إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (45)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن ذكر الله عز وجل في ثنايا هذه السورة أحوال المنافقين في تعاملهم مع آيات الله وأحكامه، وفي تعاملهم مع رسوله وعباده المؤمنين، ذكر الله عز وجل العرب قاطبة بفضله عليهم بإرساله هذا الرسول من أوسط بيوتهم وأشرف أسرهم، والذي يعرفون نسبه وأمانته وصدقه فيهم، علاوة على ما جبل عليه من الرأفة والرحمة بهم، والذي يحمله على الصبر على أذاهم، والرغبة في هدايتهم ورشادهم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع آخر سورة التوبة، تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة، وهما آيتان من خاتمتها، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتهما مجودة مرتلة، ثم نتدارسهما إن شاء الله تعالى.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128-129]. سبحانه وجل جلاله. ‏

    اختلاف الصحابة في موضع الآيتين من المصحف

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من باب العلم: قد اختلف المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع هاتين الآيتين، واستقر الرأي على وضعهما في هذا المكان في آخر سورة التوبة المدنية، مع أن صيغة الآيتين مكية، حتى إن عمر رضي الله عنه قال: لو كانت الآيتان ثلاثاً آيات لجعلتها سورة، وكتبت (بسم الله الرحمن الرحيم) عليها. لكن ما هناك سورة أقل من ثلاث آيات، هذا دليل على أنهم اختلفوا أين يضعون هاتين الآيتين، واتفقوا على وضعهما في هذا المكان، فوافق ذلك الكتاب المحفوظ في اللوح المحفوظ، أحلف بالله لهذا وضعهما في الكتاب المحفوظ في اللوح المحفوظ.

    فضل الذكر الوارد في الآية الأخيرة

    ولهاتين الآيتين وللآية الأخيرة فضيلة كبيرة خذوها، وأقول: مع الأسف أن من المستمعين والمستمعات من لا يبالي بهذا الخيرية العظيمة، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح: ( من قال حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات؛ كفاه الله عز وجل ما أهمه صادقاً كان أو كاذباً ).

    أسألكم بالله: كيف نعرف هذا ونتركه؟! وكم من فضائل وكمالات نقرؤها وتمر بين أيدينا وما نعمل بها، والدليل: هل أمة الإسلام عاملة بشرائع الله وعبادته وأحكامه؟ ولكن هذا لا يمنعنا أن نتخذها ورداً من الليلة، أتعجز أن تقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم؟! قل: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات في صلاة الصبح، وسبع مرات في صلاة المغرب قبلها أو بعدها؛ يؤمنك الله من كل ما تكره، ويحفظك طول ليلك وطول نهارك، تأخذ صكاً بالأمن طول الليل وطول النهار مما تكره! أمنه الله وإن كان غير صادق في قوله: حسبي الله؛ لأن من قال: حسبي الله وضع أمره بين يدي الله وقال: يكفيني، لا مدفع ولا رشاش ولا جيش ولا عسكر يحفظني، يحفظني ربي، حسبي الله كافيني في كل ما يضرني ويؤذيني.

    فكل من أراد الله به خيراً فسوف يحفظ هذه الآية، ويرددها صباح مساء حتى وفاته، والذي ما حفظها يجلس إلى آخر ويقول له: أنت حفظتها؟ سأحفظها عنك، فيسمعها ثلاث أو أربع مرات فيحفظها، يذهب إلى بيته فيقول لامرأته: اسمعي مني هذه الآية، وهي عندها الكتاب وتحفظ، وفي الشارع في الطريق: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.

    والله! إن قولها والمحافظة عليها في إيمان لخير من مليون يا عشاق الريالات! والله إنها أفضل من مليون، فمليون ريال قد تهلكك وتضرك، وتخرجك من المسجد، وهذه تؤمنك طول حياتك.

    اختيار الرسول من جنس العرب وأفضلهم

    ثانياً: قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] قرئ: ( من أَنفَسِكم ) بمعنى: من أفضلكم وخيركم، فهو حق، (لقد جاءكم رسول من أَنفَسِكم) أكثركم خيراً وفضلاً وكمالاً، ولكن القراءة السبعية هي التي يقرأ بها المؤمنون والمؤمنات: مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] أيها العرب! لماذا؟ لأن الآيات -كما قلنا- مكيات، وقوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ [التوبة:128] أيها العرب الذين وقفوا في وجه الدعوة وحاربوها، وأصروا على عبادة الأصنام، والبقاء على تقليد الآباء الهالكين، يقول تعالى: وعزتنا وجلالنا لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، لو أرسلنا إليكم أعجمياً لقلتم: ما نفهم، ما نستطيع، ولو أرسل ملكاً لقالوا: هذا ملك، كيف نفهم عنه؟ فقطع الله الحجة عليهم: مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، وكونه من العرب يشهد لهذا قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار )، يقول صلى الله عليه وسلم: ( خيار من خيار من خيار )؛ لأن الله اختار من ولد إسماعيل كنانة، واختار من كنانة قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختاره صلى الله عليه وسلم من بني هاشم.

    معنى قوله تعالى: (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم)

    لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128]، من يحمل هذا الهدى وهذا النور يعز عليه ويؤلمه ويشقيه ما من شأنه أن يكسبكم الشقاء والعنت في حياتكم، عجب هذا! يؤلمه يكربه، يحزنه كل ما من شأنه أن يشقيكم ويعنتكم ويعذبكم ويضر بكم، وإن قال قائل: كيف -إذاً- يحملهم على الجهاد؟ قلنا: الجهاد عواقبه كلها خير، مشقة يوم أو ساعة تنتج هداية وراحة أبدية!

    لَقَدْ جَاءَكُمْ [التوبة:128] هذا امتنان من الله عز وجل، امتنان يمتن به على عباده، ولنعلم أن رسالته عامة بدليل قوله تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة:128]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فهو رسول الله إلى الأبيض والأسود، إلى العرب والعجم، إلى الجن والإنس، والله إنه لرسول إلى الجن، وقد أخذ الجن من رسالته واهتدوا بها، وعملوا بها وبلغوها، وفازوا بالجنة في الدار الآخرة، ومن أصر على الشرك والكفر فهو من الهالكين، واقرءوا: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:29-31]، فهو رسول الله إلى الإنس والجن معاً، فالإنس أبيضهم كأصفرهم كلهم قد أرسل الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو منة الله على البشرية كلها.

    لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128] ما معنى هذا؟ أي: يشق عليه ما يشق عليكم، يكرب ويتألم إذا أصابكم ما يكربكم أو يؤلمكم، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128] في أن تهتدوا وتسلموا فترتفعوا وتسموا وتدخلوا الجنة دار السلام، حريص على هدايتهم، بذل كل ما يملك ليلاً ونهاراً من أجل أن يهديهم إلى الله عز وجل.

    رأفته صلى الله عليه وسلم ورحمته بالمؤمنين

    حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] هذه خاصة بالمؤمنين، رحمته رأفته شفقته على المؤمنين، أما الكافرون المشركون المحاربون لله ورسوله المعاندون فما هو بالرءوف الرحيم بهم، بل رءوف رحيم بالمؤمنين، فهنيئاً للمؤمنين، من هم المؤمنون يرحمكم الله؟! هل بنو هاشم؟ بنو تميم؟ بنو سعد؟ من هم؟ المؤمنون: كل من آمن بأنه لا إله إلا الله فعبد الله وحده، وآمن برسول الله فاتبعه ومشى وراءه، وعبد الله بما بينه له، هؤلاء المؤمنون.

    وأركان الإيمان ستة، والذي يكفر بركن منها كافر وليس بمؤمن، والذي يشك فقط في ركن منها والله ما هو بالمؤمن، يجب اليقين الكامل بأن الله موجود حي قيوم عليم حكيم، رب الأولين والآخرين، وإله الأولين والآخرين، وأن لله ملائكة، وأن له كتباً ورسلاً، وأن له يوماً نلقاه فيه، وأن له نظام القضاء والقدر، وهكذا، الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، نظام القدر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088546533

    عدد مرات الحفظ

    777248552