إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (12)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يبين الله عز وجل ما في الإعداد لموقعة بدر من الحكم الإلهية، حيث هيأ الله الظروف لها دون سابق رغبة أو تصميم من أي من الطرفين فيها، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فكان القتال بين جند الإيمان وجند الكفر والطغيان، وتدور الدائرة على الكافرين وينصر الله عز وجل عباده المؤمنين، وفي نفس السياق يبين الله لعباده المؤمنين كيفية تقسيم الغنائم بعد أن دب الاختلاف بين المؤمنين أول الأمر.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه اليوم والأيام الثلاثة بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله تعالى منها، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [الأنفال:41-44].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات تحكي جملة من أحداث وقعة بدر الكبرى، وبدر -كما تعرفون- الآن قرية من قرى المملكة، وسميت ببدر لأن بها بئراً حفره رجل يقال فيه: بدر، وقد كانت هذه الغزوة في السنة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وذلك لما نصر الله المؤمنين في بدر واستولوا على غنائم الكافرين والمشركين اختلفوا وتنازعوا في قسمتها، فأمرهم الله تعالى أن يردوا قسمة هذه الغنائم إلى الله والرسول، والله يقضي في ذلك بما هو الحق والخير، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، ثم أنزل الله هذه الآيات الأربع فقال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، فتولى الله تعالى بنفسه قسمة هذه الغنيمة، بل وكل غنيمة يغنمها المسلمون إلى يوم الدين، فإذا قاتل المسلمون الكافرين وانتصروا عليهم وجمعوا أموالهم، فتلك الأموال سواء كانت من الناطقة أو من غيرها من ذهب وفضة أو إبل أو بقر أو ما إلى ذلك، قد تولى الله قسمتها بنفسه سبحانه وتعالى.

    فقال عز وجل: وَاعْلَمُوا [الأنفال:41]، أي: يا معشر المؤمنين! أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:41]، قلَّ أو كثر، حتى المخيط والخيط الذي يدخل فيه، فالكل توضع بين يدي رسول الله أو خليفته بعد وفاته، وهو يقسمها كما قسمها الله عز وجل، وذلك بأن يقسمها الملك أو الوالي أو الجنرال أو القائد الذي يقود المسلمين خمسة أقسام، فأربعة أقسام للمجاهدين الذين حضروا المعركة وقاتلوا فيها، فصاحب الفرس يأخذ حصتين، والذي يقاتل على رجليه يأخذ حصة واحدة؛ لأن صاحب الفرس له تأثير في المعركة، ولأنه ينفق على فرسه ما لا ينفقه الماشي على نفسه، وأما الذي حضر المعركة ولم يقاتل لمرض أو لأمر ما فإنه يعطى كذلك.

    وأما الخمس الذي هو لله تعالى فقد قال: لِلَّهِ [الأنفال:41]، وهذا قد يصرف في بيوت الله، وذلك في مكة أو في البيت الحرام، والحقيقة أنهم ينفقونه في المصالح العامة للمسلمين، وأيضاً يعطى من هذا الخمس الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأخذ الصدقة، فهو عليه السلام يعيش من هذا القدر من المال، أي: من هذا الجزء من الخمس، وكذلك يعطى من هذا الخمس ذو القربى، قال تعالى: وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41]، والمراد بهم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو عبد المطلب وبنو هاشم، وقد اختلف بعض أهل العلم: هل بنو هاشم يعطون من هذا الخمس أم لا؟ فالإمام مالك رحمه الله تعالى وغيره حصر ذلك في بني عبد المطلب فقط، والذي عليه الجمهور أن بني هاشم كبني عبد المطلب، فالكل يعطى من هذا القدر، أي: من خمس الخمس، والباقي لليتامى والمساكين وابن السبيل، وهذه قسمة الله تعالى.

    وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:41]، كثر أو قلَّ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، وقد يقول قائل: وما للمجاهدين؟ والجواب: المجاهدون لهم أربعة أخماس، فيقسمه القائد أو الإمام على المجاهدين الذين حضروا المعركة وقاتلوا، ولعل هناك خفاءً، لكن أقول: يقول الله تعالى مبيناً لأصحاب رسول الله كيف يقسمون الغنيمة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، والمعطوف على لفظ الله مثله، أي: أن أربعة أخماس للمجاهدين، والخمس الواحد قد بين الله تعالى مصارفه فقال: لِلَّهِ [الأنفال:41]، وهذا يصرف في المصالح العامة للمسلمين، ثم: وَلِلرَّسُولِ [الأنفال:41]، وذلك ليعيش من تلك الغنيمة، ثم وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41]؛ لأن أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذون الزكاة، إذ إنهم منزهون عن الصدقة، وبالتالي فيعطون من الغنيمة، ثم الفقراء والمساكين وابن السبيل، وابن السبيل هو المسافر المحتاج.

    فهذا هو معنى قول الله تعالى، وَاعْلَمُوا [الأنفال:41]، أي: أيها المسلمون! أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، وهؤلاء لهم الخمس، وأما الباقي وهو أربعة أخماس فهو للمجاهدين، والمجاهدون صنفان: أهل خيول فرسان، وهؤلاء لهم حصتان، فإذا أخذ الماشي ريالاً أخذ المجاهد على الفرس ريالين؛ لأنه ينفق على فرسه ملا ينفقه الماشي على نفسه، ولأن تأثيره في المعركة أيضاً أعظم من الماشي.

    إذاً: قد تولى الله بنفسه قسمة الغنيمة التي يغنمها المسلمون في المعركة، وذلك بعد ما اختلف الأصحاب فيها كما في أول السورة، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ [الأنفال:1]، لهم يا رسولنا! الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، ثم تولى الله بنفسه قسمتها، فجعل أربعة أخماس للمجاهدين، وخمس وزعه الله بنفسه فقال: لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41]، وذوي القربى هم بنو عبد المطلب وبنو هاشم، وذلك لأنهم منزهون عن الصدقات، إذ لا يعطون من الزكاة أبداً، ففي الحديث أن الحسن جاء يحبو وهو صغير، فأخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه، فانتزعها الرسول منه وقال له: ( كخ، كخ، إن آل محمد لا يأكلون الصدقة )، إذ إن الصدقة هي أوساخ الناس، وذلك أنك عندما تتصدق فأنت تزيل ذنوبك وآثامك على نفسك وهو يأكلها، إذاً فهي أوساخ الناس، فآل البيت الأشراف لا يأخذونها، إذ قد أعطاهم الله تعالى من الغنيمة ما يسد حاجتهم طول حياتهم، لكن متى هذا؟ يوم أن يقودنا إمام المسلمين لنقاتل دولة كافرة لندخلها في دين الإسلام، فإذا انتصرنا وغنمنا فإن الغنائم توزع كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    وأعود أيضاً فأقول: لم يعد الآن هناك دولة كافرة نغزوها أبداً؛ لأنهم فتحوا الباب للإسلام في بلادهم، فالمؤذنون يؤذنون، والدعاة يدعون من أمريكا إلى اليابان، وبالتالي فلم إذاً نحاربهم؟ إننا قبل أن نغزوهم أو نرسي سفننا على شواطئهم نقول لهم: هل لكم أن تدخلوا في الإسلام لتنجوا وتسعدوا وتكملوا وتفوزوا وتطيبوا وتطهروا؟ فإن قالوا: مرحباً، أرسلنا فيهم من يعلمهم الإسلام وعدنا إلى بيوتنا، وإن قالوا: لا نريد ذلك، قلنا لهم: هل تسمحون لنا أن ندخل بلادكم لنعلم الناس الإسلام، ونبين لهم الطريق الحق إلى النجاة والسعادة، وتدخلون في ذمتنا ونحميكم من كل عدو؟ ويعطون مقابل ذلك رمزاً من المال يدل على قبول هذه الولاية، لكن إن رفضوا فنحن عند ذلك مأمورون بأن نقاتلهم حتى نهزم جيشهم، وأن تفتح بلادهم لننشر دعوة الله ورسالته بين البشر في تلك البلاد، فهذا هو الجهاد في سبيل الله تعالى.

    ثم قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الأنفال:41]، أي: اعملوا على هذا وخذوا بهذا لبيان الإلهي وقسموا الغنيمة كما بينت لكم، إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الأنفال:41]، رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، أما إذا قلتم: ما آمنا، فلا يجري عليكم هذا الحكم ولا يطبق فيكم، وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41]، وسمي بيوم الفرقان لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل، فقد ارتفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول، وانكسرت راية الباطل والشرك والكفر، وأنزل الله تعالى فيه الملائكة التي كانت تساند المؤمنين وتنفخ في أرواحهم ونفوسهم الشجاعة والبطولة، بل وقد قاتلت معهم، ومن الآيات التي وقعت في ذلك اليوم العظيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة التراب ورمى بها المشركين وقال: ( شاهت الوجوه )، فأصابت أكثر المشركين في أعينهم.

    ثم قال تعالى: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41]، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال:41]، فمن جاء بالمشركين؟ ومن جاء بالمؤمنين؟ وكيف حصل هذا الاجتماع؟ إنه هذا تدبير الله عز وجل، إذ ما كان يخطر ببال المؤمنين في المدينة أنهم سيقاتلون المشركين في بدر، ولا كان المشركون يتوقعون أنهم سيقاتلون المسلمين في بدر، لكنه الله جل جلاله وعظم سلطانه الذي جمع الفريقين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088523709

    عدد مرات الحفظ

    777120549