إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (41)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في غزوة تبوك تعرض المؤمنون للشدائد بسبب الحر الشديد وقلة الزاد، فكادت قلوب بعضهم أن تزيغ، إلا أن الله أعلن توبته عليهم مراعاة لما كانوا فيه من الشدة، كما أعلن الله توبته على الثلاثة الذين خلفوا من بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت بسبب تخلفهم عن رسول الله ومقاطعة المؤمنين لهم بأمر من الله ورسوله لمدة خمسين يوماً.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة التوبة المدنية المباركة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة-، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم بعد ذلك نتدارسها

    والله نسأل أن يفتح علينا ويعلمنا ما لم نكن نعلم ويرزقنا العمل بما نعلم.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:117-119].

    ذكر بعض أحداث غزوة تبوك التي نزلت بشأنها الآيات

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117] أذكركم بالحادثة التي نزلت في شأنها هذه الآيات، إنها غزوة تبوك، تلك الغزوة التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثون ألف مجاهد من أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين غزوته لبلاد الروم، وكانت -كما علمتم- في أيام القيض الشديدة والحر الشديد والحاجة والفقر، ولهذا سميت بغزوة العسرة.

    وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم التعبئة العامة والنفير الكامل وخرج مع المؤمنين وتخلف حوالي ثمانين رجلاً ما خرجوا، ولما كانوا في الطريق أصابهم ظمأ وعطش حتى كان الرجل -كما أخبر بذلك عمر رضي الله عنه- يذبح بعيره ليعصر ما في الكرش ويشرب ذلك الماء، ثم رفعوا شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل ربه فارتفعت سحابة في السماء، فما هي إلا دقائق والمياه تجري تحتهم، وجاعوا فاستأذنوا رسول الله في أن يذبحوا الإبل ليأكلوا، فاعترض عمر وقال: يا رسول الله! هذه مراكبهم فعلى أي شيء يركبون؟ ولكن فليجمعوا ما عندهم من الطعام وادع الله أن يبارك فيه.

    فجمعوا ما عندهم من الطعام حفنة التمر وقرص الخبز الجاف اليابس فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت كأنها كدية، ثم أخذوا يملئون أزوادهم ويأكلون، فامتلأ كل إناء عندهم وبقيت كذلك بقية، آية الله عز وجل، وعاد الحبيب ورجاله بعد عشرين يوماً أقامها بتبوك، وأما السير فلا تسأل؛ قضوا شعبان وعشرة أيام من رمضان، فلما نزل الحبيب بالمدينة وعلى سنته توضأ ودخل المسجد فصلى ركعتين، ثم جلس فجاء المتخلفون يعتذرون إليه، هذا يقول: امرأتي مريضة وهذا يقول: زادي قليل، والرسول يقبل منهم.

    ذكر بعض خبر الثلاثة المخلفين

    وتخلف ثلاثة: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، هؤلاء الثلاثة من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استطاعوا أن يأتوا ليعتذروا ويكذبوا كما فعل بعض المنافقين وضعفة الإيمان، قالوا: ما نستطيع أبداً أن نقول غير الواقع. فأخبروا رسول الله واحداً بعد واحد أنه لا عذر لأحدنا والأمر إلى الله ثم إليك يا رسول الله، فأعرض عنهم رسول الله وأعلن عن هجرانهم وعن تركهم وهجرهم بدون تحديد، ومن ثم فلا يستطيع أحد أن يقول: السلام عليكم، والمرأة تمد رغيف العيش بيدها ولا تنظر إلى زوجها، هجران كامل، ومن عجيب الأحداث أن كعب بن مالك كان في سوق المدينة ولا يسلم عليه أحد ولا يكلمه آخر، وإذا برجل من الشام من التجار يقول له: أنت فلان؟ قال: أنا فلان، قال: هذه الرسالة من ملك غسان من بلاد الشام، وغسان عرب وملكهم عندهم، يقول الملك في رسالته: بلغنا أنهم هجروك وقطعوا صلتهم بك، فإلينا تجد الصدور رحبة والأماكن واسعة! ابتلاء عظيم، فأخذ الرسالة كعب بن مالك وعرف أنها الفتنة فرمى بها في النار فاحترقت، وما إن اكتملت الخمسون يوماً -شهران إلا عشرة أيام- حتى نزلت هذه الآية.

    إعلان التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار

    لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التوبة:117] والنبي ما فعل حتى يتوب الله عليه؟ أذن لمن استأذنوه في البقاء وليس من حقه أن يأذن لهم، وفي هذا يقول تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اللفظ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:117]، المهاجرون الذين هجروا ديارهم ونزلوا بالمدينة نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتفافاً حوله لتعلم دين الله والعمل به وأكثرهم من مكة، هم المهاجرون وسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنصار سكان المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج الذين آووا رسول الله واحتضنوه ونصروه ونصروا دين الله معه.

    لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ[التوبة:117] ما ساعة العسرة؟ تلك الرحلة من المدينة إلى تبوك على الإبل والخيول، ولقد علمتم صورة من الجوع والعطش وماذا تم في العسرة، مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ[التوبة:117] متى حصل هذا؟ عندما اشتد العطش وضاعوا وخافوا على أنفسهم من الموت هناك قلوب كادت تزيغ ولكن الله عصمها، فما قالوا: نرجع، ولا قالوا: نموت جوعاً أو عطشاً. اشتد بهم العطش يوماً والجوع يوماً آخر فكادت قلوب بعضهم تميل عن العقل، ولا يضرهم ذلك لأنهم ما فعلوا ولا نطقوا.

    وهنا لطيفة: وهي أن ولي الله يعصمه الله، يقع في المحنة في الشدة ولكن لا يزيغ قلبه عن حب الله وطاعته ورضوانه إلى يوم القيامة، مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117]، فبهذا فتح قلوبهم وملأها بأنواره وعرفوا ربهم واستقاموا على منهجه لأنه بهم رءوف رحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088550111

    عدد مرات الحفظ

    777273505