إسلام ويب

تفسير سورة النساء (64)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشرك بالله هو الظلم العظيم، والله عز وجل لا يغفر لمن أشرك به، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، فلا يقبل أن يشرك معه شيء في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، أما ما عدا ذلك من المعاصي والآثام التي تقع من العبد فإن الله عز وجل إن شاء آخذه بها وإن شاء تجاوز عنه ما دام أنه سالم من الشرك.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    وها نحن الليلة مع آية فقط من كتاب الله عز وجل، مع مراجعتنا للآيتين اللتين درسناهما في الليلة الماضية، وآيتنا الليلة التي نتدارسها ونقرؤها ونتلوها ويحفظها الكثير منا، تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].

    أبنائي العوام! إخواني العوام! هيا بنا نحفظ هذه الآية ونرجع بها إلى بيوتنا محفوظة، إذ هي أولاً: كلام الله، وثانياً: نصلي بها النافلة والفريضة طول حياتنا، وثالثاً: أنه بحفظنا إياها نكتنز كنزاً نورانياً في صدورنا حتى تلقى ربنا، وإذا فهمنا معناها وحفظناها فقد خطونا أكبر خطوة إلى ظلال العلم الوارف.

    فما المانع أن نحفظها؟ هيا نكررها: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، قال علي بن أبي طالب صهر النبي وابن عمه رضي الله عنه كما جاء عند الترمذي في جامعه: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية. وسوف يتضح لكم سبب هذا الحب، وتعرفون مقام علي في العلم، إذ إنه بحر زاخر.

    إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، أي: ما دون الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، أتعرفون الضلال البعيد؟ لو أن رجلاً أراد أن يذهب إلى مكة، ومكة كما هو معلوم توجد جنوباً، فأخطأ ومشى شمالاً، ومشى أربعين يوماً في الشمال، فهل يستطيع أن يرجع إلى مكة؟ ما يستطيع، فقد نفد الزاد، وتعب وعيي، لكن لو مشى فقط كيلو أو اثنين أو ثلاثة، أو يوماً واحداً، فيمكن أن يرجع؛ لأن الضلال قريب، لكن إذا كان الضلال بعيداً، ووصل إلى أوروبا، فكيف يرجع؟ هلك، وهذا تفسير الضلال البعيد في كلام الله، فقد انتهى عمره وانتهت حياته.

    ومعنى هذا يا عبد الله! يا أمة الله! لا تتوغل في الشر والفساد والظلم والخبث والكفر، فإن التوغل في ذلك كالضلال البعيد، بخلاف من زنى أو سرق أو كذب أو ضرب أمه أو عق والده، ثم رجع فيمكنه أن يرجع، لكن إذا توغل في ذلك الظلم العام بعد العام، وما ترك جريمة إلا ارتكبها، فمثل هذا لن يعود، بل يطبع على قلبه، وتتغير طبيعته، ويفسد قلبه، ولا يصبح أبداً يؤمل أن يعود إلى الحق والخير، ولهذا فالقاعدة عند أهل الإسلام: أن التوبة تجب على الفور، ولا يجوز تأخيرها عاماً أو شهراً أو أياماً، فإذا وقعت يا عبد الله في معصية الله فأعلن عن توبتك وقل: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، يمحى ذلك الأثر ولا يمكن أن تعاوده، وإن عاودته مثلاً فأنت متهيئ للتوبة دائماً، فلا يجيء ختم ولا طبع على قلبك، أما إذا استمريت في هذه الجريمة يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، فلا يمكن أن ترجع.

    هل تريدون أن تعرفوا كيف تكون التوبة؟ كان هناك سوق المدينة لبيع التمر، فجاءت مؤمنة -زوجها في الجهاد-لتشتري شيئاً من التمر لها ولأولادها، فمرت بالبائع واشترت منه فرأى كفها، إذ لم يكن عندها قفاز، فأعمى الشيطان ذلك العبد فقبل كفها، فقالت له: أما تتقي الله؟ فما الذي حصل؟ والله العظيم خرج من مكانه ذاك وهو يصرخ، وينتف في شعره، ويرمي بالتراب على وجهه حتى وصل إلى أحد، ثم عاد من أحد كأنه فاقد عقله، ودخل على الرسول في صلاة المغرب، وأراد أن يتكلم مع أبي بكر فرفضه، ومع عمر كذلك، وانتظر حتى صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب بالمؤمنين وأخبره، فعرف الرسول توبته التي لا تعادلها توبة، فقال: ( هل صليت معنا المغرب؟ فقال: نعم، فقرأ عليه: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] )، أما أن يواصل العبد الجريمة بعد الأخرى فأنى له أن يتوب؟!

    واسمع إلى أستاذ الحكمة ومعلمها صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( إذا أذنب العبد ذنباً وقع نكتةً سوداء على قلبه، فإن تاب ونزع انمحت وذهب أثرها، فإن لم يتب وزاد ذنباً آخر إلى جنب الأولى وثالثة ورابعة يختم على قلبه، وذلكم الران الذي قال تعالى فيه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )، وهؤلاء ما يستجيبون لنداء الحق ولا يقبلونه.

    معاشر المستمعين! حفظتم هذه الآية أو تعدونها رخيصة؟ والله لحفظها خير من خمسين ألف ريالاً، وليسمح لي ربي إذا ما أعطيتها حقها، والله لأن يحفظها مؤمن أو مؤمنة، ويصلي بها النوافل والفرائض ويذكرها دائماً وهي نور في قلبه؛ فتبعده عن ساحات الشرك والعياذ بالله، لكان ذلك خيراً له من الدنيا وما فيها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088532445

    عدد مرات الحفظ

    777169390