وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، والتي تعالج أسمى القضايا وأجل القواعد، ألا وهي عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأن البعث حق، وأنه لا حق لكائن أن يشرع إلا الله عز وجل، وها نحن مع هاتين الآيتين الكريمتين، فلنستمع إلى تلاوتهما مجودتين ثم نشرع في بيان ما أراد الله تعالى منهما:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:57-58].
ومن الدعاء الذي ينبغي ألا يدعوه مؤمن هو دعاء غير الله عز وجل، أو دعاء الله فيما لم تجر به سننه في إعطائه للداعي، إن ذلك من الاعتداء في الدعاء، كأن يسأل الله تعالى أن يرده إلى صباه، أو يسأله منازل الأنبياء ومقامات الرسل وهو ليس بأهل لذلك، لأنه ليس بنبي ولا رسول.
وألا يدعو بشرٍ على مؤمن ولا مؤمنة؛ إذ ذلك من الدعاء الذي حرمه الله عز وجل، إنه من الاعتداء في الدعاء، وألا يسأل الله شيئاً جرت سنة الله بأسبابه، فيُعطِّل الأسباب ويهملها ويسأل الله أن يعطيه ما من شأنه توقفه على السبب، كالذي لا يتزوج ويسأل الله الولد، فهل يتم ولد بدون زواج؟ وكالذي يلصق بالأرض ولا يعمل ويسأل الله الغنى والمال! فالمال تجده بأسباب تقوم بها، هذا ما دلت عليه كلمة: وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
وهذا هو قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، بل حتى في الأسرة، فأسرة صالحة ما يجوز أن تحدث فيها سيئاً قتفسدها بعد أن أصلحها الله.
ومن أحسن وعاش على الإحسان أحبه الله عز وجل أولاً؛ فإنه يحب المحسنين.
ثانياً: رحمة الله قريبة منه؛ لأن الله تعالى قال: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
فالآية الأولى فيها التعريف بالله لتكون معرفته نوراً في قلب العبد العارف ومن ثم يحب الله ويخشاه، ومن ثم يطيعه في أمره ونهيه، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، الرياح معروفة، وجمعها: ريح، وهو هذا الذي نشاهده ونعيشه والحياة بدونه تنتهي، يرسلها هو جل وعز بما شاء من سنن وأسباب وضعها، هو الفاعل والآمر: يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا [الأعراف:57]، وقرئ: نشراً، تنشر وتبشر، بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، والمراد من رحمة الله هنا المطر، الماء العذب الذي به الحياة، فهو يبعث الرياح تبشر بقرب ساعة المطر، وأنتم تشاهدون هذا في الكون كله، لا يأتي مطر إلا بعد مبشرات، الريح تسوق السحاب والسحاب يظلل الأرض، وإذا أذن الله له بالإمطار أمطر، فيد من تفعل هذا؟ إنها يد الله. من الذي يرسل الريح من مكان إلى مكان من شمال إلى جنوب إلى شرق إلى غرب؟ إنه الله. لم يرسلها؟ من أجل أن تثير سحاباً. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ [الأعراف:57] بمعنى: حملت الثقل، أَقَلَّتْ سَحَابًا [الأعراف:57]، أولاً يرسلها بشرى بين يدي الرحمة، حتى إذا انتظمت وأقلت سحاباً ثقالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف:57]، من الذي يسوق السحاب؟ الله. والبشرية ما لها إلا أن ترفع أكفها إلى الله، وقد يلبث السحاب ساعة وساعتين ويوماً وليلة ويرحل وما يمطر، ما أذن له ربه بالإمطار، سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف:57] ما فيه نبات، ما فيه شجر، والميت الذي لا روح فيه، والأرض ميتة إذا لم يكن فيها زهور ولا أوراق ولا أشجار ولا نباتات، فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57]، أي: بذلك الماء، هو السبب في إخراج النباتات وأنواع الثمار من العنب إلى النخل إلى كل الثمار.
وقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57]، من المتكلم به؟ الله. فهل له شريك؟ والله! لا شريك له.
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ [الأعراف:57] أي: بالماء مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57] التي الناس في حاجة إليها من الزرع إلى غيره.
وقد علمنا يقيناً أن عقيدة البعث والجزاء من أعظم العقائد، فالقلب الذي ليس فيه إيمان بالبعث الآخر متحجر، ولا يزن شيئاً ولا يؤمن صاحبه على شيء، قد تأمن حية إلى جنبك ولا تأمن كافراً بلقاء الله أبداً، متى احتاج إليك امتص دمك، لا يعرف رحمة ولا إنسانية، ما دام قلبه قد خلا من أنه سيقف يوماً بين يدي الله ويستنطقه ويستجوبه ويحاسبه ويجزيه، ولهذا كثيراً ما يقول تعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232].
فهذه الآيات الكونية ساقها ليدلل بها على أن الله يحيينا بعدما نفنى ونموت كما تفنى النباتات والأشجار التي انقطع عنها الماء، ثم يأتي بالماء فتحيا، فكذلك حين تتحلل البشرية وتصبح كلها تراباً يحييها الله عز وجل.
فالحياة الدنيا ستنتهي، وهي تتصرم وتنقطع يوماً بعد يوم، ونحن في آخر أيامها، وهناك نفخة وهي النفخة الأولى نفخة الفناء، واقرءوا لها عدة آيات، منها: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5].
واقرءوا لها: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3]، متى؟ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:4-6]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:1-3]، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:1-3]، هذه آيات علامة نهاية الحياة، فتتحلل السماوات والأرضون وتصبح سديماً أو بخاراً كما كانت قبل خلقها.
ثم تستقر في تلك العوالم التي تموج وتصير دخاناً وبخاراً، تستقر وتسكن وتوجد بها أرض كهذه الصحيفة البيضاء، والعُظيْم الذي هو منبت الإنسان وهو عجب الذنب في آخر خرزات الظهر ذاك -بحمد الله- يبقى في الهواء، وهو بذرة حياتنا التي نحيا بها كبذرة النخلة النواة، موجودة محفوظة بحفظ الله عز جل، يتحلل الكون كله وهي فيه، وتستقر في الأرض الجديدة، فينزل ماء من السماء -أي: من فوق- فننبت كما ينبت البقل، أرأيتم رأس البقل كيف ينبت؟ فكم حجم بذرته؟ أقل ما تتصور، ثم يصبح ذراعاً، فتنبت البشرية كلها تحت الأرض، فإذا تم خلقها صارت كما كانت، الآن النواة حين تغرسها توجد نخلة كما كانت، وأية بذرة من البذور تكون كما كانت، فكذلك بذرة الإنسان عجب الذنب ينبت منها الإنسان كما كان، ثم ينفخ إسرافيل بأمر الله النفخة الثانية، فترسل الأرواح، فبعضها في السماء، وبعضها في الدركات السفلى من الكون، فتدخل كل روح في جسدها، ثم ينفخ النفخة الثانية فإذا البشرية كلها قائمة.
وقال: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، أي: ساق هذه الآية الكريمة علنا نذكر ونحمد الله ونؤمن به، ولا نكفر بلقائه والعياذ بالله تعالى، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57] فتتعظون، فالذي يفكر في هذه الكائنات يهتدي بها إلى أنه عبد الله ويجب أن يؤمن بالله، والذي لا يتذكر ما يتعظ ولا يفهم كالحيوانات.
تأملوا الآية الكريمة: وَهُوَ [الأعراف:57]، أي: الله ربنا الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، ما المراد من رحمته؟ المطر، والعجائز يعرفن هذا، فالمطر رحمة
حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ [الأعراف:57] بأمرنا وإرادتنا. إلى أين؟ سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى [الأعراف:57] إذاً: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57].
وهذا مثل مضروب لنا، هذه الآيات القرآنية حين تتلى كالماء من السماء، فمن كان مستعداً لقبول الحق ومعرفته وكان يتطلع له ويحبه فما تنزل الآيات أو تتلى عليه إلا دخل الإيمان في قلبه واستنار قلبه، وإن كان من تربة سيئة لخبثه وظلمه وكفره فإنه تنزل الآيات ولا تُخرج شيئاً من النبات، وما كان إلا نكداً وعسراً.
أقول: هذه الآية مثل، فالآيات التي تنزل كماء السماء، أليس بها الحياة؟ لولا الآيات القرآنية فهل سنحيا؟ لا والله، لولاها لكنا أمواتاً كالكفار، فالآيات التنزيلية بمثابة المطر الذي يحيي الأرض بعد موتها.
هذا الماء ينزل في الأرض والأرض ليست على نوع واحد، فما كانت ترتبها نقية نظيفة صالحة فعلى الفور أنبتت وحصد الناس الزرع، وإن كانت ذات حجارة أو سبخة أو حمأة فما تنبت قليلاً ولا كثيراً، وإن أنبتت شيئاً ففي عسر وضيق.
قال تعالى: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]، ولهذا فالقرآن يحتاج إلى عقول وفهوم، ويحتاج إلى تدبر وإلى تأمل، ويحتاج قبل كل شيء إلى الإيمان بأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، وبذلك يكسب العبد ويستفيد.
اسمعوا الآية: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف:58]، ومعنى هذا أن هدايتنا من الله لا من ذكائنا وفطتنا ولا من آبائنا وأجدادنا، ولكنها منة الله علينا، إن آمنت أنت فمثلك ملايين ما آمنوا، والهداية بيد الله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5-6].
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ [الأعراف:58] أي: من الأرض، كذات الملح والحجارة والسبخة، لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58] أي: عسيراً قليلاً، وذلك لأن هذا الإنسان قلبه واستعداده معدوم، تقرأ عليه الآيات فيضحك أحياناً أو يسخر، تذكره بها فما يذكر أبداً ولا يخطر بباله بعث ولا جزاء ولا حساب ولا جنة ولا نار؛ وذلك لفساده.
قال تعالى: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [الأعراف:58]، كهذا التصريف، فالأول المثل في بيان البعث والدار الآخرة، وهذا المثل في قبول الإيمان وعدمه، كالماء ينزل على الأرض الطيبة فتنبت على الفور، وينزل على الأرض السبخة فما تنبت إلا قليلاً لا ينتفع به، كذلك أجسام البشر وقلوبهم.
يقول تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]، فقولوا: اللهم اجعلنا من الشاكرين.
والعبد الصالح الطيب الطاهر إذا سلمت عليه فرح بسلامك، إذا أعطيته درهم شكرك، إذا قلت كلمة طيبة فرح بها؛ لأنها متهيئ للشكر، والذي انعدم فيه هذا الروح وأصبح لا يعرف الشكر للإحسان والفضل ما شكر الله على خلقه له ولا على ما وهبه إياه، فهل ينتفع بهذه الآيات؟ الجواب: لا، لا ينتفع بآيات القرآن إلا من كان طيب القلب طاهر النفس مهيأ لذلك، إذا سمع الآيات أنبتت فيه على الفور خوف الله وحب الله في نفسه، وإذا كان خبيثاً منتناً متعفناً كالأرض الخبيثة فما ينتفع.
كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]، من هو الشاكر؟ ذاك الذي هو متهيئ للشكر، لا يعرف الكفر ولا إنكار الفضل والإحسان، وأي كفر أعظم من أن ينكر الإنسان وجود ربه وخالقه وهو خلقه؟ ينكر فضله عليه وإحسانه في عينيه.. في يده.. في وجوده، هذا كالأرض السبخة وكأخبث الأرض.
اسمعوا الآيتين مرة ثانية وتأملوا: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57] ورحمة الله هنا هي المطر. حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ [الأعراف:57]، يد الله التي تسوقه لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، هكذا يحيي الموتى أم لا؟
وهذه الآيات كانت تتلى على قريش فكفر من كفر وآمن من آمن، ولذا قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [الأعراف:58] كهذا التصريف لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]، أما أصحاب القلوب القاسية والطباع القاسية الفاسدة فلا ينتفعون بالآيات.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين والمؤمنات:
[ معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان مظاهر القدرة الربانية والرحمة الإلهية الموجبة لعبادته تعالى وحده دون سواه، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا [الأعراف:57] (وهو) أي: ربكم الحق الذي لا إله إلا هو، و(بشراً) أي: مبشرات، و(نشراً) أي: تنشر الرياح تحمل السحب الثقال ليسقي الأرض الميتة فتحيا بالزروع والنباتات لتأكلوا وترعوا أنعامكم، وبمثل هذا التدبير في إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها يحييكم بعد موتكم فيخرجكم من قبوركم أحياء ليحاسبكم على كسبكم في هذه الدار، ويجزيكم به الخير بالخير والشر بمثله، جزاء عادلاً لا ظلم فيه، وهذا الفعل الدال على القدرة والرحمة ولطف التدبير يريكموه فترونه بأبصاركم لعلكم به تذكرون أن القادر على إحياء موات الأرض قادر على إحياء موات الأجسام فتؤمنوا بلقاء ربكم وتوقنوا به فتعملوا بمقتضى ما يسعدكم ولا يشقيكم. هذا ما تضمنته الآية الأولى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57] أي: المطر، حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ [الأعراف:57] أي: حملت، سَحَابًا ثِقَالًا [الأعراف:57] أي: ببخار الماء، سُقْنَاهُ [الأعراف:57] ] أي: [ بقدرتنا ولطف تدبيرنا، لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف:57] لا حياة به لا نبات ولا زرع ولا عشب، فَأَنزَلْنَا بِهِ [الأعراف:57] أي: بالسحاب الْمَاءَ [الأعراف:57] العذب الفرات، فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57] المختلفة الألوان والروائح والطعوم، كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى [الأعراف:57] كهذا الإخراج للنبات من الأرض الميتة نخرج الموتى من قبورهم، وعملنا هذا نسمعكم إياه ونريكموه بأبصاركم رجاء أن تذكروا فتذَّكَّروا أن القادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى رحمة منا بكم وإحساناً منا إليكم.
أما الآية الثانية فقد تضمنت مثلاً ضربه الله تعالى للعبد المؤمن والكافر إثر بيان قدرته على إحياء الناس بعد موتهم، فقال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ [الأعراف:58] أي: طيب التربة، يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف:58] وذلك بعد إنزال المطر به، وهذا مثل العبد المؤمن ذي القلب الحي الطيب إذا سمع ما ينزل من الآيات يزداد إيمانه وتكثر أعماله الصالحة ]، كالأرض الطيبة إذا نزل بها المطر، [ وَالَّذِي خَبُثَ [الأعراف:58] أي: والبلد الذي تربته خبيثة سبخة أو حمأة عندما ينزل به المطر لا يخرج نباته إلا نكداً عسراً قليلاً غير صالح ] ولا نافع، [ وهذا مثل الكافر عندما يسمع الآيات القرآنية لا يقبل عليها ولا ينتفع بها في خُلقه ولا ] في [ سلوكه، فلا يعمل خيراً ولا يترك شراً.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [الأعراف:58] أي: ببيان مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وضرب الأمثال وسوق الشواهد والعبر، لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58] إذ هم المنتفعون بها، أما الكافرون الجاحدون فأنى لهم الانتفاع بها وهم لا يعرفون الخير ولا ينكرون الشر؟ ].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء ].
أما ضرب تعالى لذلك المثل؟ فالآية الأولى تقرر هذه الحقيقة، فالذي ينزل الماء من السماء وينبت به النباتات هو الذي ينزل الماء يوم القيامة وينبت به الناس ويخرجون من قبورهم، هذه كتلك بلا نزاع.
ولماذا الحياة بعد الموت؟ ما فائدتها؟ ما علتها؟ إذاً: معشر المستمعين! لو سئلنا عن علة وجودنا، عن علة الحياة هذه: ما سبب وجودها؟
فالجواب: من أجل أن نعبد الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي ). إذاً: علة هذه الحياة معلومة، وأما علة الحياة الثانية فهي البعث والجزاء والحساب على عمل الدنيا، هذه وحدها كافية، والله! خير من خمسين ألف ريال، بلايين البشر ما عرفوا هذا. فعلة الحياة الدنيا العبادة التي يجزينا بها، والحياة الثانية ليجزينا على عملنا هذا إما في جنات النعيم أو في العذاب الأليم.
قال: [ تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء؛ إذ هي من أهم أركان الإيمان ]، أركان الإيمان الستة أهمها بعد الإيمان بالله ورسوله عقيدة الإيمان باليوم الآخر.
[ ثانياً: الاستدلال بالحاضر على الغائب، وهو من العلوم النافعة ].
العقلاء يستدلون بالحاضر على الغائب بالقياس، من أين أخذنا هذا؟ استدللنا على البعث والحياة الثانية بالحياة الأولى، فالماء يسوقه الله بواسطة السحب وينزل الماء وتنبت النباتات، إذاً: فالحياة الثانية كذلك، ينزل الله تعالى على الأرض الجديدة بعدما تستقر ماء من السماء وننبت الأجساد كما تنبت النباتات، والرسول هو الذي بين هذا: ( كما ينبت البقل ).
[ ثالثاً: حسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان ]، وما زال الناس حتى العوام يضربون الأمثال؛ لأن المثل يقرب المعنى البعيد لذهن السامع، المثل صورة لشيء غائب يصبح كأنه أمامه، أقول: الأمثال تضربها العامة لتقرب المعاني من أذهان السامعين، يقول: رأيت كذا وكذا ليفهم الناس، والشاهد عندنا: حسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني لأذهان الناس، والله ضرب مثلاً بالماء ينزل من السماء وتنبت الأرض، ضربه للإحياء والحياة بعد الموت.
[ رابعاً: فضيلة الشكر وهو صرف النعمة فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد ]، أما قال: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]؟
معاشر المستمعين والمستمعات! الشكر يكون لله عز وجل، فكيف تكون يا عبد الله شاكراً؟
أولاً: أن تعترف بالنعمة في قلبك لمن أنعم بها عليك، أول خطوة: أن تعترف في نفسك بالنعمة التي هي بين يديك لمن أنعم بها عليك، الاعتراف بالقلب بالنعمة لله عز وجل، سواء كانت نعمة السمع أو البصر أو الولد أو الحياة أو ما إلى ذلك، وما أكثر النعم التي نعيش فيها، فلتكون شاكراً لا بد أن تعترف بها أولاً لله، ثم تحمده عليها بقولك: الحمد لله، على سبيل المثال: بين يديك قصعة الطعام، قبلما تتناول الطعام يجب أن تعرف أن هذه النعمة من الله، فإذا عرفت هذا بقلبك لم يسعك إلا أن تقول: الحمد لله.
إذاً: الاعتراف بالقلب في النفس بالنعمة لمن أنعم بها عليك، ثم حمده بكلمة: الحمد لله، أو بكل كلمة دالة على الثناء عليه.
ثم صرف تلك النعمة فيما يحب أن تصرف فيه، ولنضرب لذلك مثلاً بالدرهم، فالدرهم من وهبكه؟ الله. أقررت بهذا؟ نعم. قل: الحمد لله، الحمد لله، ثم اصرف هذا الدرهم فيما يحب الله لا فيما يكره الله، فإن أنت ما اعترفت به لله كفرت، فإن أنت لم تحمده كفرت نعمته، فإن أنت صرفته فيما يغضبه أسخطته وحاربته وما أنت من الشاكرين.
فلكي نكون شاكرين لا بد أن نعترف في قلوبنا بنعم الله علينا، ثم نحمده عليها ونثني بها عليها، ثم ننفقها أو نصرفها كما يحب الله، أي: لا ننفق نعمة الله فيما حرم، فنعمة البصر يجب ألا تنظر حاسداً وألا تنظر إلى نساء المؤمنات معتدياً عليهن، هذه نعمة الله عليك، احمد الله على بصرك لكن لا تنظر به إلى ما حرم عليك، ونعمة اللسان نعمة من أعجب النعم، كيف تنطق هذه اللحمة؟ هذه النعمة العظيمة إياك أن يراك الله تقول بها كلمة تغضبه، فتصرف نعمته في غضبه، وكذلك يدك ورجلك، وهبك هذه النعمة فلا يراك الله تمد يدك ظالماً معتدياً، ولا يراك ماشياً إلى حرام أو إلى باطل برجليك.
فلا يكون العبد شاكراً لله إلا إذا اعترف أولاً بقلبه بنعم الله، ثم حمده عليها وأثنى بها عليه، ثم صرفها في محابه ومرضاته، وإلا فما هو من الشاكرين.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر