إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (7)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما أنزل رسول الله يهود بني قريظة على حكم سعد بن معاذ جزاء خيانتهم، بعث إليهم بأبي لبابة رضي الله عنه ليخبرهم بأن ينزلوا على هذا الحكم، فلما أتاهم أبو لبابة أخبرهم برسالة رسول الله، إلا أنه أشار إلى عنقه كناية عن ذبحهم إن هم نزلوا على هذا الحكم، وسرعان ما انتبه أبو لبابة رضي الله عنه إلى فداحة ما فعله فانطلق إلى مسجد رسول الله تائباً منيباً، وربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد حتى يحكم الله فيه، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات، وصحت توبة أبي لبابة رضي الله عنه.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم واليومين بعده ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، فهيا نصغي ونستمع تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في تفسيرها وبيان مراد الله تعالى منها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:27-29].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:27]. وقد علمنا أن هذا النداء فيه شرف لهذه الأمة، فالله جل جلاله وعظم سلطانه ملك الملوك ورب كل شيء ينادينا، ونحن لسنا شيئاً حتى ننادى، والله ينادينا بنفسه، ولم يكلف أحداً ينادينا؛ وذلك لشرف الإيمان. فالإيمان الصحيح هو سبب هذا الفضل والخير. وأما غير المؤمنين فلا يكلمهم الله ولا يناديهم؛ لأنهم أموات غير أحياء، وأما المؤمن فهو حي، فإذا ناداه ربه قال: لبيك اللهم لبيك! وإذا أمر قال: سمعاً وطاعة، وإذا نهى كذلك. فلا ننسى هذه الفضيلة أبداً.

    وكما علمنا فهو ينادينا إما ليأمرنا بفعل ما يسعدنا ويكملنا في الدارين، أو لينهانا عما يشقينا ويخسرنا في الدنيا والآخرة، أو ليبشرنا حتى نزداد في الصالحات، وبعداً عن المفسدات، أو ينادينا ليحذرنا من عواقب السوء، أو ينادينا ليعلمنا ما ينفعنا في حياتنا. ولا ينادينا لغير ما ينفعنا؛ وذلكم لأنه ولينا، ونحن أولياؤه، والله ولي الذين آمنوا.

    سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ...)

    نادانا الله هنا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:27] لينهانا عن أمر عظيم، وهو خيانته وخيانة رسوله وخيانة الأمانات، فويل للخائنين! وويل للخونة! فقد قال: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

    ولا بأس أن نذكر ما قيل إنه سبب في نزول هذه الآية، وهو: لما جاءت غزوة الأحزاب وتحزب فيها المشركون في الشرق والغرب، وزحفوا لإنهاء رسول الله وأهله من المدينة المنورة، وطوقوا المدينة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن ينزلوا بسفح أحد، وهو جبل عالٍ -وراءنا الآن-، وأن يجعلونه حصناً لهم من ورائهم، ويواجهون العدو من أمامهم.

    وكان بنو قريظة في الجنوب، وكانوا معاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يحاربوه، ولا يحاربون مع من يحاربه.

    وأما بنو قينقاع فقد أجلاهم الرسول من المدينة في السنة الأولى لخيانتهم، وفي السنة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كاد بنو النضير لرسول الله وهموا بقتله، فأجلاهم من المدينة، وبقي بنو قريظة على ميثاقهم وعهدهم، ثم لما جاء الأحزاب ذهب إليهم عفريت من عفاريت اليهود، وحرضهم على أن ينضموا ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب، وبالفعل أعلنوا توليهم للأحزاب المقاتلين، وبعث الرسول إليهم، وجاء الرسول يخبر بالواقع، وأن وجوههم متغيرة.

    ثم لما هزم الله الأحزاب بريح عاصفة، وتشردوا من الشرق والغرب ما عاد الرسول بعد خمسة وعشرين يوماً من هذا الخندق إلى بيته حتى نزل جبريل يخبره: أن الملائكة ما وضعت السلاح، فلا تضع السلاح يا رسول الله! بل اخرج إلى بني قريظة، فأمر الرسول بالمشي إلى بني قريظة على الفور، وقال: ( لا تصلوا العصر إلا عند بني قريظة ). فنزلوا حولهم وطوقوهم، وما كان منهم إلا أن رضوا بقضاء وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم.

    فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة يعلمهم بأن الرسول حكم فيهم سعداً، وواجههم بأن يقبلوا حكم سعد، ولكنه أشار بيده إلى عنقه، بمعنى: أنه الذبح. فكانت هذه خيانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولله تعالى. فقد أشار بمعنى إذا تنازلتم ورضيتم بحكم سعد فسوف يكون الذبح، وما إن أشار بيده أبو لبابة حتى وقع في نفسه أنه خان، وما كادت الأرض تحمله، فجاء وربط نفسه في سارية المسجد -وهي التي تسمى الآن سارية أبي لبابة -، وحلف ألا يأكل ولا يشرب حتى يتوب الله عليه أو يموت، ومكث مربوطاً بحبل في السارية سبع ليال، حتى نزلت توبته، فأرادوا أن يحلوا رباطه فقال: لا، حتى يحله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فكان هذا وجه خيانة، وكان إشارة فقط رحمة بأولئك اليهود، فقد أشار فقط بيده ولم ينطق، فكيف بالذين يوجهون الكافرين ويساعدونهم، ويعينونهم على الإسلام والمسلمين بالقول والعمل؟ فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

    والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالذي يتظاهر لنا بأنه تقي ويطيع الله ويخون ويعصي الله في السر فهو والله لمن الخائنين، وكذلك الذي يظهر أمام الناس أنه مطيع لله يصلي ويزكي ويعمل الجرائم في الخفاء، فهذا قد خان الله وخان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا جميع المنافقين يدخلون تحت هذه الآية؛ لأنهم يتظاهرون بالإسلام، وهم يبطنون الكفر، فهم خونة وخائنون.

    فعلينا ألا نخون الله والرسول في أوامرهما ونواهيهما، بل ما استطعنا فعله فعلناه، وما عجزنا عنه أعذرنا إلى ربنا، وأما أن نتظاهر بالدين والإسلام ونخفي الجرائم ونواقعها في الظلام فهذه والله لهي الخيانة لله وللرسول، والله حرمها بقوله: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال:27].

    التحذير من خيانة الأمانة

    قال تعالى: وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال:27]. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ). وقال تعالى عن الأمانة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. فإذا وضع مسلم شيئاً تحت يدك أو وضعه في صدرك لتخفيه فلا يحل أبداً أن تخونه بأي وجه من أوجه الخيانة، فإذا استودعك مالاً أو استودعك كلمة أو وضع أهله عندك أو استأمنك على كذا فإياك أن تخونه! فالله يقول: وَتَخُونُوا [الأنفال:27]، أي: ولا تخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].

    وآية المنافق وعلامته ثلاث علامات، الأولى: إذا وعد أخلف، والثانية: إذا خاصم فجر، والثالثة: إذا ائتمن خان.

    والشاهد عندنا: حرمة الخيانة مطلقاً، فمن عهد إليك بشيء وائتمنك عليه ووضعه تحت يديك فإياك أن تخونه! بل ارض أن تموت ولا تخونه؛ لأن خيانته كخيانة الله ورسوله، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27] عواقب الخيانة وآثارها، وما تفسد وتجعل في المجتمع من شر وفساد، فمن ائتُمن فليثبت على أمانته وليحفظها، وليصنها حتى يقدمها لمن ائتمنه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088539492

    عدد مرات الحفظ

    777208987