أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
اللهم حقق رجاءنا؛ إنك ولينا ولا ولي لنا سواك!
وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآيات الثلاث، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:37-39].
تأملوا وتدبروا أيها الدارسون ويا أيتها الدارسات، لا تغفلوا ولا تذهلوا.
هذه الآيات الثلاث مرتبطة بالآية قبلها وهي آية الحقوق العشرة، وقد درسناها وفهمناها، والتزمنا بتطبيقها، هيا نتلو الآيات الأربع مع بعضها البعض لارتباطها في سلك واحد، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، هؤلاء أصحاب الحقوق العشرة، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [النساء:36-39].
معاشر المستمعين! أذكركم بأن هذه الحقوق العشرة يجب أداؤها إلا من عجز ولم يستطع أن يقوم بواجب من هذه الواجبات، أو بهذا الحق من الحقوق؛ فأمره إلى الله باستثناء الحق الأول الذي هو حق الله، وهو: أن نعبده بما شرع وحده ولا نشرك في عبادته أحداً، هذا حقه، بم استحق هذا الحق وكان له؟ مقابل خلقنا ورزقنا وإطعامنا وسقينا وحياتنا، الذي وهبك بصرك فقط أصبح له أعظم حق عليك؛ فكيف بالذي وهبك كل حياتك؟ فحق الله أن يعبد من أجل أن يذكر ويشكر فقط وأما عوائد العبادة فهي إسعاد العابدين وإكمالهم، أما الله فلا ينتفع بشيء منها فإنه غني عن خلقه، ولكن أراد أن يذكر ويشكر؛ فأوجد هذا العالم، وأوجد هذا الإنسان، وأوحى إلى رسله، وعلمهم كيف يذكرونه ويشكرونه، وعوائد الذكر والشكر عائدة على الذاكرين والشاكرين؛ فمن كفر ولم يشكر ونسي ولم يذكر فهو من الخاسرين، وتقرر هذا المعنى.
ثانياً: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36].
الوالدان هما الأم والأب، الإحسان إليهما فريضة واجبة وحق نافذ، واذكر من أين أتيت أنت، من حملك في بطنه؟ أنت ماء من؟ أصلك من؟ من أنفق عليك وأنت طفل إلى أن بلغت السابعة والعاشرة؟ من رعاك؟ من حفظك؟ من بكى لبكائك؟ أهذا الذي تنساه أأنت حيوان؟ وحق الوالدين طاعتهما في المعروف وإيصال البر والخير إليهما، وكف مطلق أذاه عنهما حتى بالكلمة العالية.
حقوق القرابات: من عم وابن عم وخال وابن خال وعمة وخالة.. وما إلى ذلك، وابدأ بالأقرب فالأقرب، ماذا تصنع معهم؟ تكف أذاك عنهم، وتبذل المعروف لمن احتاج إليه منهم، من كان يؤذيهم ما أبداً أدى حقهم، كف الأذى وبذل المعروف والندى.
حقوق اليتامى: اليتيم من حقه علينا ألا نؤذيه بأي أذى، وألا نأخذ ماله أدنى أخذ، ونحفظ حياته فلا نعرضه للمرض ولا للدمار ولا للخراب، امتحننا الله به، أخذ والده الذي كان يقوم عليه ويرعاه؛ فبقي يتيماً بيننا فيجب أن نرعى حقوقه: التربية.. التوجيه.. الإصلاح.. إطعامه إن جاع سقيه إن عطش.. وهكذا، ونبني دور اليتامى وننفق عليها.
المساكين: من أذلهم الفقر، ومسكنتهم الحاجة، ومدوا أيديهم سائلين يجب أن نحسن إليهم بالكلمة الطيبة، وألا نسمعهم كلمة أذى أبداً، ونضع في أيديهم ما يسد حاجتهم، أين التكافل الإيماني الإسلامي؟ ما نستطيع أن نحقق هذا الهدف إلا إذا كنا جماعات مسلمة ربانية في قرانا وفي أحيائنا ومدننا، لن يتم هذا إلا من طريق أن نكون كجسم واحد: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد ).
أهل القرية سواء كانوا قبائل مختلفة أو مذاهب متنازعة يجب أن يجتمعوا في بيت ربهم، يصلون الصلوات الخمس لا يتخلف منهم أحد، وبعد المغرب يجلسون جلوسنا هذا، النساء وراءنا، والأطفال أمامهن، والفحول أمام الجميع، وليلة آية من كتاب الله كالتي ندرسها، وليلة حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويوماً بعد يوم نتعلم ونحلم ونكمل، ما تمضي سنة إلا وأهل القرية كجسم واحد لا مذهبية ولا طائفية ولا وطنية ولا نعرات.. ولا ولا، أمرهم واحد، لا تقل: أنا شافعي ولا مالكي ولا إباضي ولا كذا مسلمون، في ذلك المسجد تتكون لجنة من إمام المسجد والمؤذن والداعي الواعظ وترعى أهل الحي، من هو الذي تخلف عن صلاة الصبح اليوم؟ فلان زوروه، ما له؟ قالوا: مريض، كيف مريض وما اطلعنا عليه، إذاً اسألوا عن حاجته، فلان تخلف عن صلاة العشاء البارحة، ما له؟ اسألوا عنه، قالوا: سافر. اللهم رده بخير، وحينئذ نصبح حقاً المسلمين، الأمة الواحدة، ما يبقى في القرية من يرضى أن يؤذى مؤمن بين يديه بكلمة فقط، فضلاً عن صفع، فضلاً عن قتل ودمار، فضلاً عن التكفير والسب والشتم وما إلى ذلك، والله لا تعود أمة الإسلام إلى سماء عليائها أيام كانت سائدة قائدة إلا إذا بدأت الطريق من طريق محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن القلوب تمرض ومرضها أخطر من مرض الأجسام، ولأن الشياطين مهمتها التي مهيأة لها الإضلال والإفساد والتدمير للبشر، فإما أن تقارننا الملائكة أو الشياطين: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38].
ثم نعرف قيمة المسافر وابن السبيل الذي نزل بقريتنا لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد إلا في الطريق، يؤوى ويفرش له ويطعم ويحفظ وتقضى حاجته حتى يسافر، من يفعل به هذا؟ إخوانه المؤمنون.
ثم هذا الاجتماع ليلياً لمدة سنة .. سنتين، ما يبقى في القرية جاهل ولا جاهلة، وإذا رفع حجاب الجهل وحل محله النور يقع ظلم.. اعتداء؟ والله ما يقع، وإنما الظلم والاعتداء والبخل والأمراض والشرك وكل المصائب هي نتيجة الجهل وظلمة الجهل، ما عرفوا، ما هذبوا، ما ربوا في حجور الصالحين، بأدنى شيء يهتز ويقول الباطل وينطق بالفجر.
كيف تصلح هذه الأمة؟ على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما قال إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، ابعث في أولاد إسماعيل الآتين رسولاً منهم يعرفون لغته، ويفهم لغتهم، ماذا يفعل بهم؟ يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إذا لم يجتمع المسلمون في أي مكان على الكتاب والسنة اجتماع إيماني حقيقي لن يفارقهم الجهل والخبث والشر والفساد، والتاريخ شاهد، ما نستطيع نجلس من المغرب إلى العشاء.
وقد بينا لهم من سنين أن الشيوعيين يجعلون هذه المنظمات في بلادهم، والله العظيم! حتى في بلاد العرب، الحزب الشيوعي عنده لجنة في كل قرية وفي كل حي من أحيائها، وأهل لا إله إلا الله يقولون: كيف يقع البلاء وكيف ينزل الشقاء.. وكيف.. وكيف؟
وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36].
لا يقول أحدكم: عبدي ولا أمتي وليقل: فتاي أو فتاتي، فيجب الإحسان إلى المملوكين الذين هم في قبضتنا وفي يميننا، حيث أعطيناهم في الجهاد في سبيل الله، يجب أن نحسن إليهم، أن نطعمهم وأن نكسوهم وأن نسقيهم وأن نداويهم، وألا نكلفهم ما لا يطيقون، فيصبح ذلك العبد كأنه بين أمه وأبيه أو أجل أو أكثر، فما هي إلا ساعات أو أيام وقد دخل في رحمة الله وأسلم لله؛ لما يشاهد من الإحسان، وإن شككتم كيف دخل العالم في الإسلام على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم؟
شاهد أنوار العدل والرحمة والولاء والإخاء، لما غزا المسلمون البلد الفلاني ما فرضوا عليهم الإسلام: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، لكن ما إن يحل المسلمون بينهم، ويشاهدون أنوار العدل والرحمة والطهر والصفاء حتى يندمجون.
وكان هذا الختم الأخير: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36].
يا من يريدون ألا يكرههم الله! يا من يرغبون ألا يبغضهم الله! لأن المكروه لله المبغوض له شقي خاسر خسراناً أبدياً، يا من يريد أن يحبه الله! إذاً فليجتنب الاختيال والفخر، وهنا عجب هذا القرآن وإلا لا؟ قالت الجن عجب أو نحن قلنا؟ الجن قالوا، ما إن سمعوه فقط والرسول يقرأ في صلاة الصبح قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، انظر كيف ذيل وعقب على الحقوق العشرة التي يجب أن ننهض بها وأن نؤديها، وأعلاها أن نعبد الله بما شرع لا بما شرع الناس ونفرده بتلك العبادة، فلا نلتفت لا بقلبنا ولا بأعيننا ولا بأي حركة، لا نرى إلا الله لا يعبد إلا هو: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36].
هذه الحقوق العشرة قال بعدها: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]، فأغلب الذين ما يقومون بهذه الحقوق ولا يؤدونها مصابون بمرض الاختيال والفخر، المختال المفتخر ما يتنازل للفقراء والمساكين والجيران ويرحم ويعطف ولوالديه أبداً؛ لأنه منتفش منتفخ متكبر، كيف يحسن؟ ما يعرف الإحسان، ومعنى هذا: يا عبد الله لِن وتطامن وإياك أن تنتفخ أو تتكبر، فإن الله لا يحبك، وإذا لم يحبك الله يا ويلك هلكت وتمزقت.
مرة ثانية: لم عقب على هذه الحقوق العشرة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء:36]، المتكبر يأبى أن يسجد لله أو يتطامن، يأبى أن يطيع رسول الله في سنة من سنته فضلاً عن الحقوق الأخرى ما يبالي بها؛ لأنه مصاب في عقله بمرض الكبر والاختيال والفخر، هذه الصفة يجب أن تمنحى من قلوب المؤمنين والمؤمنات حتى يتراحموا، حتى يتعاونوا، حتى يتلاقوا ولا يفترقوا، أما مع هذا المرض لا التقاء ولا اتفاق أبداً ولا تراحم.
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].
ما يؤدي هذا الحق، ويأمر من يقوى على أمره ويستطيع أن يقول: لا تفعل، الآية وإن كانت نزلت في مجموعة من اليهود كانوا يأتون إلى الأنصار من أهل المدينة وينصحون لهم بألا يبذلوا أموالهم لمحمد والمهاجرين، ويخوفونهم بالفقر وما يصيبهم بعد، ولعل هذه الدعوة ما تنتصر ثم تعودون، فيبخلون من جهة ويأمرون غيرهم بالبخل، والبخل: هو منع الحق وعدم إعطائه وبذله لصاحبه، ومن البخل أيضاً: أن يتسع طعامك وشرابك ويفضل فضلة وتمنعها عن غيرك وهو محتاج إليها، هذا العيب العظيم: يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، وإلى الآن في مجتمعاتنا الإسلامية من يبخل وينصح ألا ينفق فلان، لم تنفق على هذا؟ ما الفائدة من هذا؟ هذا كله يضيع، إلى الآن، يبخل هو في حد ذاته ويقول لأقربائه وأصدقائه: ما في حاجة إلى هذا، هذا المال ما ينفع، هذه النفقة باطلة.. وهكذا، يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].
وأخرى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].
يجحدون يخفون مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37] أولاً: العلم والمعرفة، ما يريدون أن يبصروا الناس، أن يعرفوهم بالحق ويهدوهم إليه، وهذا يتناول -كما قلنا- علماء اليهود، جحدوا نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في التوراة واضحة وضوح الشمس والقمر، ويحرفونها ويقولون للمنافقين من الأوس ولأولادهم وإخوانهم: اكتموا هذا النور واجحدوه: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].
وهنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكتم علماً علمه الله وعرفه، إذا علمك الله شيئاً ووهبك هذا النور يجب ألا تكتمه وأن تبينه، وخاصة العلم الشرعي، أما علم الصناعة فلا يجوز كتمانه، وإن كان النصارى يكتمونه وغير المؤمن ما يكتم العلم، تعال أعلمك كيف تطبخ، أو كيف تسوق السيارة، ولا حرج، ويكتمون ما آتاهم وأعطاهم الله من فضله؛ إذ كل ما عند الإنسان هو من الله، أو هناك شيء ما وهبه الله إياه؟ لا يوجد شيء إلا والله واهبه ومعطيه.
فلا يحل إذاً أن يقف هذا الموقف: يبخل، ويأمر الناس بالبخل، ويكتم أيضاً ما هو حق ومعروف؛ لتبقى الأمة أو الجماعة أو أهل القرية في ضلالها وتعبها وشقائها.
فلهذا معاشر المؤمنين! نقوم بهذه الحقوق العشرة ويساعدنا على أدائها تطهير قلوبنا من الغل والغش والمرض والكبر والعياذ بالله والاختيال والبطر، هذه الأمراض مانعة بتعليل الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38] ألا نتصف بالبخل، البخل مذموم، وقد يبخل الإنسان حتى بكأس الماء، يبخل بالكلمة، وأبشع من ذلك أن يأمر الناس ويعلمهم البخل، وأفظع من ذلك أن يكتم ما فيه خير للناس ويجحده للحفاظ على مصلحة أو على مركز أو على موقف من المواقف، كما منع اليهود من هذا؛ لأنهم يحافظون على مركز وجودهم.
وعقب تعالى على ذلك بقوله: وَأَعْتَدْنَا [النساء:37] أحضرنا وهيأنا.
لِلْكَافِرِينَ [النساء:37].
ما قال: لهم، السياق يقول: وأعتدنا لهم عذاباً مهيناً، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله أعتدنا لهم عذاباً مهيناً، قال: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ [النساء:37] ليعلمنا أن الذين يتعمدون البخل ويأمرون به والله ما هم بمؤمنين، والذين يكتمون الحق ويجحدون المعروف لتبقى الناس في ضلالها وشقائها والله ما هم بالمؤمنين، منافقون يتظاهرون بالإيمان أمام الناس حفاظاً على وجودهم، أما الإيمان الحق ما هم بمؤمنين، أما الإيمان الحق ما هم بمؤمنين.
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].
وليشمل هذا العذاب كل كافر وكل كافرة، وإلا لقال: وأعتدنا لهم عذاباً مهيناً، لا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ [النساء:37] هم كافرون كفروا نعمة الله، ما شكروها، جحدوا العلم، جحدوا المال والفضل، أي كفران أكثر من هذا؟ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:37].
صنف آخر من هذه الجماعات.
قال: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38].
إذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى احتساب وجمع المال يخرجون بالأموال وهم لا يؤمنون، فقط ليقال: أنفق فلان وتصدق فلان، وهذا وإن كان في المنافقين في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم هل طهرت الأرض منه؟ يوجد من المؤمنين المنتسبين للإيمان والله ما ينفقون لوجه الله، ما ينفقون إلا للسمعة والشهرة وترويج السلعة والبضاعة، نحلف لكم أيضاً موجود، يدلك على ذلك: لم ما يصلي؟ لم يأكل الربا؟ لم ما يحضر جماعة المسلمين؟ لم ما يتجنب كبائر الذنوب ويتصدق لأجل الله إذاً؟ لا يتصدق لوجه الله إلا طالب رضا الله، كيف يطلب رضاه؟ أليس بطاعته وطاعة رسوله، بفعل الأمر واجتناب المنهي، وإن زلت قدمه يوماً تاب من تلك الزلة ما يواصل الجريمة.
أقول: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [النساء:38]. صامتة أو ناطقة قليلة أو كثيرة.
رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]. يرون الناس أنهم ينفقون، لماذا؟ للشهرة.. للسمعة.. لغض الطرف عنهم.. لستر عوراتهم، ما أنفقوا ليرضى الله عنهم، أو ليقيهم عذاب النار، رِئَاءَ النَّاسِ [النساء:38]، وأنتم تعرفون عن الشرك الأصغر، وهو الرياء، الرياء: أن يعمل المؤمن عملاً يريد أن يحمده الناس عليه.
وهنا إذا عندكم قدرة على الفهم السليم إليكم بياناً شافياً:
أولاً: على المؤمن والمؤمنة إذا أراد أن ينفق في أي وجه من وجوه النفقة: الفقراء.. المساكين.. المساجد، أن يكون الباعث والدافع له لذلك هو طلب رضا الله عز وجل، ولا يرى إلا الله، ومع هذا لا يرغب أبداً أن يراه الناس أو يسمعوا به أنه أنطق حتى تبقى تلك النفقة لؤلؤة مضيئة في نفسه.
ثانياً: ينفق في سبيل الله، ما بنى هذا المسجد، ولا فتح هذه المدرسة، ولا كسا هذا العبد، ولا أطعم هذا إلا طلباً لرضا الله، ولكن نفسه تحب أن يحمده الناس وألا يذموه، انتبهتم؟ وهذا الطابع طبع به أغلب الناس، هو أنفق في سبيل الله لا يريد إلا الله، ولكن نفسه تميل إلى أن يقال: فلان أنفق، ليس ببخيل فلان، فهذا ما دامت نفقته لله، ولا قال للناس: امدحوني ولا إثم علي ولا طهروني من كذا وكذا، ولكن هو يرغب نفسياً لو حصل، نقول: هذا لا بأس به، وتصبح القضية: قضية حسنات الأبرار سيئات المقربين. حسنات الأبرار تعتبر سيئات عند المقربين وإلا لا؟
ثالثاً: المنفق الذي ينفق ولا يريد وجه الله، فقط يريد أن يحمد بين الناس يثنى عليه تروج بضاعته يسود الناس ويتكبر عليهم من أجل هذا ينفق، فهذا الأخير هالك، والأول في درجة ما نصل إليها، والثاني وسط؛ لأنك ما تستطيع أن تسيطر على نفسك، أنت ما بعثت مالك ولا تحركت إلا لله، لكن في نفسك خواطر إذا سمعت من قال: فلان فعل كذا تفرح أنت، ولا بأس، ولكن حول فرحك إلى الله، هذا من فضل الله عز وجل.
ماذا ترون في هؤلاء الثلاثة؟
الأول: لا يرى إلا الله، ولا يحب أن يثني عليه أحد، ولا أن يمدحه أو يرفعه؛ لأنه ما له إلا الله، هذا فوق الكل، دونه الذي ينفق لأجل ما في ذلك شك، لولا الله ما أنفق ريالاً واحداً ولا جاع ليشبع فلان، لكن يحصل له رغبة، إذا أثني عليه إذا قالوا فيه خير يفرح بذلك، لا بأس، وتصبح حسناته هذا كسيئات الأولين، حسنات الأبرار كسيئات المقربين، والهالك ذاك الذي ينفق ما له رياء، لا يرجو الله ولا الدار الآخرة يرجو فقط الشهرة والسمعة والسلطة، أو ترويج البضائع والسلع.
قال: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38].
يوجد هؤلاء المنافقون، كما قلت مقدماً: كل الذين ينفقون ولا يريدون وجه الله إنما ينفقون لأجل الشهرة والسمعة، وهم بذلك والله ما هم بالمؤمنين، لو آمنوا بالله ولقائه، والوقوف بين يديه، والجزاء الخالد الأبدي في الجنة أو النار ينفقون لوجه الله، فما داموا أعرضوا عن الله وأنفقوا للشهرة والسمعة، أو دفع الأذى والخطر عنهم، والله ما آمنوا بالله واليوم الآخر؛ إذ الذي يؤمن بالله يطلب رضاه، الذي يؤمن باليوم الآخر يقدم له؛ ليأخذ الجزاء في المعاد يوم القيامة، فالذي ينفق أمواله وصحته وجهده ولا يريد وجه الله والله ما هو بمؤمن لا بالله ولا باليوم الآخر.
والقرآن عجب اسمع: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38]، فأين الخبر؟ هذا المبتدأ: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38] ما لهم؟ هؤلاء ماذا قلنا في الحاشية؟ الخبر محذوف: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:38] فالشيطان قرينهم، هو الذي منعهم من أن يؤمنوا بالله ولقائه، هو الذي منعهم من أن يتقربوا إلى الله وينفقوا في سبيله، هؤلاء الشيطان قرينهم، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، فالشيطان قرينهم، ومن يكن الشيطان له قريناً فساء القرين قريناً، والقرين المقرون في حبل واحد، الذي يلازمه الشيطان ويصبح لا يفارقه، ما يسمح له أن يقول كلمة خيراً، ولا أن ينفق درهماً في سبيل الله.
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28] يا رسول الله، مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28] نصيحة الله ورسوله: لا يقارنك لا يلازمك لا يجالسك إلا مؤمن، أما أن تقارن وتجالس وتلازم سيئ الخلق فاسد العقيدة غير صالح يا ويحك! ومن يكن الشيطان له قريناً فساء ذلك القرين قريناً.
ما الذي حملهم على أن ينفقوا أموالهم رئاء الناس، وعلى ألا يؤمنوا بالله واليوم الآخر، من؟ الشيطان؛ لأنهم لازموه واقترنوا به وأصبحوا عبيداً له يسخرهم كيفما شاء، هذا ما يلعن الشيطان ولا يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الشيطان كما علمتم أخبرنا الله تعالى أنه عدونا من يوم ما كان أبانا وأمنا في الجنة في دار السلام أعلن العداوة، وأقسم بالله عز وجل وبجلاله ألا يبرح يضللهم حتى لا يهتدي منهم أحد.
ما ننسى هذه الجملة: يا أبناء الإسلام! يا نساء المؤمنات إذا كانت الزوجة ما هي صالحة قرينة سوء لا تبقها في بيتك، ولا تنجب من بطنها أولادك، اعمل على هدايتها.. على تربيتها.. تهذيبها، يوم بعد يوم، شهر بعد آخر إذا كانت سليطة قبيحة سيئة تاركة للصلاة تريد الرقص والفيديو أخرج هذه الفتنة من بيتك.
وأنت يا مؤمنة إذا كان زوجك كما يبلغني يعيش على القمار والباطل والشر والفساد بل واللواط أيضاً -وأنت تعرفين ذلك- لا بقاء مع هذا القرين، فإنه قرين سوء، اذهبي إلى أهلك.
يا شيخ! لم تقول هذا، تريد أن تمزق المجتمع؟ تقولون هكذا؟ لا. بل أريد أن يرتقي المجتمع لا أن يتمزق، هذا الله يقول: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38]، والرسول الحليم الحكيم يقول: ( مثل الجليس الصالح والجليس السيئ، الجليس الصالح كبائع المسك: إما أن يحذيك شيئاً من العطر، أو تشم رائحته وأنت في خير، والجليس السوء كنافخ الكير )، أيام كانت الكير في أيديهم ينفخونها، إما أن يتطاير الفحم عليك والنار، وإما الدخان والرائحة الكريهة، ومعنى هذا: لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يجالس قرين السوء، ألا يكون له قرين سوء، بل يكون له قرين صالح.
وهذا نستطيع أن نهيئه كما قلنا: إذا اجتمعنا في قريتنا على الكتاب والحكمة، أو في مسجد حيِّنا، وأصبحنا نصفو ونطهر، ما يبقى بيننا قرين السوء، صفوا وطهروا كلهم، تعيش سنة ما تسمع كلمة سوء، ولا تشاهد منظراً باطلاً؛ لأنهم علموا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
العلم بالله وبمحابه وبمساخطه وبما لديه لأعدائه وبما عنده لأوليائه، هذا علم الكتاب والسنة قال الله قال رسوله، هذا الذي تطهر عليه النفوس وتزكو وتطيب القلوب وتطهر، وتصبح الأعضاء كلها خاشعة لله، ما يفتح عينه وينظر ما لا يحل له، يستحي أن يقول كلمة سوء، يموت جائعاً والله ما يمد يده، بدون هذا العلم ما يمكن أن نكمل ولا نسعد، والرسول يعلمنا وإلا لا؟ ماذا قال؟ ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -ماذا يفعلون؟- يتلون كتاب الله -ليحفظوه- ويتدارسونه بينهم -ليفهموه- إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده )، لو فتحنا نافذة على العالم الإسلامي نرى في هذا الوقت بالذات كل المسلمين في المقاهي والملاهي، أو في المدينة في المتاجر والدكاكين، آلله أمر بهذا؟ ولا يعرفون العلم ولا يعرفون الهداية.
وقد كررنا القول وقلت: ما دمتم يا عرب يا مسلمون تقتدون بالأوروبيين وتمشون وراءهم وتنفذون حتى حكاياتهم، إنهم والله إذا دقت الساعة السادسة مساء يقف دولاب العمل، ولم يبق متجراً ولا مقهىً.. ولا ولا، وإذا بأولئك النصارى يحملون أطفالهم ونساءهم بعدما يغيرون ملابسهم ويتنظفوا ويتطيبوا ويذهبون إلى دور السينما والمراقص والمقاصف والملاهي والملاعب، يضحكون يتمرغون يزيلون آلام الكفر من نفوسهم وظلمة الجهل إلى نصف الليل، ويعودون كالبهائم إلى فرشهم، لم نحن إذاً وندعي الإسلام ونرجو الله والدار الآخرة ما نعمل كما يعملون؟ كما يعملون يعني: نذهب إلى السينما والملاهي؟ لا.
إذا دقت الساعة السادسة توضأنا وتطهرنا حملنا نساءنا وأبناءنا إلى مسجدنا، وصلينا المغرب، وجلسنا هذا المجلس، كل ليلة وطول العام إلا مريضاً في بيته أو ممرضاً يمرضه، من أجل ماذا، قولوا؟
من أجل أن تطهر قلوبنا، وتزكو نفوسنا، وترتفع آدابنا وأخلاقنا، ويسودنا الولاء والحب والطهر والصفاء، ونصبح كجسم واحد، لن تسمع جريمة ارتكبت في قريتك إلا بعد عشرين سنة ممكن، وينتهي الخوف من الفقر والجوع والبلاء والعجب، كله ينمحي؛ لأن البخل انتهى والإسراف انتهى، والرضا بالقليل ساد وأصبحنا في وضعية لو تقول: خذ يا فلان يقول: ما أنا في حاجة إليه شبعان.
هل تتحقق هذه الكمالات بغير هذه الدعوة الربانية؟ والله ما تتحقق، لماذا إذاً ما عملنا؟ كم سنة يا أبنائي وهذا الصوت يتحدث؟ هل تحقق شيء من هذا في قرية من القرى أو مدينة من المدن؟ إذاً ماذا ننتظر؟ الرزايا والبلايا والإحن والمحن، وهذا شأن من أعرضوا عن ذكر ربهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر