خلق الله عباده حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وتخطفتهم الشبهات، واستولت عليهم الشهوات، فأعرضوا عن الطريق القويم، والصراط المستقيم، فأمر الله عباده بالرجوع إلى الحق، ونبذ الأهواء والشبهات، والعودة إلى الدين الحق، بقلوب منيبة، وجوارح مطيعة، وصفوف موحدة، وأمة متحدة.
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات من سورة الروم ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30]، من الآمر بهذا الأمر؟ الله جل جلاله، منزل هذا الكتاب، وباعث هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن أمته معه، كل مؤمن مأمور بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30]، والمراد من الدين: الإسلام، الذي هو إسلام القلب والوجه للرب، والجوارح تابعة للوجه، والوجه أشرف الأعضاء في الإنسان، وفيه السمع والبصر والنطق.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم:30] يا نبينا.. يا رسولنا لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30] مائلاً عن كل دين، مقبلاً فقط على الدين الحق الذي هو الإسلام، فلا بلشفة، ولا يهودية، ولا نصرانية، ولا بوذية، ولا.. ولا، فليس هناك إلا دين الله، فأقبل عليه بوجهك، ولا تلتف إلى غيره!
أيها المؤمنون! إنكم مأمورون بهذا الأمر؛ لأنكم أتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30] مائلاً عن كل شيء إلا لله عز وجل، معرضاً عن كل دين إلا الإسلام، فإنه الدين الحق.
وفي الحديث الصحيح: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه ). وقد دل هذا الحديث الشريف على أن الله فطرنا وصنعنا على الإسلام، ولنذكر الحديث وفيه أن الله مسح ظهر آدم، واستخرج منه ذريته، واستنطقهم فنطقوا وشهدوا.
والشاهد من هذا: أن الله استنطقهم واستشهدهم فشهدوا أنه ربهم، ولا رب لهم سواه، ولكن لما خرجوا إلى الدنيا استغلهم إبليس الشيطان -عليه لعائن الله- وصرفهم عن عبادة الله، وتوحيد الله، فعبدوه، وعبدوا ما زين لهم من العبادات الباطلة.
إذاً: معنى هذه الآية الكريمة: أنه يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يخلص عبادته لله تعالى. ومعنى هذا: أنه أقام وجهه لله، ولم يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولم ير إلا دين الله الحق الذي فطره عليه قبل أن يوجد.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ [الروم:30] المعروف دين الله الإسلام الذي هو دين آدم وكل الأنبياء والرسل من بعده؛ لأنه عبادة الله بما شرع، وإخلاص تلك العبادة لله عز وجل، بحيث لا يشارك فيها أحد.
حَنِيفًا [الروم:30]، أقم وجهك للدين حال كونك مائلاً عن كل الأديان الباطلة.
وقوله تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30] أي: هذا هو الدين الصحيح الذي ينجو صاحبه ويسعد؛ ينجو من عذاب الله من النار، وينجو ويسعد بدخوله الجنة مع الأبرار.
والشاهد عندنا: ( إنما العلم بالتعلم ) هذا دين الله، وهو أن نعبد الله بما شرع، ولا نشرك في عبادته أحداً، لا ملك في السماء، ولا نبي في الأرض، فضلاً عن الأشجار والأحجار والنباتات.
وهذه الحقيقة أكثر الناس لا يعلمونها ولا يعرفونها، وقد بينت لكم: أن الكفار برسول الله وبكتابه لا يعلمون هذا، والمؤمنون المعرضون الذين لا يجتمعون ليلة في العام ولا في الشهر على كتاب الله ويتدارسونه، ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يعلمون؟! والله لن يعلموا.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم:31] إي: راجعين إلى الله، تائبين إليه. أي: حال كونكم منيبين إليه، أقيموا وجوهكم للدين حنيفاً الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم:31] أي: إلى الله، راجعين إليه، فمن زلت قدمه أو سقط عاد، ومن أذنب عاد بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، فمن انصرف عن دين الله يجب أن يعود إليه وينيب، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً فينبغي أن ينيب إلى الله، ويرجع إليه.
معنى قوله تعالى: (واتقوه)
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوهُ [الروم:31]، أي: نتقي الله، هذا أمر الله عز وجل لنا بأن نتقيه. أي: نخافه، فلا نخرج عن طاعته، ولا نشرك بعبادته، ولا نتخلى عن عبادته، ولا ننغمس فيما حرمه ونهى عنه.
وَاتَّقُوهُ [الروم:31]، أي: خافوا الله وهابوه، فآمنوا به واعبدوه، والعبادة طاعة له ولرسوله كما بينها الله في كتابه، وعدم الخروج عنها، وعدم الإقبال على الدنيا وشهواتها، والمعاصي والذنوب وآثارها.
معنى قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)
ثم قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:31] أمره تعالى لنا بعدما كان أمر رسوله فنحن معه وأتباع له، وأصبح الخطاب لنا نحن: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:31]، وإقام الصلاة معاشر المستمعين والمستمعات: أداؤها على الوجه الذي بينه جبريل لرسول الله وصلى الله به وعلم أمته به!
أن تؤدى الصلاة كما هي: على أركانها، وفرائضها، وآدابها، وسننها، وأن تكون في أوقاتها، والقبلة هي الكعبة، تستقبل بها القبلة.. وهكذا!
إياكم أن تكونوا من المشركين بالله في عبادته وربوبيته وألوهيته. أي: الزموا التوحيد ولا تفارقوه.
ويروى عن عمر رضي الله عنه: أنه مر بـمعاذ بن جبل في الطريق أو في المسجد فقال له: ما قوام هذه الأمة يا معاذ ؟ عمر يسأل هذا السؤال؛ لأن معاذ أعلم منه، ولازم الرسول وتعلم، أو تواضع عمر : يا معاذ ! قل لي: ما قوام هذه الأمة؟ -أي: الأمة الإسلامية- فقال معاذ : ثلاث. أي: قوامها ثلاث مسائل .. ثلاث خصال، وهي: المنجيات، هذه الخصال الثلاث هي المنجيات لهذه الأمة من سخط الله وعذابه .. من الذل والهوان، والنقص في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة، وهذه المنجيات هي:
الخصلة الثانية: الصلاة. وهي الملة، الصلاة هي الدين، ولذا تارك الصلاة كافر، ترك الدين كله، فالصلاة هي الدين.
ما هو الدين؟
الدين: أن نذكر الله ونشكره، ونقف بين يديه ونسأله ونتضرع إليه خمس مرات في اليوم والليلة، كل مرة ربع ساعة أو نصف ساعة، أي دين بعد ذلك؟ من لا مال له لا زكاة عليه، ومن له مال ولم يبلغ النصاب لا زكاة عليه، إذا لم يأت رمضان فليس بواجب الصيام، وفي غير وقت الحج لا حج.
قال: وهي الملة والطاعة، وهي العصمة. الطاعة لله ورسوله هي العصمة التي يعصم الله بها عباده من النار.
هذا عمر رضي الله عنه يسأل معاذ بن جبل فيقول: يا معاذ ما قوام هذه الأمة؟ أي: ما الذي تقوم عليه وتظهر أمة إسلامية؟ أي: المنجيات .. ما هي المنجيات؟ قال: ثلاث: الإخلاص وهو الفطرة التي فطر الناس عليها. والصلاة وهي الملة. والطاعة وهي العصمة.
ويختلف أصحاب الشرك: هذا يعبد حجرا.. هذا يعبد الشمس.. هذا يعبد القمر.. هذا يعبد الشيطان.. هذا يعبد الإنسان.. ثم اليهود والنصارى والمجوس والبوذا تفرقوا وفرقوا دينهم الذي هو الإسلام، وأصبحوا مللاً وطوائف. ومن هنا -أيضاً-: نلفت النظر إلى أن أصحاب هذه الملة يجب ألا تكون لهم طرائق، ولا مذاهب، ولا اختلافات، وينبغي أن يكون أمرهم واحدا.
وقد ذكر هذا أهل العلم: هذا قادري، وهذا عيسوي، وهذا رحماني، وهذا كذا.. وهذا مالكي، وهذا شافعي، وهذا كذا.. هذا كله من باب الاختلاف في الدين والتفرقة فيه، وجعله شيعاً وطوائف.
أرأيتم لو كنا أمة واحدة كما أراد الله ليس بيننا حزب، ولا طريقة، ولا جمعية، ولا.. وإنما أمة واحدة؟!
عندما تسأل: من أنت؟ عبد الله. ما دينك؟ الإسلام. ما مذهبك؟ مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم.
والآية فيها إشارة إلى أن هذه الأمة سيحصل لها هذا، وقد حصل كما حصل لليهود والنصارى وتفرقوا: اليهود ثلاثاً وسبعين ملة -أي: فرقة- والنصارى اثنتين وسبعين فرقة. وقد حصل هذا وافترقت أمة الإسلام، ومن يوم أن تفرقت وهي في الهم، والغم، والنزول، والهبوط.
ثم قال تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32]. هؤلاء فرحون بمذهبهم.. وهؤلاء فرحون بحزبهم.. وهؤلاء فرحون بطريقتهم.. وهؤلاء فرحون بكذا.. هذا لا يرضاه الله عز وجل؛ أمرنا واحد، وملتنا واحدة، وشأننا واحد: نعبد الله وحده، ونخلص له العبادة، ونعبده بما شرعه في كتابه، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نختلف، ولا نتفرق، ولا نتحزب، ولا نتمذهب أبداً.
كثيراً ما يسألني سائل فيقول لي: أنا حنفي، فأقول: لا. قل: أنا مسلم وأنا أفتيك، فأنا لا أفتيك بالمذهب الحنفي فقط.
أو يقول: سامحني! أنا مالكي: ما حكم كذا وكذا..؟ أقول: لا تقل هذا الكلام. قل: أنا مسلم. كيف مالكي؟! هل درست عند مالك وحضرت مجلسه؟ لا. وآخر يقول: أنا حنبلي. من حنبلي؟ أنت حضرت لـأحمد ودرست عنده؟ لا. قل: أنا مسلم وأنا أفتيك بما يزكي نفسك، ويرضي عنك ربك، مما هو ما خالفه الأئمة، ولا خرجوا عنه، بل أمروا به، ودعوا إليه، ونصبوا أنفسهم لتعليم الناس ذلك.
والآن أمة الإسلام مفرقة: هذا مالكي، وهذا شافعي، وهذا حنبلي، وهذا زيدي، وهذا رافضي، وهذا أباضي، وهذا.. والله لا يجوز هذا، فنحن أهل السنة والجماعة أمرنا واحد: مسلمون، ولسنا مذاهب.
قراءة في كتاب أيسر التفاسير
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات] اسمعوا ما هدت إليه هذه الآيات؛ إذ لكل آية هداية تهدي بها إلى طريق الله عز وجل [من هداية هذه الآيات:
أولاً: وجوب الإقبال على الله تعالى بعبادته والإخلاص له فيها ].
وجوب الإقبال على الله تعالى، ويتم ذلك بالإخلاص له في عبادته، لا تتقلب قلوبنا إلا في طلب رضاه، لا نلتفت يميناً، ولا شمالاً، ولا إلى وراء، ولا إلى الأمام، ما لنا إلا الله عز وجل مقبلين عليه، نطيعه فيما يأمرنا به، وفيما ينهانا عنه، نفعل المأمور ونترك المنهي، ولا نلتفت إلى غير الله. هذا معنى الإنابة إلى الله والرجوع إليه.
[ ثانياً: الإسلام هو دين الله الذي خلق الإنسان متأهلاً له، ولا يقبل منه ديناً غيره ].
ما هي تقوى الله؟ قلت: إنه الخوف الذي يحملني على ألا أعصيه، ولا أخرج عن طاعته، فلا أترك واجباً أوجبه، ولا أرتكب محرماً حرمه. هذه هي التقوى، نجعل بيننا وبين سخط الله وعذابه هذه التقوى التي هي طاعته وطاعة رسوله فيما أمرا وفيما نهيا عنه.
بهذا نتقي الله عز وجل .. بوجوب إقام الصلاة، والصلاة كما قال معاذ : هي الملة، الصلاة هي الدين الإسلامي، بدليل أنك تخاطب ربك، وتتحدث معه، وتذكره، وتجلس بين يديه خمس مرات.
أي عبادة أعظم من الصلاة؟ الصيام يأتي في العام مرة، والحج في الدهر مرة والزكاة أكثر، لكن الذي لا مال لهم لا يزكون.
ما هو الإسلام إذاً؟ ما هي الملة؟ الصلاة، فلهذا من تركها وأعرض عنها كفر بالله عز وجل، ولم يلتفت إليه، ولم ينب إليه، ولن يعبده، وهو كذلك.
[ خامساً: البراءة من الشرك والمشركين ]. البراءة من الشرك والمشركين واجبة. تقول: إني بريء منك يا فلان؛ لأنك مشرك. أنا بريء من هذا العمل؛ لأنه شرك.
البراءة وإعلاناها أيضاً؛ حتى لا نتحد مع المشركين؛ لأننا وجهنا قلوبنا ووجوهنا إلى الله فكيف نكون معهم؟ إذاً: لا نمد إليهم يداً، ولا ننظر إليهم نظرة، بل البراءة الكاملة من الشرك والمشركين.
[ سادساً: حرمة الافتراق في الدين الإسلامي، ووجوب الاتحاد فيه عقيدة وعبادة وقضاء ].
إي والله، وجوب الاتحاد في الدين الإسلامي وحرمة الفرقة، فلا مذهبية، ولا طائفية، ولا طرقية، ولا.. ولا.
علمني كيف أعبد ربي؟ ما الذي حرم الله علي من القول والعمل؟ ما الذي أمرني به وألزمني به من القول والعمل؟
تعلم من كتاب الله وهدي رسوله وما جاء به أصحابه وبينوه، وأئمة الإسلام وكتبوه، فأنت تعبد الله بحق، وأنت مؤمن، أما الفرقة والخلافات والنعرات فهذا كله تندد به هذه الآية.
والله تعالى نسأل أن يجمع كلمة المؤمنين، ويوحد صفوفهم، ويوحد قلوبهم على طاعة الله وعبادته وحده.