إسلام ويب

تفسير سورة التوبة (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يمتن الله عز وجل على عباده المؤمنين بنصرهم في قتالهم مع المشركين في مواطن كثيرة حين كانوا يتوكلون على ربهم، ولا يعتمدون على قوتهم الذاتية والأسباب المادية المجردة، ثم يذكرهم سبحانه بما حل بهم من النصب والضيق يوم حنين حين اتكلوا على كثرة عددهم وقوة عدتهم ناسين أن النصر من عند الله، ثم يعود ويمتن عليهم بتأييده لهم بعد ذلك بجنود من عنده، وتوبته عليهم.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فها نحن ما زلنا مع سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة- وهانحن أيضاً مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم بعد ذلك نتدارسها، ويفتح الله علينا بما فيه خيرنا وسعادتنا.

    يقول الله عز وجل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:25-28].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول ربنا جل ذكره: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ [التوبة:25].. الآية. فقد تقدم معنا أن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يقاتلوا المشركين، وأن لا يبقوا لهم وجود في هذه الديار؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )، ومنها ينطلق الإسلام والمسلمون، فلا ينبغي أن يبقى مشرك في هذه الديار، وحذرهم من موالاة أقربائهم الكافرين وأصدقائهم في الجاهلية.

    وهنا كأنما قال: لم تخافون وترهبون العدو وقد نصركم الله في مواطن كثيرة؟ أبعد ذلك النصر يهزمكم؟! فحاشاه عز وجل.

    قوله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ [التوبة:25]، (مواطن) جمع موطن، وهو مكان الحرب، ومنها وأولها في بدر وبعدها خيبر، ثم فتح مكة، لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ [التوبة:25]، وبالذات يوم حنين، وحنين: اسم وادٍ ما بين مكة والطائف.

    الإعجاب بالنفس والعمل ومنافاته لصدق التوكل على الله

    بعد أن فتح الله على رسوله مكة، وكان رجاله المجاهدون معه من المدينة عشرة آلاف مقاتل، ما بين أنصاري ومهاجري خرج معه صلى الله عليه وسلم ألفان من مسلمة الفتح ممن هم حديثي عهد بالإسلام؛ لأن هوازن وثقيف لما بلغهم انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: لم يبق مجال أبداً إلا أن نضرب، إما أن ننتصر وإما أن ننكسر، فجمعوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم وأموالهم حتى يموتوا، فلا خيار لهم إلا النصر أو الموت، وخرجوا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصلوا إلى وادي حنين في الليل فدبروا مكيدتهم، فملئوا شعاب الوادي برجالهم، والنبال والسهام في أيديهم، وقالوا: إذا مر محمد ورجاله نصب عليهم مطر السهام فتكون الهزيمة مرة، والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليس عندهم هذا.

    وكان عدد رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً، ولما توغلوا في الوادي ليجتازوه إلى ثقيف، صب عليهم أولئك المشركون سهامهم ونبالهم، والوادي ضيق، فولوا مدبرين وما عرفوا إلى أين يتجهون، ولم يبق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وابن عمه علي ، وثلاثة أو أربعة من آل البيت.

    فكان العباس ينادي: يا أهل السمرة! يا أهل السمرة! أي: يا من بايعتم رسول الله تحت الشجرة في صلح الحديبية! فقد قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فقد ورد أن في الجاهلية شنت غارة على أهل مكة، فصعد العباس إلى الجبل ونادى بأعلى صوته: وا صباحاه! فأسقطت كم من امرأة جنينها من صوته. وقد ذكرت هذه الرواية في التفسير.

    والشاهد عندنا هو: (يا أهل السمرة!) ما إن سمعوا الصوت حتى أخذوا يتراجعون، ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )، وأنزل الله ملائكة فأخذت تلامس قلوب المؤمنين، وتنفخ فيها روح الشجاعة والثبات والإقدام، فعادوا كالجبال، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، وقال: ( شاهت الوجوه )، وما هي إلا جولة وإذ بأولئك المشركون كلهم بنسائهم وأطفالهم وأموالهم أسرى في أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فهذه آية من آيات الله!

    وهاهو تعالى يمن هذا عليهم وعلينا معهم: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ [التوبة:25]، أي: وفي يوم حنين بالذات، إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]؛ لأن الذين ما زالوا حديثي عهد بالإسلام منهم من قال: لن تنتهي هزيمتهم إلى البحر! مسرور بهذه الكلمة، ومنهم من قال: لن نغلب اليوم من قلة، وهذا هو الإعجاب بالنفس، فكانت الهزيمة تأديباً لهم وتربية.

    إذاً: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25]، اثنا عشر ألفاً: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]، يعني: من الإغناء، وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25]، أي: ضاقت الأرض على اتساعها، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25] أي: إلى الوراء، فارين هاربين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088561539

    عدد مرات الحفظ

    777341499