الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فالحمد لله على إفضاله وإنعامه، والحمد لله على توفيقه وهدايته.
وها نحن مع سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة- ومع هاتين الآيتين، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتهما مرتلة مجودة، ثم نتدارسهما إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ
[التوبة:47-48].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا
[التوبة:47]، هذه الآيات نزلت أيضاً في أحداث غزوة تبوك، وهي في الحقيقة غزوة الروم، إذ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يخرج لقتال الروم، والروم يبتدئون من تبوك إلى ما وراء البحر الأبيض، فلما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم التعبئة العامة والنفير العام جاء نحو من ستة وثلاثين منافقاً يطلبون من رسول الله الإذن لهم بالتخلف عن القتال والخروج معه صلى الله عليه وسلم؛ كراهية في نفوسهم من أن ينتصر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، وليس لديهم طيب نفس بقتال الروم أعداء النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم منافقون كافرون.
فأذن لهم وعاتبه ربه: لم تأذن لهم؟ فإنهم لو لم يؤذن لهم لن يخرجوا، ولو أذن لهم لن يخرجوا كذلك، وقد اجتهد صلى الله عليه وسلم وما وفق، وليس هذا بعيب ولا نقص، أمور دنيوية سياسية، اجتهد ورأى أنه لو يأذن لهم بالبقاء خير من أن يخرجوا معه وهو كذلك، فلو خرجوا لفعلوا الأعاجيب، ولكن المفروض أن لا يأذن لهم حتى تنفضح سوأتهم؛ لأنهم لو ما أذن لهم لن يخرجوا، فقد عزموا على ألا يخرجوا؛ مخافة الحرب والمجاعة والشدة كما يظنون هم.
إذاً: مضى من السياق الكثير، وها نحن مع قول ربنا جل وعلا:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ
[التوبة:47]، والآن ذكر الله عز وجل المؤمنين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقال:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ
[التوبة:47] أي: بينكم أيها المؤمنين وفي صفوفكم، لكن لو خرجوا معكم لخرجوا مندسين بينكم.
خطر وجود المنافقين في صفوف المسلمين
قال تعالى:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا 
[التوبة:47] والخبال: الفساد. فلو خرج هؤلاء المنافقين الستة والثلاثون سيحدثون فتناً في أوساط المؤمنين، فسيقولون مثلاً: لماذا تقاتلون؟ وكيف نترك أموالنا تضيع؟ وكيف نقاتل مع هذا الذي يدعي أنه كذا؟!
وسيحدثون بلبلة وخبالاً في الناس، وخاصة العوام والذين هم ضعاف الإيمان، والله! لكما قال الله
وتعرفون ما يسمونه الآن بالطابور الخامس.
وقال تعالى:
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ
[التوبة:47]، أي: مشوا بينكم مسرعين يحدثون الفتنة والمشاغب والمتاعب، فمعنى الإيضاع: المشي بسرعة.
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ
[التوبة:47] أي: يطلبون لكم الفتنة بالخلاف والفرقة والعداء، وترك الجهاد، فالذين خرجوا ليسوا كلهم أبا بكر الصديق أو عمر ، فقد كان عددهم اثنا عشر ألفاً، وفيهم من سيتأثر بأقوال هؤلاء المنافقين التي في ظاهرها النصيحة وكذا، وفي باطنها كره للرسول صلى الله عليه وسلم، وكره للإسلام والمسلمين.
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
[التوبة:47] السمَّاع: الذي ينقل الخبر، أي: سماعون يسمعون ما تقولون، وينقلونه إلى أعدائكم، فمنذ مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والمنافقون -هكذا- ينقلون الأخبار إلى المشركين وإلى اليهود؛ إرادةً للفتنة، وإفساداً للإسلام وأهله.
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
[التوبة:47]، وقد يجوز القول: وفي المؤمنين من يسمع ويستجيب لهم؛ لحسن كلامهم ولباقة لسانهم فيتأثر المؤمنون، وهو كذلك فالآية تدل على المعنيين.
جزاء الله للظالمين على ظلمهم
قال تعالى:
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 
[التوبة:47]، سوف يجزي الله عز وجل المنافقين ما دام أنه عليماً بهم، وسوف ينالهم من عدله وحكمته ما ينالهم من الكرب، والهم والحزن، والعذاب في الدار الآخرة.
والمراد (بالظالمين):
أولاً: القاعدة العامة وهي: (الظلم معناه: وضع الشيء في غير موضعه). فمثلاً: لو أن طالباً -الآن- ينام في الدرس يكون قد ظلم، فليس المكان مكاناً للنوم، أو لو أن أحدهم -مثلاً- توسد ذراعه ونام في الشارع يكون أيضاً قد ظلم، فالشارع أيضاً ليس مكاناً للنوم، بل لمرور الناس، فوضع الشيء في غير موضعه هو الظلم.
إذاً: فالله عز وجل أمرنا أن نعبده وحده ولا نعبد معه سواه، فإذا عبدنا معه غيره نكون قد وضعنا العبادة في غير موضعها، وصرنا ظالمين.
ولهذا أضيف إلى -ما علمتم-: أن أفظع وأقبح أنواع الظلم: عبادة غير الله عز وجل مع عبادة الله، ألا وهو الشرك، والله عز وجل يقول على لسان لقمان الحكيم :
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان:13].
ووجه ذلك: أخلقك وأرزقك وأحفظك وأكلؤك، وأخلق الحياة كلها من أجلك وتعرض عني، وتلتفت إلى غيري تركع وتسجد؟! فأي بشاعة أعظم من هذه؟! فحقاً والله!
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان:13]، يخلقك ويرزقك ويسمع منك ويعطيك ويراك ويعلم حالك، وتقبل على حجر أو ميت لا يسمع بك ولا يراك ولا يعطيك ولا ينفعك، وتعبده بالإذعان والانطراح بين يديه، فأي قبح أعظم من هذا؟!
فقوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
[التوبة:47] تسجيل للمنافقين بأنهم مشركون كافرون.
ثم قال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ 
[التوبة:48]، (لقد ابتغوا الفتنة): أي: طلبوها من قبل. ومن أظهر مظاهر الفتنة التي طلبوها كانت في غزوة أحد، فـ
ابن أبي -عليه لعنة الله- رجع إلى المدينة بعد خروجهم لقتال المشركين، وقال: لِمَ يطيعهم ويعصيني؟ لِمَ يطيع الأحداث ويقبل الآراء، وأنا اقترحت عليه ألا يخرج إلى قتال قريش في أحد؟
فعندما جاء المشركون للانتقام من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، بعد هزيمتهم في بدر في السنة الثانية، جاءوا في السنة الرابعة يريدون أن ينتقموا فنزلوا شمال المدينة وغربها، فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في الروضة: ماذا ترون، هل نبقى في بيوتنا، وإذا دخلوا ديارنا نرميهم من على السطوح، ويقاتلهم رجالنا ونساؤنا وأطفالنا ونهزمهم، أفضل مما نخرج لهم فنحن أقلية.
فقالوا والشبيبة بالذات: كيف نسمح لهم بدخول بلادنا؟ يجب أن نخرج لهم.
فـابن أبي -لعنة الله عليه- كان يرى أن من الحكمة: ألا نخرج لهم؛ لقلتنا وكثرتهم، وكوننا نتحصن في بيوتنا أفضل، والرسول صلى الله عليه وسلم رأى أن الخروج ليس بصالح، فاتفق معه ابن أبي ، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الأكثرية تصيح: كيف نسمح لهم بدخول بلادنا وأرضنا وديارنا؟ لبس صلى الله عليه وسلم لأمته ولباس حربه وخرج، فصاح المنافقون، فقال لهم: لا تخرجوا، ( ما كان لنبي أن يضع لأمته من على رأسه، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه ).
وهذه اللطيفة كررناها: لما عزمت بريطانيا على استعمار السودان واستغلالها، وخرجت جيوشها في البواخر في ذلك الزمان، قام الشيخ رشيد رضا مع مولاه ومع شيخه محمد عبده وأرسلوا إلى البريطانيين يقولون: ما هناك حاجة أبداً إلى قتال هؤلاء، نحن نتولى هدايتهم وإصلاحهم، وإنهاء الفتنة، فقالت رجالات بريطانيا: ليس من شأننا أن نبحر بجيوشنا ثم نرجع قبل أن نحقق هدفنا.
فقلنا: سبحان الله! أخذوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما كان لنبي أن يضع لأمته من على رأسه ثم ينزعها، حتى يحكم الله بينه وبين عدوه )، ونحن لم نأخذها!
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأثناء الطريق رجع ابن أبي ، وكادت قبيلة بني سلمة وبني الحارث أن يرجعوا، فلو رجعت هاتان القبيلتان لما بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ثلاثمائة رجل، فقد كان عدد هاتين القبيلتين ستمائة رجل، وعدد الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعمائة رجل.
وهذا هو مقصود المنافقين:
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ
[التوبة:48] تدخل في هذه الحادثة بالذات، ثم الفتنة ابتغوها وطلبوها منذ مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهم يهيجون الناس، ويثيرون عواطفهم؛ لأنهم منافقون أي: كافرون، ما يريدون أن يعبد الله وحده، ولا أن ينتصر دينه ورسوله والمؤمنون، وإلى الآن هذا هو شأن المنافقين.
معنى قوله تعالى: (حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون)
قال تعالى:
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ 
[التوبة:48]، (جاء الحق): أي: تلك الانتصارات التي تمت للرسول صلى الله عليه وسلم، وبخاصة فتح مكة، فلما فتح الله مكة، وزاد هزيمة ثقيف في الطائف أصيبوا بالخبال والضياع وانهزموا، وأصبح العرب يأتون وفوداً أفواجاً ليسلموا بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا هو معنى قوله تعالى:
حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ
[التوبة:48]، أي: بانتصار دينه ورسوله
وَهُمْ كَارِهُونَ
[التوبة:48]، فلم يفرح المنافقون بفتح مكة، ولا بانتصار الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف ولا في غيرها، وهذا شأن الكافرين إلى اليوم، فلا يوجد كافر على وجه الأرض يحب للإسلام أن يجتمع أهله، أو تكون لهم راية واحدة، أو دولة واحدة، أو صف واحد، فوالله! ما يريدون ولا يرغبون أو يفكرون في أن لو استغنى العالم الإسلامي ولم يحتج إليهم، بل يحاولون أن نكون دائماً في حاجة إليهم، وسبب ذلك هو الكفر، فهم يريدوننا أن نكفر مثلهم، ولا يريدوننا أن نتميز عليهم ونرجوا الله والدار الآخرة والجنة، وهم يعرفون ذلك ولا يريدونه؛ لعماهم وضلالهم وما أصيبوا به من فتنة الكفر والشرك، فلا يريدون أن نتميز عليهم أبداً، ومع الأسف نجحوا في الجملة، وفعلوا بنا وما فعلوا.
وألفت النظر: يا رجال الإسلام! اعفوا لحاكم.. يا رجال الإسلام! لا تدخلوا البنوك ولا تتعاملوا مع أهلها.. يا رجال الإسلام! لا تسمعوا من العواهر في بيوتكم.. أبعدوا هذه الدشوش والصحون الهوائية، لا تسمع لصوت عاهرة أو كافر في بيتك وأنت عبد الله ووليه، طهروا قلوبكم من الاختلاف والشك والارتياب، أقبلوا على الله بوجوهكم وقلوبكم. فهذا لا يبغونه ولا يريدونه، بل يريدون أن نبقى سخرة لهم يفعلون ما يشاءون، يهينوننا ويرون أنهم أعز منا وأكرم، وهم شر الخلق! لو تجتمع أوروبا وأمريكا واليابان والصين ونخرج منهم المؤمنين والمؤمنات ونضعهم في كفة لرجحوا بكفة مؤمن واحد، وسبب ذلك الكفر والعياذ بالله.