يمتن الله عز وجل على عباده المؤمنين بنصرهم في قتالهم مع المشركين في مواطن كثيرة حين كانوا يتوكلون على ربهم، ولا يعتمدون على قوتهم الذاتية والأسباب المادية المجردة، ثم يذكرهم سبحانه بما حل بهم من النصب والضيق يوم حنين حين اتكلوا على كثرة عددهم وقوة عدتهم ناسين أن النصر من عند الله، ثم يعود ويمتن عليهم بتأييده لهم بعد ذلك بجنود من عنده، وتوبته عليهم.
تفسير قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فها نحن ما زلنا مع سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة- وهانحن أيضاً مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم بعد ذلك نتدارسها، ويفتح الله علينا بما فيه خيرنا وسعادتنا.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول ربنا جل ذكره: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ [التوبة:25].. الآية. فقد تقدم معنا أن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يقاتلوا المشركين، وأن لا يبقوا لهم وجود في هذه الديار؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )، ومنها ينطلق الإسلام والمسلمون، فلا ينبغي أن يبقى مشرك في هذه الديار، وحذرهم من موالاة أقربائهم الكافرين وأصدقائهم في الجاهلية.
وهنا كأنما قال: لم تخافون وترهبون العدو وقد نصركم الله في مواطن كثيرة؟ أبعد ذلك النصر يهزمكم؟! فحاشاه عز وجل.
الإعجاب بالنفس والعمل ومنافاته لصدق التوكل على الله
بعد أن فتح الله على رسوله مكة، وكان رجاله المجاهدون معه من المدينة عشرة آلاف مقاتل، ما بين أنصاري ومهاجري خرج معه صلى الله عليه وسلم ألفان من مسلمة الفتح ممن هم حديثي عهد بالإسلام؛ لأن هوازن وثقيف لما بلغهم انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: لم يبق مجال أبداً إلا أن نضرب، إما أن ننتصر وإما أن ننكسر، فجمعوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم وأموالهم حتى يموتوا، فلا خيار لهم إلا النصر أو الموت، وخرجوا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصلوا إلى وادي حنين في الليل فدبروا مكيدتهم، فملئوا شعاب الوادي برجالهم، والنبال والسهام في أيديهم، وقالوا: إذا مر محمد ورجاله نصب عليهم مطر السهام فتكون الهزيمة مرة، والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليس عندهم هذا.
وكان عدد رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً، ولما توغلوا في الوادي ليجتازوه إلى ثقيف، صب عليهم أولئك المشركون سهامهم ونبالهم، والوادي ضيق، فولوا مدبرين وما عرفوا إلى أين يتجهون، ولم يبق إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وابن عمه علي ، وثلاثة أو أربعة من آل البيت.
والشاهد عندنا هو: (يا أهل السمرة!) ما إن سمعوا الصوت حتى أخذوا يتراجعون، ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، وأنزل الله ملائكة فأخذت تلامس قلوب المؤمنين، وتنفخ فيها روح الشجاعة والثبات والإقدام، فعادوا كالجبال، ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، وقال: ( شاهت الوجوه )، وما هي إلا جولة وإذ بأولئك المشركون كلهم بنسائهم وأطفالهم وأموالهم أسرى في أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فهذه آية من آيات الله!
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26] أي: إلى يوم القيامة، فجزاؤهم النار والخزي والعذاب، وهذا جزاء أعلنه الله تعالى، فالهزائم تصيب الكافرين ولا تصيب المؤمنين.
تفسير قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ...)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [التوبة:28]، لبيك اللهم لبيك! يخبرنا: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، أي: كافة المشركين، سواء مشركي مكة أو مشركي قريش وثقيف، فالمشرك: هو الكافر بالله، الذي يعبد مع الله سواه، أو المنكر لوجود الله كالملاحدة، فكل الكفار نجس.
فبناءً على هذا لا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، فهذا خبر ولكن معناه الأمر، يجب أن يمنعوا وأن يصدوا ويردوا عن المسجد الحرام، وأن يوقف في وجوههم ولا يسمح لكافر أبداً أن يدخل مكة والحرم.
والحمد لله! فقد مضى ألف وأربعمائة سنة وما دخل كافر مكة، فهذه آيات الله؛ لأن الله أودع هذا السر لعباده المسلمين أن لا يسمحوا أبداً لمشرك كافر أن يدخل الحرم المكي، وأما غير الحرم المكي فيجوز لهم أن يدخلوه وبإذن المسلمين إذا كان لأمر ما، لكن ليسوا قاهرين ولا غالبين، فمثلاً لو كانوا يريدون دخول المدينة ويشهادونها فيجوز ويؤذن لهم بذلك، أما باقي المساجد فكذلك، يدخل المسجد الأقصى يشاهد بإذن المؤمنين وتحت إمرتهم ومشاهدتهم.
قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة:28]، والعيلة: الفاقة والفقر؛ لأن الشيطان وسوس، فقالوا: إذا منعنا المشركين وهم يأتون في الحج من كل عام بالتجارة والمال، وأنواع الطعام والثياب..، إذاً تكسد تجارتنا ونفتقر، قالوا: بالفعل، فهذه أمة تعددت.
فلابد من السعي ولابد من العمل، حتى لا يقال: ليس هناك الآن حاجة للعمل، فقد وعدنا الله بالإغناء.
فقوله تعالى: (إِنْ شَاءَ)؛ لتبقى قلوبهم متصلة بالله عز وجل فيسألونه ويتضرعون إليه أن يغنيهم ولا يفقرهم، وإن شئت قلت: لم؟ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28] فهذا تعليل لقوله: إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، فإنه عليم بالطباع والأخلاق والأعمال، وحكيم فيما يشرع ويقنن، فلهذا قال: (إِنْ شَاءَ)، فلو لم يقل: (إِنْ شَاءَ)؛ لاطمأنوا إلى الغنى المطلق بدون عمل، ولكن لابد من الجهاد والكسب والعمل.
[خامساً: منع دخول المشرك الحرم المكي كائناً من كان، بخلاف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين].
(منع دخول المشرك الحرم المكي)، مكة والحرم حولها والمسجد الحرام، (كائناً من كان) أبيض أو أسود، (بخلاف باقي المساجد) فإن لهم أن يدخلوا بإذن المسلمين لمصلحة تقتضي ذلك الدخول.
إذاً: فمن هنا قلنا: لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربه الخوف، فكونه يخاف فلا يصلي، ويخاف فلا يقول كلمة الحق، ويخاف فلا يعطي ما وجب، فهذا الخوف باطل، ولا يمنع المؤمن الخوف من أن يفعل الخير أو يدعو إليه.
[سادساً: لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربه] في واجب من الواجبات أو في منهي من المنهيات، لا يمنع الخوف من الفاقة والفقر ذلك، فإن الله تعالى تعهد بالإغناء إن شاء، أي: افعلوا ما أمر الله واجتنبوا ما نهى الله ولا تخافوا الفقر.
[فإن الله وعدكم الغنى إن شاء]، والله عليم حكيم.
والله تعالى نسأل أن يتوب علينا وعلى سائر المؤمنين.