إسلام ويب

تفسير سورة الإسراء (15)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان بعض المسلمين يجادل بعض المشركين فأغلظ المسلم القول لخصمه، فأمر الله عباده المؤمنين أن يجتنبوا غليظ القول عند الجدال، وأن يقولوا أحسن القول ليكون ذلك وسيلة في دعاء خصومهم إلى الدين المبين والصراط المستقيم، فهو سبحانه أعلم بأحوال عباده وهو بيده الرحمة وبيده العذاب، وهو سبحانه الذي فاضل بين عباده، كيف لا وهو سبحانه قد فاضل بين أنبيائه ورسله، الذين هم خيرته من عباده وصفوته من خلقه.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فها نحن مع سورة الإسراء المكية وهذه الآيات تقرر البعث الآخر، والحياة الثانية، والمشتملة على كثير من أخبار الرب تبارك وتعالى، وكلها صدق، فهيا بنا نسمع بعض آياتها ونتأملها، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، إنه أهل لذلك.

    وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:53-55].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] من الآمر؟

    الله جل جلاله، هو القائل: وَقُلْ [الإسراء:53] من المأمور؟

    رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن معه أتباع له.

    يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ لِعِبَادِي [الإسراء:53] أي: المؤمنون، إذا قالوا مجادلين معلمين أن يقولوا بالتي هي أحسن.

    ورد أن عمر رضي الله عنه سبه أعرابي جاهلي في مكة أيام إسلامه، فغضب عمر وشتمه وهم بقتله، فنزلت هذه الآية: وَقُلْ لِعِبَادِي [الإسراء:53] أي: المؤمنين من أمثالكم، وعمر على رأسنا.

    يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] إذا أرادوا أن يعلموا، أن يرشدوا، أن يوجهوا ينبغي أن يقولوا الكلمة التي هي أحسن، أما السب والشتم والتعيير وغلظ الصوت والتهديد؛ فهذا ليس من شأن المربين المعلمين، لا بد وأن تكون كلمتك مشفوعة بكلمة: عفا الله عنك، أو غفر الله لك، أو رحمني الله وإياك لو فعلت كذا، لو قلت كذا، أما: يا هذا، يا أحمق، يا جاهل. هذا لا يجوز أبداً.

    والخطاب وإن وجه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن أمته تابعة له، وحاشاه أن يقول السوء أو ينطق بالهجر أبداً، ولكن ما دام نبينا مأمور بأن يقول التي هي أحسن فكيف بنا نحن؟ من باب أولى، ومعنى هذا: إذا نصحت شخصاً مستمراً على التدخين لا تقل له: يا أحمق أو يا فاسق أو يا فاجر أو يا ضال أو يا كذا، قل له: من فضلك! لو تترك هذا التدخين، أنا أراك عبداً صالحاً لو تعفي لحيتك أو على الأقل بعضاً منها لتظهر رجولتك، وتصبح ذلك المؤمن؛ فإن حلق اللحية مكروه، نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحرمه. بهذه الأساليب.

    شخص يصلي ولكنه يسارع، لما يفرغ: يا أخي! أنا أحبك في الله، لا تصل هذه الصلاة، فإنك لا تثاب عليها، اطمئن إذا ركعت قل: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاث مرات أو خمس مرات، وارفع رأسك وقل: سمع الله لمن حمده، إذا سجدت ما تضع رأسك وترفعه مباشرة، ما يريد الله منك هذا، ضعه على الأرض، ومكن جبهتك وأنفك على التراب، وقل: سبحان ربي الأعلى وبحمده وادع بما شئت، أي حاجة عندك اسأل الله عز وجل، ولو تسأله الثوم والبصل؛ لأن الرسول أخبرنا قال: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب ) يعني قولوا: سبحان ربي العظيم وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك.

    ( وأما السجود فادعوا فيه بما شئتم؛ فقمن أن يستجاب لكم ) أي: حري أن يستجاب لكم، وكان أصحاب الرسول يقولون: كنا نسأل الله الثوم والبصل. فلو قالت له أم البيت: جيب بصل ما عندنا، ماذا يقول؟ يدعو الله أن يرزقه بصلاً في سجوده ولا حرج. وهكذا شخص قال كلمة الشرك: والنبي، قل له: يا بني! إن كان صغيراً، يا أخي! إن كان مثلك، يا أبي! إن كان أكبر منك سناً: أهل العلم لا يجيزون الحلف بغير الله، فلا تحلف بغير الله، لا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره؛ فإن الحلف بغير الله حرام لا يجوز. يا بني، يا أُخَيَّ، يا أبت! انتبه، حفظك الله وبارك في حياتك، وهكذا.

    أما الكلمة الغليظة والشدة والعنف في الجدال والحوار والتعليم بطل بهذه الآية.

    وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] أي: الكلمة التي هي أحسن، ما هي التي أسوأ، ولا سيئة، ولا حسنة فقط، أحسن، يختارون أطيب كلمة يقولونها. وشاهدنا من قديم الرجال عندنا يقول لك: غفر الله لك، رحمك الله، فتح الله عليك ويعلمك، الآن الأحداث ما يقولون هذا، ما عرفوا، مات الشيوخ الذين كانوا يقولون.

    وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] لماذا يا رب؟ علل. قال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] إذا أغلظت القول يدفع ذاك في قلبه فيغضب ويقول حتى الكفر -والعياذ بالله- الشيطان يتربص، بمجرد أن يجد فرصة يبعث تياره وناره في القلوب، فلا تجعلوا له سبيلاً أبداً إلى أن يفسدكم، فهو يود أنك تسب أو تشتم أو تغلظ القول على السائل فيفرح بذلك، فأنت خيب ظنه، تكلم بالتي هي أحسن وبالكلمة الطيبة، وأنت هادئ وأنت مستبشر، هو حينئذ ييأس، لكن إذا فتحت الباب له دخل.

    إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] وعلل تعالى فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53] ما هو من اليوم، من أخرج أبانا آدم وامرأته حواء من الجنة، أليس إبليس؟ بلى ورب الكعبة، هو الذي زين لهم الأكل من الشجرة، وقد حرمها الله عليهم ومنعهم إياها لما يترتب عليها من الشر والفساد، وزين لهم أكلها، وحسنه بأساليب، وواعدهم بأن العمر يطول إذا أكلتم هذه الشجرة، فغرر بهم وأضلهما؛ فهو عدو لبني آدم، وكل الفتن والحروب والمحن والشدائد من أصابع إبليس وصوته، لماذا؟ ما يريد للإنسان أن يسعد أبداً، يكرب ويحزن إذا رأى المؤمن ساجداً يكاد يتمزق، يقول: آه! أمرت بالسجود فلم أسجد فشقيت، وأمر بالسجود فسجد فسعد. لأنه طرد من أجل أن قال له الله: اسجد لآدم، قال: كيف أسجد لآدم وأنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين؟! تكبر وإلا لا؟

    وقالت العلماء: هذا القياس باطل، لماذا؟ لأن النار ليست بأفضل من الطين أبداً بإجماع البشرية. الطين ينبت أنواع الزروع والحبوب والثمار، والنار تأكل وتحرق كل شيء، فهذا قياس باطل، لما قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين غير صحيح، الطين أفضل، لكن حمله الكبر على ألا يسجد فطرده الله عز وجل.

    وذكرت غير ما مرة: أننا نصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم، كل من طاف بالبيت سبعة أشواط من السنة أن يأتي مقام إبراهيم ويصلي خلفه ركعتين، ليست للحجر الذي نصلي وراءه، بل لله تعالى، فمثل هذا مثل آدم لما أمرت الملائكة أن تسجد له، من الآمر بالسجود؟ من المطاع؟ الله، آدم ما أمر ولا أطيع، وإنما تحية له وتكريماً وتعظيماً سجدوا وراءه، فكذلك مقام إبراهيم حجر، ونحن ما نسجد للمقام ونصلي، ولكن نصلي لله عند هذا المقام، والمقام فاز بشرف؛ لأنه كان السبب في رفع بناء الكعبة وعلوه؛ فعرف الله تلك الفضيلة فجعل الصلاة دونه.

    والشاهد عندنا: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ [الإسراء:53] وما زال. لِلإِنسَانِ [الإسراء:53] وهو نحن بنو آدم. عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53] بين العداوة ظاهرها، وهل عدوك يريد لك أن تسعد؟ يريد لك أن تستريح وتطيب وتطهر؟ والله ما يريد إلا أن تخبث وتتحطم وتفسد وتشقى. إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088535944

    عدد مرات الحفظ

    777189886