إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (37)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد استقرار الحال ببني إسرائيل بعيداً عن ديار الظالمين واعد الله تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور، وجعل الموعد الذي يلقاه فيه ثلاثين يوماً، وكانت شهر ذي القعدة وزادها عشراً من أول ذي الحجة فتم الميقات أربعين يوماً، وعند خروجه عليه السلام استخلف على قومه أخاه هارون وأوصاه بالإصلاح، فلما بلغ موسى الميقات وكلمه ربه تاقت نفسه عليه السلام لرؤية ربه فطلب ذلك، فأجابه ربه بعدم إمكانية رؤيته له سبحانه في الدنيا وأثبت له ذلك بنسف الجبل بعد تجلي رب العزة له، ثم آتاه الله سبحانه وتعالى الألواح التي فيها الدستور الذي يحكم به بني إسرائيل.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأعراف المكية والتي تعالج العقيدة الإسلامية، ومع هذا الآيات فلنصغ مستمعين إلى تلاوتها متأملين متدبرين ثم نأخذ في دراستها، والله نسأل أن يفتح علينا وينفعنا بما نقول ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:142-145]. ‏

    لقاء موسى ربه عز وجل ومجيئه بالمنهاج الحاكم في بني إسرائيل

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، هذا كلام الله يخبر به عن نفسه، وَوَاعَدْنَا [الأعراف:142] نحن رب العزة والجلال والكمال. وَوَاعَدْنَا مُوسَى [الأعراف:142]، أي: جعلنا له موعداً للقاء ربه، وقوله: ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142] فيه لطيفة: وهي أن الحساب ينبغي أن يكون بالليالي قبل الأيام، فالأيام بعد الليالي، وقال أحد علماء المالكية: ما كان للدنيا فبحساب الشمس، وما كان للآخرة فبحساب القمر، نتخذ حساب الشمس لمصلحة الدنيا، وأما ما كان للعبادة فنتخذ الليالي.

    ولطيفة أخرى، وكررنا هذا ولكن:

    لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي.

    لقد استقل بنو إسرائيل وتحرروا من المستعمرين الجبابرة فرعون وملئه واستقلوا خارج الديار المصرية، فاحتاجوا إلى دستور يحكمون به ويساسون، وقد كانوا مستعمرين مستعبدين، هنا قال موسى لقومه: اجلسوا هنا حتى آتي ربي وآتيكم بدستور أحكم به.

    الواجب على الدول الإسلامية بعد الاستقلال

    فالعرب والمسلمون من إندونيسيا إلى موريتانيا كانوا مستعمرين أم لا؟ إندونيسيا استعمرتها هولندا، وموريتانيا استعمرتها فرنسا، إذاً: وشاء الله أن يوجد هذا الدولة، ولولا الله والله ما وجدت ولا كانت، أوجدها الله عز وجل على يد عبد العزيز رحمة الله عليه، لتقوم لله الحجة على الناس، أما تذكرون أنه يرسل الرسول لإقامة الحجة؟ فلو ما جاءت هذه الدولة وما كانت لكانوا يحتجون يقولون: ما عرفنا الشريعة ولا كيف تطبقها، لكن أوجدها الله عز وجل، وسادها أمن وطهر لم تعرف الدنيا نظيرهما إلا في القرون الذهبية الثلاثة، طهر من الخبث والشرك والباطل والفساد، وأمن بحيث يبيت باب الرجل مفتوحاً ليله كاملاً، دكاكين ترسل عليها خرق بيضاء، ليس هذا تمدحاً أو تبجحاً، أقول على علم، سادها أمن وطهر بسبب تطبيق الشريعة المحمدية: إقامة الصلاة وجباية الزكاة، ووجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بالمال ولا بالسلاح، وهذه سنة الله عز وجل، من طبق شرعه في أي بلد ساده الأمن والطهر، وشاهد العالم الإسلامي عن طريق الحجاج وسمعوا بوسائط السماع أن أمناً وطهراً في هذه المملكة، وأن الحدود تقام، وأن الصلاة مجبر عليها المواطن، وأن الزكاة تجبى، وبلغهم هذا وسمعوه وشاهدوه.

    حدثني شيخ كبير السن أيام تعلم القرآن في الكتاب، قال: يقولون: إن ابن سعود قطع أصبع رجل خطف بأصبعه كيساً فيه نقود، فاعترف فقطع أصبعه الذي مس به الذهب أو الدراهم.

    الشاهد عندنا: أن كل العالم عرف أن دولة الإسلام وجدت وأن الشريعة تطبق والأمة مستعمرة، إذاً: كان الواجب الحتمي المفروض الإلهي الرباني أنه أيما إقليم يستقل من بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا أو بلجيكا أو هولندا يأتي رجاله أهل الحل والعقد إلى السلطان عبد العزيز ويقولون: لقد استقل هذا القطر، والعالم الإسلامي بلد واحد في حكم الله وقضائه، دولة واحدة، والتقسيم حرام، ويقولون: ابعث لنا قضاة ورجال علم يطبقون الشريعة عندنا، فيبعث ما شاء الله أن يبعث من قضاة ويبعث رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهل البلاد يقومون بهذا، وتصبح تلك البقعة تابعة للحكومة، تابعة لخلافة المسلمين، وتطبق فيها شريعة الله، ثم يستقل الإقليم الثاني بعد عام بعد عامين؛ لأنهم استقلوا متفرقين، كل إقليم يستقل فيأتي يقول ذلك، وتتم الاستقلالات والأمة الإسلامية أمة واحدة دولتهم واحدة، ولا تسأل عما يتم من الخير والفضل والهدى والكمال، لكن أن يستقل فيذهب إلى بريطانيا أو فرنسا يأتي بالدستور والقانون فذلك هو الضلال، فموسى ذهب يأتي بالدستور من عند من؟ من عند الله عز وجل؛ ليحكم به بنو إسرائيل؛ حتى يسودهم الأمن والطهر وتصفو أرواحهم وتزكو نفوسهم.

    سبب إتمام الثلاثين ليلة بعشر

    وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا [الأعراف:142]، سبب الإتمام أن الله جل جلاله أوحى إلى موسى أن يأتيه إلى جبل الطور للقاء الكريم معه، ويعطيه الدستور، وواعده ثلاثين يوماً، وكانت أول ذي القعدة، فمشى في الطريق على رجليه في الصحاري، وقبل أن يصل شعر بأن رائحة فمه تغيرت من الصيام، فما كان منه وهو سيقابل الرب تعالى بعد يوم أو يومين أو ثلاثة واستحى إلا أن أخذ قشرة من شجر واستاك بها ليزيل ذلك العفن أو تلك الريحة غير الطيبة، فزاده الله عشرة أيام؛ حتى تعود رائحة فمه كما كانت، لأن الرسول يقول لنا: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، فأضاف إلى الثلاثين ليلة عشرة أيام، فانتهى بأول العيد، وهي عشرة أيام من أول ذي الحجة، وهي الأيام المباركة.

    قال: فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ [الأعراف:142]، والميقات: الموعد والمواعدة، أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]، هي الشهر الأول، ثم لما استاك وأزال رائحة فمه أمر أن يكمل بعشرة أيام حتى تعود الرائحة كما كانت غير محمودة، لكن الله تلك الرائحة أحب إليه من ريح المسك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، فكان الإمام أحمد رحمه الله يقول لتلاميذه: إذا أذن الظهر وتوضأتم فلا تستاكوا بعد الظهر؛ لتبقى الرائحة إلى الليل.

    معنى قوله تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)

    وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي [الأعراف:142]، لما تم الميقات وأراد أن يمشي إلى الله قال لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف:142]، ما معنى أن يخلفه فيهم؟ بالحكم، بالترهيب، بالتأديب بالتربية، حتى لا يعبدوا غير الله أو يبتدعوا.

    اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ [الأعراف:142]، أنت خليفتي في قومي أصلح ما يفسده المفسدون، أصلح ولا تفسد، والأمة في حاجة دائماً إلى الإصلاح.

    وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، إذا ظهر فاسد أو مفسد في القوم فلا تتبع باطلهم، ومع الأسف تم هذا؛ إذ عبدوا العجل السامري لعنه الله، قال لنساء بني إسرائيل: اجمعن الحلي الذي كان عندكن وأخذتنه من نساء الأقباط، وهذا لا يحل لكم. فأذابه وصنع منه عجلاً من ذهب، وقال: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، لما ذهب موسى إلى ربه فعل هذا الطاغية هذه الفعلة القبيحة.

    وهنا: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، واعتذر هارون كما في سورة طه، فالقصة مفصلة هناك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089194143

    عدد مرات الحفظ

    782661293