المنافقون هم أناس جبلوا على الكذب والخيانة، وحرموا نعمة التوكل على الله سبحانه والرضا بقضائه، قلوبهم كقلوب الطير تكاد تخرج من صدورهم إذا ألمت ملمة أو حدث حادث أو خطب، أو واجهوا عدواً في ساحة قتال، فإذا جاء الأمن سلقوا المؤمنين بألسنتهم وطعنوا في دين الله، ولمزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أوتوا نصيباً من الدنيا رضوا، وإن لم يعطوا اعترضوا وسخطوا وبدءوا بنشر ما يعتمل في صدورهم من حقد على دين الله ورسوله والمؤمنين.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة التوبة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وها نحن ما زلنا مع سورة التوبة المدنية -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة-، ومع هذه الآيات المباركات، سوف نسمعها مرتلة مجودة أولاً، ثم نأخذ في تدارسها بيننا إن شاء الله.
وشاهدوا أنوار الله تعلو وتغمر البلاد فما استطاعوا أن يصروا على الكفر علناً، فجحدوا كفرهم في قلوبهم، وأظهروا الإيمان بألسنتهم وسلوكهم، وما هم بمصدقين لا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلقاء الله والبعث الآخر، ولا بكتاب الله وما ينزله من آيات القرآن الكريم، فكانوا ينافقون المؤمنين، أي: يظهرون لهم أنهم مؤمنون، وأنهم معهم، ولكن في الباطن والسر هم ضدهم مائة في المائة، بل كانوا يتعاونون مع المتآمرين ومع المحاربين خارج المدينة، فلنصغي إلى هذه الآيات فإنها في شأنهم.
وشيء آخر: ما بعد الكفر ذنب، فكيف يتقبل منهم وهم كفار جاحدون لله وألوهيته، وجاحدون لكتابه وآياته، وجاحدون لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته ورسالته، وجاحدون بالبعث الآخر والدار الآخرة؟!
وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56] أي: يخافون كل الخوف، فالخوف والفزع من الموت، والضرب والهلاك جعلهم يعلنون عن إسلامهم باللسان فقط، أي: إيمان صوري وإسلام صوري، فهذه الجملة تعليلية لكونهم يتصدقون وينفقون ولا يريدون وجه الله؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يقبل منهم ذلك، ويدعون أنهم معنا وما هم معنا، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التوبة:56] أي: في إيمانكم وإسلامكم ووحدتكم واتباعكم لرسولكم جزء واحد لا فرق بينه وبينهم، والله يقول: وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التوبة:56] أي: كفار يصرون على الكفر والشرك والتكذيب، ويجحدون كل ما جاء به رسول الله، وباللسان يقولون: إنا منكم ومعكم؛ خشية الخوف فهو الحامل لهم على هذا القول، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56] والفرق: الخوف الشديد، أي: ترتعد فرائصهم خوفاً.
تفسير قوله تعالى: (لو يجدون ملجأً أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون)
وهذه الآية أيضاً يفهمونها المنافقون أكثر مما نفهمها نحن، ولهذا تمزق قلوبهم، بل ولهذا أسلموا إلا من شاء الله.
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات...)
ثم قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:58]، وهذه صفة أخرى، (يلمزك) أي: يطعن فيك ويعيبك في الصدقات، قالوا: كيف يعطي الصدقات للأعراب أصحاب البادية ولا يعطينا نحن؟
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا [التوبة:59] أولاً رضوا بما آتاهم الله ورسوله من أموال الغنائم، وقالوا: حسبنا الله، يكفينا الله عز وجل ما قالوا ورسوله؛ فالكافي هو الله.
[ ثانياً: الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق ] وهذا الوصف لا يفارق المنافقين أبداً.
الجبن، والخور، والضعف، والخوف.. لازمة للكفر والنفاق، فلا يوجد كفر ونفاق إلا وجدت هذه الصفات: الخوف والفزع والهلع والفرق؛ لقوله تعالى: وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ [التوبة:56].
[ ثالثاً: عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك ].