لما أسر العباس بن عبد المطلب في بدر طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يفادي نفسه وأبناء أخيه المأسورين معه، فلزمه لذلك مال كثير، وهذا كان حال سائر الأسرى بيد المسلمين، فكان بعضهم يظهر الإسلام هروباً من المال الذي سيدفعه للفداء، فأخبر الله المؤمنين أن يخبروا من عندهم من الأسرى أن الله عز وجل سيعوضهم بعد إيمانهم عما أخذ منهم من الفداء إذا علم صدق إيمانهم، وأما من يؤمن في الظاهر مخادعة للمؤمنين فإنه لن يضرهم وسيمكن الله عز وجل منهم في مرة ثانية كما أمكن منهم في المرة الأولى.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة الأنفال
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قبل الشروع في دراسة هاتين الآيتين أذكركم ونفسي بهداية الآيات الثلاث التي تدارسناها بالأمس، قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد ألا يفادوا الأسرى، وألا يمنوا عليهم بإطلاقهم إلا بعد أن يثخنوا في أرض العدو قتلاً وتشريداً، فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذٍ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم ]، وأخذنا هذه الهداية من قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67].
قال: [ أولاً: إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية ]، أي: الذين يخوضون معارك الجهاد في سبيل الله، وذلك ألا يفادوا الأسرى ولا يمنوا عليهم حتى يثخنوا في أرض العدو ويشردوه ويصبحوا يرهبهم ويخافهم، وحينئذٍ هم أحرار، إن شاءوا فادوا وإن شاءوا منوا بلا فداء.
قال: [ ثالثاً: إباحة الغنائم ]، إذ كانت محرمة على الأمم السالفة، فقد كان النبي إذا غزا وغنم فإنه يجمع الغنائم وتأتي نار من السماء فتحرقها ولا يستفيدون منها شيئاً، وإكراماً لهذه الأمة فقد أباح الله لها الغنائم، إذ قال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69].
يقول تعالى منادياً نبيه صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة، وهي أشرف ما يكون: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:70]، ألا وهو خاتم الأنبياء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن نبأه غير الله تعالى؟ وهاهو تعالى يناديه بعنوان النبوة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:70].
وقد سبق لنا مما فتح الله تعالى به علينا -أذكر الناسين وأعلم غير العالمين- أن الله عز وجل لا ينادينا إلا لواحدة من خمس: إما ليأمرنا بما فيه سعادتنا بعد نجاتنا في الدنيا والآخرة، أو ينادينا لينهانا عن ما يشقينا أو يردينا أو يخسرنا في دنيانا وأخرانا، أو ينادينا ليبشرنا فنزداد رغبة في العمل الصالح والطلب له والمنافسة فيه، أو ينادينا ليحذرنا عواقب السوء وعواقب المعصية وعواقب الإثم والذنوب والآثام، أو ينادينا ليعلمنا، وهاهو ذا تعالى نادى نبيه ليأمره بهذه المهمة التي يقوم بها.
والآن نادى رسوله صلى الله عليه وسلم ليقول له: قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى [الأنفال:70]، وهذه الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب عم سيد الناس صلى الله عليه وسلم، إذ أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفادي نفسه وابني أخيه عقيلاً ونفيل بن نوفل، وكان الفداء أربعين أوقية من الذهب، فلزم العباس مائة وعشرين أوقية، فنزلت هذه الآية في العباس، فماذا يقول؟ يقول: لم نر خيراً أكثر من هذه الآية التي نزلت فيَّ.
ثم قال تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70]، أي: الكفر والشرك الذي سبق، وقتل المؤمنين ومحاربتهم ومحاربة رسوله، فهذه الذنوب كلها يمحوها ويزيل أثرها من نفوسكم، وهذا شأنه تعالى، إذ إنه غفور رحيم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]، يا لهذا الخير العظيم! ما فوق هذا خير أبداً.
وهذا خطاب الله موجه للأسرى الذين فاداهم أهلوهم، وأخذ الأصحاب فداهم، فوجه تعالى إليهم هذا الخطاب، فقل لهم يا رسولنا! إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]، معناه: ادخلوا في الإسلام، آمنوا وأسلموا، اعزموا وصمموا على الدخول في الإسلام، ولا تسلموا فقط في الظاهر؛ لأن العباس قال: أنا كنت مسلماً يا رسول الله! وإنما قومك أكرهوني على ألا أعلن عن إسلامي، فلم يقبل ذلك منه رسول الله، ولذلك أسلم العباس في هذه الواقعة على الصحيح.
والآن هيا نستنبط الهدايات من هاتين الآيتين، قال الشارح: [ من هداية الآيتين: أولاً: فضل العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنزول الآية في حقه وشأنه ]، إذ الآية نزلت من أجله، فأي فضيلة أكبر من هذه؟
قال: [ خامساً: الله جل جلاله لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب، ألا فليتق وليتوكل عليه ]، الله جل جلاله لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب، ألا فلنتق الله ولنتوكل عليه، وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:71].
لطيفة: كان ممن أسر يوم بدر أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثت زوجته زينب رضي الله عنها الفداء مع الذين جاءوا بالأموال من مكة ليفادوا الأسرى، وكان هذا الفداء عبارة عن قلادة فيها ذهب، فما إن شاهدها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رق رقاً عظيماً؛ لأن هذه القلادة كانت لـخديجة أم المؤمنين أعطتها لابنتها ليلة الزفاف في مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي العاص: ( فداك أن ترسل إلينا
)، أي: فداك فقط أن ترسل إلينا زينب، ورد القلادة والمال إليها، ثم أمر حماها أن يأتي بها من مكة، فخرج بها فاعترضتها قريش فردتها بالقوة ولم يسمحوا لها أن تخرج، لكن أبا سفيان رضي الله عنه طمأنهم إذا سكنت الأمور وهدأت الظروف فلا بأس أن تخرج إلى المدينة، وبعد ثلاثة أيام خرج بها في الظلام حتى وصل بها إلى المدينة، وذلك إلى أبيها ووالدها صلى الله عليه وسلم.
فهكذا عانى المؤمنون، ونحن اليوم نعيش في هذا النعيم وشكرنا قليل لا يذكر، وحمدنا نادر، فماذا لقيتم يا عباد الله في إسلامكم؟ لا قتل ولا تشريد ولا تعذيب ولا إهانة ولا حرب، ومع هذا قلَّ منا من يشكر الله في صدق ويحمده بقلبه ولسانه، والحمد لله رب العالمين.