أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
معاشر المستمعين! بين يدي الدرس سئلت عن مجموعة من المؤمنين جاءوا محرمين بالحج أو بالعمرة، أحرموا من الميقات وهم على متن الطائرة ظانين أنهم يذهبون إلى مكة وإذا بالمسئولين عنهم حولوهم إلى المدينة؛ ليزوروا المسجد النبوي الشريف ويسلموا على رسول الله وصاحبيه، ثم بعد ذلك يعودون إلى مكة، فهل يبقون على إحرامهم أو يتحللون؟ الجواب: يجب أن يبقوا على إحرامهم، ويلبون ويهللون ويكبرون ويدعون، وهم في أشرف عبادة وأفضلها، ولو بقوا في المدينة خمسة أيام أو أسبوع، فهي نعمة كبيرة ساقها الله إليهم؛ لأنهم لله، تجردوا له وهم يلبون التلبية المطلوبة، هذا هو الواجب، ومن تحلل منهم جهلاً لعدم علم فليعد إلى إزاره وردائه وإلى تلبيته وعبادة ربه، ومن قال: أنا لا أعود إلى الإحرام وتحلل فيجب أن يذبح شاة في المدينة أو في مكة، ثم بعد ذلك يحرم إذا أراد الدخول إلى مكة.
مرة أخرى أقول: مجموعة من إخواننا المؤمنين أحرموا ودخلوا جدة محرمين ظانين أنهم يذهبون إلى مكة ليطوفوا لعمرتهم أو لحجهم، فأمروا أن يذهبوا إلى المدينة، فمنهم من تحلل ومنهم من بقي على إحرامه، فما هو الجواب لهذه القضية؟
أقول: المحرم يبقى على إحرامه وهو في خير وعافية، ويشغل وقته بذكر الله والتدبير والعبادة، إذ كان المؤمنون يحرمون من مدينة الرسول عشرة أيام وهم في الطريق يلبون.
إذاً: فليبقوا على إحرامهم وهم في نعمة كبيرة، ومن جهل الوضع وتحلل وهو لا يدري فليعد إلى إحرامه ولا شيء عليه، ومن أصر على أن يبقى متحللاً وتحلل بالفعل وأصر على تحلله فإن عليه أن يذبح شاة في المدينة أو في مكة؛ لأنه كالمحصر، فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، أحصر رسول الله وألف وأربعمائة صحابي فذبحوا هديهم وعادوا إلى المدينة، خرجوا ملبين بالعمرة حتى وصلوا قبل عشرين كيلو متر من مكة، فمنعتهم قريش، فماذا يصنعون؟ ذبحوا وتحللوا ونزل في هذا قرآن يقرأ إلى يوم القيامة: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] عليكم يا من أتيتم محرمين تريدون مكة ثم منعتم منها بواسطة القائمين عليكم ومسئوليكم وقالوا: اذهبوا إلى المدينة أولاً. فمن بقي على إحرامه فهنيئاً له، فليبق على إحرامه حتى يزور ويعود إلى مكة، ومن تحلل بدون علم جهلاً ظن أنه يجوز فعليه أن يعود إلى إحرامه، ومن أصر على ألا يعود إلى إحرامه فليذبح شاة غداً في المدينة أو بعده في مكة وجوباً، مقابل أنه أحصر وتحلل فيجب أن يذبح شاة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة:73-76].
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ [المائدة:73]، كفروا بالله ولقائه ورسله وكتبه، كفراً لم يبق لهم معه حظ في الإسلام، من هم الذين كفروا؟ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، اليعقوبية قالوا: إن الناسوت حل في اللاهوت، بدعة شيطانية إبليسية يسخر منها كل ذو عقل، ما معنى أنه حل الناسوت في اللاهوت وأصبح الإله واحداً، فعيسى هو الإله؟! أعوذ بالله، كيف يصبح عيسى ابن مريم هو الله؟! أي عقل هذا، أي فهم، أي ذوق؟!
وفرق أخرى قالت: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، الأقانيم ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، الله وعيسى وجبريل! وهذه سخرية واستهزاء وعبث، كيف يقبل ذو العقل هذا الكلام: اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، الآلهة ثلاثة والله واحد!
ما هو الإله يا غافل؟ الإله: المعبود، ولا يستحق عبادتي كائن إلا من خلقني ووهب حياتي وبيده مصيري وهو مالكي ومالك كل أمر عندي، ذاك الذي هو إلهي أعبده، أما الذي ما خلقني ولا رزقني ولا دبر حياتي فكيف يكون إلهاً لي؟! أمجنون أنا؟! لم لا يفكرون؟
فهذه الفرق النصرانية غلبت عليها الشياطين والأهواء والشهوات والأطماع والتقاليد العمياء حتى قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، فأبطل الله زعمهم هذا وحكم بكفرهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73].
ثم قال تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة:73]، ألا وهو الله رب العالمين خالق عيسى والأنبياء والمرسلين ورب كل شيء ومالك كل شيء.
وما هو سر هذا الحكم يا أهل القرآن؟ لأن الذي كفر بالله نفسه خبيثة، روحه منتنة عفنة كأرواح الشياطين والكافرين، وهل صاحب الروح الخبيثة يدخل دار السلام؟ والله ما يدخلها، لقد صدر حكم الله على البشرية، بل على عالم الإنس والجن، وهو قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فمن زكى نفسه بمعنى: طيبها وطهرها بأداة الإيمان وصالح الأعمال؛ فقد أفلح وفاز بدخول الجنة والنجاة من دار الشقاء النار، ومن دسىى نفسه وأخبثها وعفنها بالشرك والكفر والذنوب والآثام فمصيره الخسران التام، فلم لا يسألون حتى يعملوا؟ لم لا يقول المسيحي: يا مسلم! بلغني أننا كفار، فما الدليل على كفرنا؟ يقول: لأنكم كذبتم على الله، وادعيتم أن الله ليس بواحد بل ثلاثة، أو أدعيتم أن عيسى هو الله وهذا هو كفر منتن عفن، الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، الذي كون هذه الكائنات وأوجدها وهو يدبرها طول حياتها، أهذا يكون له ولد؟ وكيف يكون له ولد ولا زوجة له؟ والذي يخلق ما يشاء بكلمة: كن هل يحتاج إلى ولد يساعده أو زوجة يستأنس بها؟ كيف هذا الفهم؟! حرام هذا الكلام، عيب هذا الكلام أن يقال في حق الله عز وجل، ولكن كتب الله دار الشقاء والسعادة، وعلم أهلهما قبل أن يخلقهما.
أعيد تلاوة الآية الآية، فيجب أن تفهموا يا عرب، كيف لا تفهمون كلام الله؟ لم أنزله، اسمع قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، من حكم بكفرهم؟ الله. وَمَا مِنْ إِلَهٍ [المائدة:73] والله إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ [المائدة:73]، والله! لا يوجد إله حق إلا الله؛ لأن الإله الحق هو الذي خلقني ووهبني سمعي، بصري، دقات قلبي، أوجد الكون من أجلي، خلقني وخلق كل شيء من أجلي، هذا الذي أؤلهه، هذا الذي أعبده، هذا الذي أعظمه، هذا الذي أكبره، أما مخلوق مثلي فكيف أجعله إلهاً؟!
وقد هبط الناس وعبدوا الفروج، وعبدوا البهائم، وعبدوا الأشجار والأحجار، وألهوا الشهوات: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، ومد عنقه لشهوته يجري وراء شهوته، يجري وراءها كالكلب، يجري إلى الزنا، إلى اللواط، إلى الكذب، إلى الخيانة، إلى التعفن، كل ما زين له هواه يعبده، أعوذ بالله.
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ [المائدة:73]، وعزة الله وجلاله لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:73]، أما من تاب فقد تاب الله عليه، من أصر على قول الكفر له عذاب أليم.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ [المائدة:74]، أولئك الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: عيسى هو الله، أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74]، أي: يطلبون المغفرة لذنوبهم. والتوبة معناها: الرجوع إلى الحق، قلنا: الله ثالث ثلاثة، ولكن عرفنا الحق، فالآن نقول: لا إله إلا الله، تبنا، رجعنا إلى كلمة الحق، وهي: أنه لا معبود إلا الله، ثم نقول: اللهم اغفر لنا ذنوبنا السالفة التي ارتكبناها بكفرنا، اللهم اغفر لنا. فإن تابوا واستغفروا تاب الله عليهم وغفر لهم؛ لأن من صفاته: الغفور الرحيم.
إذاً: مَا الْمَسِيحُ [المائدة:75]، ما عيسى ابن مريم إِلَّا رَسُولٌ [المائدة:75]، ما هو بابن الله ولا هو الله ولا هو بإله مع الآلهة أبداً، هو عبد الله ورسوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75]، مضت من قبله الرسل في ثلاثمائة واثني عشر، وهو كملها ورسول الله تممها، جاء بعده، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:75] بإله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة مع الله، ما هو إلا رسول، وهذا شرف، عظيمة هذه المنزلة، رسول من جملة الرسل، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [المائدة:75]، أي: مضت، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، وَأُمُّهُ [المائدة:75] ما هو شأنها، ما صفتها، ما تعرفون عنها؟ هل هي كذابة، دجالة، فاجرة؟ لا. بل صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، من شهد لها بهذه؟ الله جل جلاله، كثيرة الصدق لا تعرف الكذب أبداً بحال من الأحوال، وعندنا نحن صديقة هي عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق، فهي والله صديقة، حبيبة رسول الله وزوجته، بنت أبي بكر .
إذا: مريم صديقة، فكيف تجعلونها إلهاً مع الله وهي صديقة صادقة لا تعرف الكذب والافتراء والباطل بحال من الأحوال؟ قال تعالى: صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، ما قال: نبية أو رسولة، ما هي بنبية ولا رسولة، ولكن صديقة، يكفيها هذا الفخر والشرف، الله أثبت لها هذا الوصف وشهد به لها، فمن يساوي مريم عليها السلام العذراء البتول.
فما المسيح ابن مريم بنبي ، ما المسيح ابن مريم بإله، ولا ثاني اثنين مع الله، ولا هو الله، وأمه كذلك صديقة.
كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، والذي يأكل الطعام يتغوط أم لا؟ والذي يفرز العفن يصلح أن نعظمه ونعبده ونسجد له ونرفع أيدينا نسأله ليعطينا؟ لو انحصر الطعام في بطنه لمات، فلا إله إلا الله! ما هذا البيان الإلهي! قولوا: آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله. هذا كتاب الله فيه العجب، رضي الله عن إخوان لنا من الجن قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2]، مجموعة من الجن مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الصبح في بطن نخلة بين مكة والطائف، ما إن سمعوا حتى التفوا حوله، وسمعوا، وعادوا إلى أقوامهم: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، وقالوا: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:31-32].
أنتم الآن تذوقتم ما تذوق الجن أم لا؟ هذا الكلام أليس بعجب؟ أبطل التثليث وانتزعه من قلوب الناس، أنهاه، أنهى فكرة أن عيسى إله وأن مريم إله، بالعقل والمنطق: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ [المائدة:75] فقط، ما هو بالله ولا بابن الله ولا ثالث ثلاثة مع الله، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، ما هي بأقنوم من الأقانيم المكذوبة، صديقة لا تعرف الكذب
و كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، الذي يأكل الطعام يخرأ أم لا؟ والذي يفرز العفن هل يصلح أن يعبد؟ كيف يسأل أو يدعى؟ آمنا بالله.. آمنا بالله.. آمنا بالله.
ثُمَّ انظُرْ أَنَّى [المائدة:75]، أي: كيف يُؤْفَكُونَ [المائدة:75]، من يأفكهم؟ ومن يصرفهم؟ الشياطين والأهواء والشهوات والذين يريدون أن يكونوا رؤساء عليهم يسودونهم ويحكمونهم.
ومن يملك الضر والنفع؟ إنه الله.
هذا سيد الخلق الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وقفت على قبره ألف سنة تقول: يا رسول الله! إني مريض، يا رسول الله! إني جائع، يا رسول الله! بلادنا استعمرت، يا رسول الله! امرأتي غضبى؛ فلن تسمع منه كلمة، ولا يجيبك في قضية، فكيف تعبده إذاً؟!
أما فهمتم هذا التعجب: قُلْ [المائدة:76] يا رسولنا أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا [المائدة:76]، لا يدفع عنكم ضراً ولا يكسبكم نفعاً، اعبدوا الذي إذا رفعت كفيك إليه وقلت: يا رب سمعك وأجابك وقضى حاجتك إن كان في ذلك خير لك.
انظروا يا عباد الله لتفهموا أن الدعاء هو العبادة، من دعا غير الله كفر، من دعا غير الله أشرك، من دعا غير الله جهل الله، من دعا غير الله اعتدى على الله، من دعا غير الله خاب وخسر، وأصور لكم ذلك في رجل يرفع يديه إلى السماء يدعو الله، وأبين ذلك فأقول:
إن هذا الرجل فقير محتاج، فما الدليل على فقره واحتياجه؟ الدليل: رفعه كفيه يستعطف ويسترحم، فهل هو فقير أم لا؟ محتاج أم لا؟
ثانياً: الذي رفع كفيه إليه يعلم أنه يراه، لو لا يقينه بأن الله يراه ما رفع كفيه إليه وهو بعيد عنه، لكن علم أن الله يراه، ولهذا رفع كفيه إليه.
ثالثاً: ها هو يدعو يقول: اللهم اغفر لنا.. اللهم ارحمنا، لولا علمه أن الله يسمع كلامه فهل سيسأله بلسانه؟ لولا يقينه أن الله يسمع كلماته التي ينطق بها ما كلمه ولا قال: أعطني ولا اغفر لي، لكنه موقن أن الله يسمعه، أليس كذلك؟
رابعاً: لو كان الله ما هو فوق عرشه فوق سماواته لم يرفع يديه هكذا؟ موقن أن الله فوقه.
فلهذا الدعاء هو العبادة، الدعاء مخها، من دعا غير الله حبط وتمزق وكفر وتلاشى، فلهذا أحذر الغافلين أن يسألوا غير الله شيئاً، لا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا حاضراً ولا غائباً، اللهم إلا ما أذن الله فيه لنا: أخي إلى جنبي وأنا ظمآن، فأقول: اسقني ماء، فلا بأس، هربت دابتي أو تعطلت سيارتي فقلت: يا عبد الله! تعال أعني عليها، لا بأس، أما أن تقف في الطريق وتقول: يا راعي الحمراء، يا مولى بغداد، وبينك وبينه ألف سنة وعشرة آلاف كيلو وتدعوه وتقول: يأتي ليساعدني؛ فأين يذهب بعقلك يا عبد الله؟ كيف يصح هذا؟!
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة:74-76]، هو الذي ندعوه ونسأله؛ لأنه يسمع نداءنا ويعرف أحوالنا، ويقدر على إعطائنا أو منعنا؛ لأن بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير.
ومع هذا ما زال إخوان لنا وأبناء يقولون: يا سيدي فلان، يا فلان يا فلان! وهذا صفوة الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وقفت غير عام ولا عشرة على الحجرة تناديه ما أجابك، ولو فرضنا أنه أجابك فلن يعطيك ريالاً ولا كأس ماء، فالذي تدعوه ويستجيب هو الله، لا إله إلا الله ولا رب سواه، فلا ندعو إلا الله عز وجل.
هذا والله تعالى أسأل أن يغفر لي ولكم ولسائر المؤمنين والمؤمنات وأن يرحمنا أجمعين، وأن يتوب علينا أجمعين، وأن يحفظنا حتى نلقاه صالحين. اللهم آمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر