إسلام ويب

تفسير سورة النساء (60)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله صلاة القصر، وهي رخصة أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها، ومشروعية هذه الصلاة بكيفياتها المختلفة إنما تدل على أهمية صلاة الجماعة، فهي إن أقيمت حال الخوف والقتال، فمن باب الأولى أن تقام حال الأمن والطمأنينة، فتؤدى في أوقاتها المحددة التي قدرها الله لعباده، وبالكيفية التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآيات الأربع والتي قد درسناها في ليلتين سالفتين، وما زلنا نحتاج إلى فهمها؛ لأنها تحتوي على أحكام فقهية، فهيا نتلوها وتأملوا وتدبروا فيها، ثم إن شاء الله ندرسها كما هي في الكتاب ليتقرر كل معنى إن شاء الله في نفوسنا، ونصبح عالمين بهذه القضية الفقهية الهامة، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104]. ‏

    مشروعية قصر الصلاة الرباعية في حال السفر سواء في الأمن أو الخوف

    وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، في هذه الآية الأولى الأذن بقصر الرباعية للمسافر ما دام في سفره، وإن قلت: القصر سنة مؤكدة والآية تحمل فقط رفع الحرج، قلنا: إن عمر قد تساءل وقال: يا رسول الله! كيف والله يقول: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا عمر! صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته ).

    إذاً: إذا قال القائل: الآية فقط فيها رفع الحرج، فأنا لا أقصر وإنما أتم صلاتي، فتقول له: قد استشكل هذا عمر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب البيان فقال: ( يا عمر! هذه صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل هناك من يقول: أنا لا أقبل صدقة الله! أعوذ بالله، والله سيحترق.

    مرة أخرى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقال عمر: ذاك يوم كنا خائفين، أما اليوم فنحن آمنون، إذاً لا نقصر، ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل عرفتم ما هي الصلاة التي تقصر؟ صلاة الظهر والعصر والعشاء ذات الأربع ركعات فقط.

    مشروعية صلاة الخوف والتأكيد على صلاة الجماعة

    ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102].

    هذه الآية تضمنت صفة واحدة من صفات صلاة الخوف، فإذا كنا خائفين من العدو ونحن في ساحة الحرب، فهل نصلي فرادى؟ هل نؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها؟ الجواب: لا، إذ الصلاة لا تؤخر أبداً، بل هي ميعاد بيننا وبين الله، ثم أيحضر الله ونغيب نحن؟! أما نستحي منه عز وجل؟! إنه ميعاد بيننا وبين سيدنا ومالك أمرنا، وهو الذي حدده وعينه، ونحن نقول: لا بأس، ما نحضر! أعوذ بالله.

    إذاً: علمنا الله تعالى فقال: انقسموا إلى قسمين، فالإمام القائد الأعظم يصف وراءه نصف الكتيبة فيصلون معه، والآخرون بأسلحتهم يرقبون العدو حتى لا يتدفق علينا، ويصلي الإمام بنا ركعة ويبقى واقفاً ونحن نتم ركعة لأنفسنا ونسلم؛ لأنها قصر، ثم يأتي الآخرون ونحن نقف في مكانهم بأسلحتنا ضد العدو، فيصلون ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يتم صلاة الركعتين فيجلس وهم يتمون ركعة، فإذا أتموها سلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه صورة من عدد من الصور، وتختلف من كيفية إلى أخرى لاختلاف الظروف والأحوال.

    قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، من هو الذي قال: لا تصلى صلاة الخوف إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو يوسف من علماء الأحناف، ورد عليه كل الناس، إذ ليس شرطاً أن يكون الرسول في كل معركة أبداً، بل ولا في كل زمان، فكل من يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة المؤمنين فهو مثل رسول الله في هذا الباب، وهو فقط أخذ واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فيصلي والرشاش على كتفه، والبندقية في يده.

    وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هذه بالذات، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102] أيها القائد، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] لم؟ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102] بجدع أنوفكم، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى [النساء:102]، وهذه رخصة من الله تعالى، فإذا كان المطر ينزل أو بالرجل مرض، فلا بأس أن يضع سلاح أمامه، قال تعالى: أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، ثم قال تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: وخذوا حذركم من أعدائكم إلى يوم القيامة.

    ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، أي: فإذا سلمت من الفريضة فاعلم أنك مطالب بذكر الله على اختلاف أنواعه، وإن كنت في الطائرة، وإن كنت سائراً، وإن كنت جالساً، فاذكر الله عز وجل وخاصة في الحرب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]؛ لأن قوانا مستمدة من ربنا عز وجل، لذا لا بد أن يكون ذكره في قلوبنا وعلى ألسنتنا، فهو الذي يقوي طاقاتنا ويزيد في قوتنا، فإذا انقطعنا عن الله هبطنا وتمزقنا، فلا تترك ذكر الله يا عبد الله ويا أمة الله إلا إذا كنت على كرسي المرحاض فقط، إذ إن الذي يدخل بيت الخلاء لا يذكر الله تعالى، إذ إن هذا معفو عنه، أما خارج هذا المكان فدائماً اذكر الله، سواء عند الأكل أو عند الشرب أو عند القعود أو عند القيام أو عند الركوب أو عند المنام أو عند الاستيقاظ، والناس يتفاوتون في هذا الميدان، لكن إرشاد الله عز وجل في قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، وذاك في حال الحرب، فصلوا مع الرسول أو مع الإمام ركعة، ثم أتموا الركعة لأنفسكم، وهم مع ذكر الله على كل حال.

    إذاً: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، على الوجه المطلوب، فأولاً في بيوت ربنا عز وجل، وثانياً في جماعة المسلمين، وثالثاً بأدائها بكل أركانها وشروطها وآدابها كما صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما صلاها رسول الله بالمؤمنين فقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا معنى إقام الصلاة

    إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: مؤقتة ذات وقت محدد، ومواعيد ضربها الملك جل جلاله لعباده، فحرام عليك يا عبد الله أن يحضر الله وتغيب، فالمصلي يناجي ربه والله ينصب وجهه لعبده، فكيف إذاً تهرب وتبعد وتترك الوقت يخرج ثم تأتي وتصلي؟!

    وقد ورد في الأثر: ( من ترك صلاة واحدة فهو بها كافر )، وورد أيضاً: ( لأن يفقد المرء أهله وماله وولده خير من أن تفوته صلاة العصر في وقتها ).

    حرمة الضعف والهون أمام أعداء الله تعالى

    وأخيراً قال تعالى: وَلا تَهِنُوا [النساء:104]، أيها الأبطال فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104] الكافرين؛ لجهادهم وإدخالهم في رحمة الله، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: من الجراحات والتعب الذي يصيبكم، فهم يألمون مثلكم كما تألمون، ولكن وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:104]، أي: من الأجر والمثوبة والنصر والتأييد ما لا يرجون، وبالتالي فأنتم أحق بالثبات والصبر.

    وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:104]، أي: بالأحوال والظواهر والبواطن وبما يقنن ويشرع، وحكيماً [النساء:104]، أي: في كل ما يقنن ويشرع.

    إذاً: فما علينا إلا أن نقبل تشريعه ونذعن له ونطبقه كما أمر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088532904

    عدد مرات الحفظ

    777172627