إسلام ويب

تفسير سورة الإسراء (21)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما ضيق كفار قريش على المؤمنين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وبقي هو صلى الله عليه وسلم لحين الإذن له بالهجرة، فلما جاءه الإذن بالهجرة خرج مع صاحبه أبي بكر الصديق سائلاً الله أن يجعل مخرجه من مكة مخرج صدق، ويجعل مدخله المدينة مدخل صدق، وينصره على أعدائه من المشركين، فما هي إلا أعوام قلائل حتى دخل مكة فاتحاً محطماً الأصنام المنصوبة حول الكعبة، بعد أن كان قد حطمها في قلوب الناس قبل ذلك.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فها نحن مع سورة الإسراء المكية المشتملة على كثير من أخبار الرب تبارك وتعالى وأحكامه، وكلها صدق وحق، فهيا بنا نسمع بعض آياتها ونتأملها، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، إنه أهل لذلك.

    أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء:78-84].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    قول ربنا جل ذكره: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، هذه الآية تدل على فرضية الصلوات الخمس وهي: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.

    فقوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: لميلانها إلى الغرب؛ إذ تقف في وسط السماء ثم تأخذ في الميلان، فإذا دلكت معناها: دخل وقت الظهر، وإذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر، وإذا غابت الشمس دخل وقت المغرب، وإذا غاب الشفق الأحمر دخل وقت العشاء، وإذا طلع الفجر دخل وقت الصبح، هذه الآية الكريمة دلت على أوقات الصلوات الخمس، وقد بينا هذا بالأمس.

    وقوله تعالى: كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] بينت لكم أن ملائكة الليل الذين يلازموننا حتى الفجر يأتي بدلاً عنهم ملائكة النهار ويظلون معنا، وملائكة الليل ينصرفون، فقوله: (مشهوداً)، من يشهد هذا الوقت؟ الملائكة الذين يتولون الكتاب عنا حتى غروب الشمس، ومعنى هذا: أن مع كل أحد منا أربعة ملائكة، اثنان يلازمانه بالليل واثنان بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ولهذا علمنا أن أفضل الصلوات الخمس الصبح والعصر، والرسول الكريم يقول صلى الله عليه وسلم: ( من صلى البردين دخل الجنة ) ويعني بالبردين: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ إذ الأولى في برد الليل، والثانية في برد النهار.

    وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79] الصلوات الخمس مكتوبة مفروضة على كل مؤمن، وعلى رأس المؤمنين إمامهم وسيدهم ونبيهم، والنوافل ليست مفروضة على أي واحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعلم الله تعالى بقدرته على ذلك، ولما يكتسبه من تلك النافلة، ألا وهي قيام الليل وَمِنَ اللَّيْلِ [الإسراء:79] جزء فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79] لا لأمتك، فمن هنا من قام الليل حصل على أجر عظيم، ومن لم يقمه واكتفى بصلاة العشاء والشفع والوتر بعدها أجزأه ذلك ولا يطالب بشيء، ولكن التهجد ذو فضل عظيم، لما بلغنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان ثلث الليل ينزل الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا وينادي: هل من داع فأستجيب له؟ ) فهذا وقت الدعاء الذي يستجاب.

    وقد قلت لكم: في الإمكان أن تقوم ساعة قبل الفجر لوجود هذه الآلات التي تفطن الإنسان وتوقظه، على شرط أننا لسنا من الذين يجلسون أمام شاشة التلفاز في البيت الساعة والساعتين للباطل، فهؤلاء ليسوا أهلاً لقيام الليل، هؤلاء الذين إذا صلوا العشاء ناموا، فهم قادرون على أن يستيقظوا آخر الليل.

    وقوله تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] عسى تفيد الوجوب، يعني: هذا القيام لليل والتهجد يكسبك يا رسولنا أسمى المقامات وأشرفها وأعلاها، وهو الشفاعة العظمى في يوم القيامة، عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ [الإسراء:79] يا رسول الله مَقَامًا [الإسراء:79] موقفاً يحمده عليك أهل الموقف في أرض المحشر من أهل الجنة والنار.

    وهذه الحقيقة: إذا وقف الناس في ساحة فصل القضاء، بعد أن يبعثهم الله من قبورهم أحياء، يقفون على صعيد واحد، وتدنو الشمس منهم حتى يعرقوا عرقاً لا نظير له، فمنهم من يلجمه العرق إلجاماً؛ بحسب صلاحهم وتقواهم في الدنيا أو فجورهم وفسادهم فيها، ويأتون آدم عليه السلام: يا أبا البشر! سل الله عز وجل أن يحكم بيننا ويفصل فينا؛ ليستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، طال بنا الموقف؛ لأن ذلك اليوم مقداره بأيامنا هذه خمسون ألف سنة، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة المعارج: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] وهم قيام.

    فمن هنا يجتمع الناس ويأتون آدم: يا آدم، يا أبا البشر! خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، اسأل الله تعالى أن يقضي بيننا، فيعتذر آدم ويقول: ما أستطيع، أمرني بأن لا آكل من الشجرة وأكلتها، فكيف أواجه ربي وأطلبه؟ عليكم بنوح، فيأتون نوحاً فيعتذر إليهم، ويقول: أنا دعوت على قومي ألا يخرج من أصلابهم ولداً، نظراً إلى قول الله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28] فما أستطيع أن أواجه ربي، عليكم بإبراهيم عليه السلام.

    فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقولون له: يا خليل الرحمن! انظر ماذا حصل لنا، ادع الله أن يحكم بيننا وينهي هذا الموقف، فيقول إبراهيم: أنى لي ذلك وقد كذبت ثلاث كذبات، فلا أستطيع أن أقابل ربي وأطلبه -وكذبات إبراهيم من أصدق صدقنا نحن؛ لأنه كذبهما لله- عليكم بموسى كليم الله.

    فيأتون موسى فيقولون: يا كليم الله! يا موسى! سل الله أن يحكم بيننا، فيقول: كيف أواجهه وأنا قتلت نفساً -وقتلها قتلة خطأ ليس عمد أبداً، وكان ظالم من الظلمة ضربه في صدره فمات- ولكن عليكم بروح الله عيسى عليه السلام.

    فيأتون عيسى فيقولون: يا روح الله! سل الله تعالى أن يحكم بيننا ويفصل بيننا، فلم يذكر عيسى ذنباً قط؛ لأنه والله ما أذنب ذنباً قط، من أخبرنا بهذا الخبر؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس حكايات ولا أخبار، أتدرون لم عيسى ما أذنب ذنباً قط؟ بسبب دعوة جدته، جدته حنا ؛ فقد سألت ربها أن يرزقها ولداً، وأن يعيذه وذريته من كل سوء وشر، واقرءوا لذلك قول الله تعالى من سورة آل عمران: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36].

    وهل جدته كجداتنا الغافلات التائهات، هذه حنا حملت بمريم البتول العذراء وقالت لربها: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران:35] خالصاً.

    إذاً: فعيسى أفادته دعوة جدته حنا فلم يذنب ذنباً قط، وعيسى عليه السلام سينزل عما قريب، وقد أوشك نزوله على المنارة بمسجد دمشق، ويحج ويعتمر؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كأني بابن مريم بالروحاء يلبي لبيك اللهم لبيك.. لبيك حجاً وعمرة ).

    ولطيفة أخرى: لكن لا على سبيل الحقيقة بل من باب الإخبار والأمر لله: أن عيسى سيدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هذا قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، هذا قبر أبي بكر ، هذا قبر عمر ، وما زالت مساحة لقبر، قال أهل العلم سلفاً: لعلها تكون لعيسى بن مريم ، أما نزوله وحياته لا يشك فيها ذو عقل ودين، ومن أنكر ذلك يكفر؛ لأنه كذب الرسول صلى الله عليه وسلم.

    إذاً فيقول عيسى: عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونه فيقول: أنا لها.. أنا لها.. أنا لها، أخذاً من هذا الوعد الإلهي: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] يحمده عليه أهل الموقف أجمعون.

    قال: ( فآتي فأخر ساجداً تحت العرش، فيلهمني ربي تعالى أذكاراً وأدعية ما كنت أعرفها، فلا أزال أمدحه وأثني عليه بها حتى يقول لي: يا محمد! ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع ).

    لكن لما سجد دعا وعظم الله ومجده وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال له: ارفع رأسك واسأل تعط واشفع تشفع.

    هذا معنى قوله تعالى في الآية: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] ألا وهو موقف عرصات القيامة ليشفع للخليقة ليقضي الله بينها ويحكم بينها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088570233

    عدد مرات الحفظ

    777385089