوا قلوبنا وأفسدوا حياتنا، وأصبحنا أسوأ منهم، هم يضحكون علينا!
إذاً: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] لا جماعة تقتل جماعة، ولا حرب تعلن على قبيلة أو جماعة، ولا واحد يقتل أخاه، فإنما قتل نفسه، وفضلاً أن يقتل نفسه بالذات، وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29].
من لطائف المعنى: إذا قتلت أخاك المسلم ستقتل أنت، إذاً: قتلت نفسك، القصاص إذا قتل مؤمناً عدواناً وظلماً يقتل به أم لا؟ إذاً: لا تقتل نفسك يا عبد الله! لأنك إن قَتلت قُتلت!
ثانياً: إن لم يكن قصاصاً قد تقتل شخصاً يقتلك أبوه أو أخوه أو عمه أو من في قبيلته، فكأنما قتلت نفسك!
هل تعرفون ما ورد في قتل النفس؟ اسمعوا هذا الحديث النبوي الصحيح.
يقول: ورد الوعيد الشديد في قاتل نفسه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل نفسه بشيء ) آلة من الآلات ولو حطبة ( من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ) سواء بالسم أو بالسحر أو بالرصاص ( من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة ) رواه الجماعة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته يجأ بها بطنه إلى يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم -شربه- فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً أبداً، ومن تردى من جبل -أو من عمارة من فوق السطح- فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ).
لو بلغ هذا الخبر المؤمنين فوعوه وفهموه والله يندر ممكن في مائة سنة ما يقتل واحداً نفسه! لكن هل بلغهم؟ هل عرفوه؟ هل حفظوه؟ أجيال ما سمعوا به، فعلتنا هي الجهل، يا من يريد إصلاحنا هيا! علمنا، بصرنا؛ حتى نحيا وتكون حياتنا، أما تنهانا عن التلصص عن السرقة عن الكذب عن الخداع عن الزنا وقلوبنا ميتة ما دخلها نور، ولا عرفت الطريق إلى ربها، كيف تحقق ذلك؟
إذاً: نستجيب لربنا أم لا؟
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ [النساء:29] وما زال رَحِيمًا [النساء:29] من مظاهر رحمته: أنه لم يسمح لنا بشيء اسمه أذى أبداً، حرم العهر، حرم ما شاء أن يحرم، وحرم أكل المال بالباطل، وحرم قتل النفس.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:30] المنهي المحرم من: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19] تلك المنهيات كلها إلى هنا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:30] الذي تقدم ذكره مما حرم الله، لا سيما أنه ما ذكر وعيداً لأصحابه، فحصر الوعيد في هذه الآية، وإن كان الأقرب: ومن يفعل ذلك المذكور ألا وهو أكل مال الناس المؤمنين بالباطل، وقتل النفس.
وقوله: عُدْوَانًا وَظُلْمًا [النساء:30] بالنسبة إلى القتل، والقتل عدوان، هو الذي يكون صاحبه معتدياً ليس بناسٍ ولا سكران ولا غافل ولا مخطئ، بل متعمد، فيخرج من هذا المخطئ، أراد أن يضرب غزالاً أصاب مؤمناً، انتبهتم؟ العدوان هنا التعمد، من يفعل ذلك عمداً غير غافل، على عمد يريد أن يقتل.
ثانياً: (ظلماً)، فقد يقتل عدواناً وليس بظلم، مثلاً رجل قتل أباه ظلماً وعدواناً، فقام الابن يقتل هذا الرجل هل قتله ظلماً؟ الجواب: لا، هذا قتل أباه، الذي يقتل قصاصاً هل هذا القتل ظلماً؟ لا، بل عدل، لكن العمد عمد أم لا؟ إذاً: لنذكر هذين القيدين: العدوان والظلم.
فإن كان ظلماً بدون عدوان أو تعمد ما ينال هذا العذاب صاحبه، ولكن قتل ظلماً؛ لأن هذا القاتل استوجب القتل كالقصاص أو كقتل القريب مثلاً، لا بد من القريب.
عدواناً: أي: متعمداً ظالماً لهذا المقتول. ليس له حق في قتله.
مرة ثانية: لا بد من الجمع بين الشرطين، أولاً: أن يكون العمد، العدوان معناه: التعمد، فيخرج الناسي والغافل والجاهل والمخطئ، هو ما تعمد القتل.
ثانياً: أن يكون ظلماً، أما إذا كان قتل بحق وهو متعمد كما قدمنا: قتل أباك أو ابنك ظلماً وعدواناً فقتلته أنت، هل قتلك هذا خطأ؟ عمد! هل هو ظلم أو حق؟
فهذا العذاب المذكور: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30] والإصلاء بالنار: الإحراق بها، صلاه في النار: أحرقه، يصليه ناراً يحرقه.
فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30] ما هو بصعب، أو بما يتعذر على الله أن يفعله؛ لأنه خلق الخليقة وخلق لها نعيماً وشقاء، وهو الفعال لما يريد.
إذاً: فمن زكى نفسه وطهرها وطيبها أكرمه في ذلك النعيم المقيم فوق الملكوت الأعلى، ومن خبثها ودساها بأوضار الذنوب والآثام أشقاه وأرداه في ذلك العذاب الأليم.
العبيد عبيده أم لا؟ لو شاء لأدخلنا كلنا الجنة، في من يرد عليه؟! لو شاء لعذبنا أجمعين! خلقنا ورمى بنا في نار جهنم! هل هناك من يقول: لم؟ يفعل ما يشاء، لكن رحمته وإحسانه وفضله وإنعامه وكرمه لا يتناسب مع أن يعذب إنسياً أو جنياً ونفسه طيبة طاهرة.
إذاً: دار الشقاء أسفل ودار النعيم فوق، وهذا الذي قتل نفساً ظلماً وعدواناً نفسه تعفنت، والله ما أصبحت أهلاً لأن تجاور الله عز وجل، يبقى إذا كان مؤمناً وطرأ عليه طارئ، ووقع في هذه الجريمة وتاب وبكى وندم زمناً، ثم مات على توبة فالله عز وجل يدخله النار؛ لأن توبته لا تطهر هذا الدرن العظيم، قتل ولي الله، فقد قال تعالى كما سيأتي: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
مرة ثانية: لا يوجد مؤمن حق الإيمان صادق الإيمان يقتل مؤمناً عدواناً وظلماً، والدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] هذه الصيغة صيغة نفي لوجود هذا، ليس من شأن المؤمن أبداً أن يقتل مؤمناً غير خطأ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ [النساء:92] ليس متأهلاً له أو يقع منه أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92].
فمن هنا من تعمد قتل مؤمن عدواناً وظلماً ما كان بمؤمن، وهنا تبقى الآية على ظاهرها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
أزيدكم أم لا؟
لا يمكن واقعاً أن مؤمناً مثلك يقدم على قتل مؤمن ظلماً وعدواناً، ما يمكن أبداً! هات مؤمناً ما يقوى على أن يشتم مؤمناً أو يصفعه بخده! كيف يقتله؟ فإن كانت ظلمة الكفر في النفس أعمى يفعل ما يشاء، حيوان ميت.
أولاً: النفس: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ [الأنعام:151].
ثانياً: المال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].
ثالثاً: العقل، من سحر مؤمناً فأفسد عقله يقتل به، حرم الله الخمر والحشيش والنباتات والكذب؛ لأن الكذب يفسد العقل أيضاً، كل ما يفسد عقلك، والدخان، الشيشة، السجائر، أو تشكون؟ الدخان التدخين يفسد يؤثر على العقل أم لا؟ يؤثر على العقل، تدخل على مسئول في مكتب في رمضان، يقول: مع الأسف أنا صائم، ما دخنت فلهذا ما أستطيع أن أتم معاملتك.
هذه واحدة فقط، وإلا الدخان ضار بالخمس كلها، ضار بالمال أم لا؟ عشنا زماناً كان راتب المدرس فيه ثمانون ريالاً، وعلبة السيجارة بنصف ريال، ويدخن علبتين في اليوم بعض الضائعين، علبتين في اليوم بكم؟ بريال، ثلاثون ريالاً من ثمانين ريالاً كم بقي؟ خمسون ريالاً للأسرة بكاملها! وثلاثين ريالاً يحرقها، من يقول بجواز الدخان؟! يوجد بعض العلماء خدعوا الناس وغرروا بهم.
تعرفون العرض؟ الأحرار يموتون دون أعراضهم أم لا؟ الدخان يمس بالعرض، بدليل أن الشاب أيام كنا قبل ما نلغ في أولاغ اليهود والنصارى -أي: قبل التلفاز- كان الشاب لا يمكن أن يدخن أمام أبويه أبداً مستحيل! وقد رأينا الرجل يدخن لما يشاهد رجلاً فاضلاً من أهل العلم أو الصلاح أو من أقربائه، والله يطفئ السيجارة في يده، يضغط عليها ويطفئها؛ حتى ما يقول: فلان يدخن!
هذه آية كالشمس في أنه يمس بالعرض أم لا؟
أما الدين وهو أهم شيء عندنا: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا، فقيل: لم يا رسول الله؟! قال: إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) الملائكة تتأذى من الرائحة الكريهة التي يتأذى منها الآدمي؟ إي والله، فما بالكم بالذي ينفخ رائحته الكريهة في وجه الملك؟! أين يعيش؟ أليس على يمينه ملك وعلى شماله ملك؟ الكرام الكاتبين تنفخ في وجهه! ذي وحدها والله لو يعرفها مؤمن لأغمي عليه، ويندم حتى يتمزق، ينفخ رائحة كريهة في وجه الملائكة وهم يكتبون له وعليه؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أراد أحدكم أن يبصق فلا يبصق عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، فليبصق تحت قدميه ) ذي وحدها كافية، ثم كانوا يتوضئون مما مست النار، أي: طعام طبخ يتوضئون إذا أكلوه، ثم رحم الله المؤمنين ونسخ هذا الحكم، ولكن بقي الندب والاستحباب، إذا أكل الإنسان اللحم مطبوخاً يتوضأ أفضل له، أما لحم البعير لا تسأل: ( من أكل لحم جزور فليتوضأ ) إذا كان يتوضأ من أكل اللحم أو من أكل المطبوخ فكيف بالذي يدخل النار في جوفه بكاملها؟! فإذا شك في وضوئه شك في صلاته، كيف تصلي طول حياتك وصلاتك مشكوك في قبولها وصحتها؟!
هذا كله نتيجة الجهل، ما عرفنا الله ولا الطريق إليه، هجرنا كتاب الله، حولناه إلى الموتى والمقابر، هجرنا سنة رسول الله، بعدنا عن مجالس العلم، جلسنا بين يدي من يضللونا ولا يهدونا، هذا الذي أصاب أمة الإسلام.
مسألة: من هو الذي له الحق في تنفيذ القصاص؟ الحاكم إمام المسلمين، لكن إن حصل وأن قضية ما رفعت، وشخص قتل آخر ولده عمداً عدواناً متأكداً فقتله ما يقتل به، وإن كان القصاص لا بد من إمام المسلمين خشية أن يدعي أناس أنه مظلوم وهم ظالمون، لكن إن حدث من هذا النوع تحكم عليه أنه في جهنم وخالد فيها؟!
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر