إسلام ويب

تفسير سورة الإسراء (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الليل والنهار آيتان عظيمتان تدلان على علم الله وقدرته وتدبيره، فقد خلقهما الله عوناً لخلقه وتيسيراً لعباده ليقضوا أعمارهم على هذه الأرض، فالليل مظلم حالك، تسكن فيه النفوس وتركن إلى الدعة والراحة والسكينة في البيت، أما النهار فهو للعمل والكد، ومعافسة الناس والتعامل معهم، والسعي في طلب الرزق، وفي تعاقب الليل والنهار منفعة جليلة للناس ألا وهي معرفة الحساب وحصر السنين والأعوام.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فما زلنا مع سورة الإسراء، فهيا بنا نصغي لنستمع تلاوة هذه الآيات المباركة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس.

    إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء:9-12].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الأخبار الإلهية الصادقة، أولها إخباره تعالى بأن القرآن العظيم يهدي للتي هي أقوم، ووالله العظيم إنه ليهدي للتي هي أقوم، أي: من الطرق والسبل والمراد منها الإسلام، يهدي إلى الإسلام وهو الطريق المسعد، وفي كل ركعة من ركعات الصلاة نسأل الله الهداية إليه اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فالقرآن بما يحمل من الآيات، من الشرائع، من الأحكام، من الأدلة، من القصص، من الأمثلة، من البراهين.. من وصفه أنه يهدي من آمن بالله ولقائه، وأخذ يعمل بما في هذا الكتاب، والله يهديه إلى أسلم طريق وأقومها ألا وهو الإسلام، والواقع شاهد.

    هداية القرآن وبشارته للمؤمنين

    إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] هذا خبر، والثاني: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الإسراء:9] يبشرهم بخبر إذا سمعوه وهم مؤمنون موقنون يتجلى ذلك في وجوههم، وتظهر البشاشة والفرحة على وجوههم؛ إذ التبشير بالخبر المبشر الذي يثلج الصدر، ويريح النفس، يتجلى أثره في الوجه، يبشرهم بماذا؟ بأن لهم أجراً كبيراً، ألا وهو الجنة دار السلام؛ إذ الجنة جزاء العمل الصالح، كل عمل له أجرة يتقاضاها العامل، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات متى يتلقون جزاء عملهم؟ في الدار الثانية، أما هذه لا. دار عمل فقط.

    ولا ننس أن العمل الصالح ذو بركة، فالمؤمنون المقيمون للصلاة العاملون الصالحات يظفرون بيمن أعمالهم الصالحة؛ فتطيب نفوسهم وتطمئن قلوبهم، ويسعدون في هذه الدنيا ببركة العمل الصالح، أما الجزاء ففي الدار الآخرة. أصحاب العمل الفاسد الشرك والمعاصي والفسق والفجور، جزاؤهم ليس في الدنيا، فقد يكفر العبد ويبالغ في الكفر، ويبقى سعيداً في طعامه وشرابه إلى أن يموت، ولكن ما ننسى أن للسيئات شؤماً قد ينال فاعليها، كما أن للصالحات بركة ويمناً فإن للسيئات شؤماً والعياذ بالله تعالى؛ فينالهم سوء أعمالهم في الدنيا، أما الجزاء ففي الدار الآخرة، وهذه الحقيقة التي تقررت عندنا، وهي: أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، واحلف بالله ولا تحنث، هذه الدار دار العمل، سواء كان العمل صالحاً أو فاسداً، والدار الآخرة دار الجزاء سواء كان بالنعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.

    فقط لفت النظر إلى أن الإيمان والعمل الصالح صاحبهما يناله من يمن وبركة ذلك الإيمان والصالح، فيسعدون في الدنيا، لا حزن ولا كرب ولا هم ولا غم، وأما الفاسقين الكافرين وإن كان جزاء فسقهم الدار الآخرة، لكن قد ينالون من شؤم ونحس سوء الأعمال وفاسدها.

    هذه الحقيقة تقررت مرات عندنا، فالله جل جلاله يقول في القرآن الكريم: وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الإسراء:9] بماذا يبشرهم؟ بـ: أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9] كم من مليون، كم من مليار؟ ما هو هذا المقصود، ألا وهو الجنة ورضا الرب تبارك وتعالى قبلها، هذا هو الأجر العظيم الكبير، لا دينار ولا درهم.

    والخبر الثالث يقول فيه: وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [الإسراء:10] أي: بالدار الآخرة وما يتم فيها من جزاء وحساب، الذين لا يؤمنون بالبعث الآخر، بالدار الآخرة، بيوم القيامة، بالساعة.. هؤلاء يبشرهم بماذا؟ بأن لهم عذاباً أليماً موجعاً، ألا وهو عذاب النار وما يتم فيها من أنواع العذاب على اختلافها وتنوعها.

    وقد بين تعالى أنواع العذاب في النار مفصلة في كتابه عز وجل، ويكفي فيه: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] إذاً: هذا الخبر الثالث.

    وصف الله تعالى للإنسان

    ثم قال تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11].

    الخالق للإنسان هو الذي عرف وضعه وطبعه وحاله، والله هو واضع الطبع والصفة، يقول تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ [الإسراء:11] الإنسان هنا المريض لا الصحيح، الإنسان الذي ما آمن بالله ولقائه ولا استقام على منهج عبادته، هذا الإنسان الكافر المشرك الضال الفاسق، هذا الإنسان من وصفه أنه يدعو بالشر كما يدعو بالخير، أما المؤمن فوالله ما يدعو بالشر أبداً، وهذا الإنسان لضلاله وجهله وعدم نور قلبه وبصيرته يدعو بالشر كما يدعو بالخير؛ لأنه غير مستقيم.. منحرف ما عرف الطريق.

    وهنا يصفه أيضاً بأنه عجول وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11] كثير العجلة، وسبب هذه العجلة هو الطبع الذي طبع عليه والفطرة؛ لأنه ما عامل نفسه بمعاملة الهداية والتربية حتى تصبح لا تعجز أبداً، والرسول الكريم يقول: ( تأنوا ففي التأني السلامة، ولا تعجلوا ففي العجلة الندامة ).

    فالمؤمن الذي عرفتم إذا دخل المستشفى واستعمل الأرقام الثمانية يتغير وصفه وطبعه، ويصبح لا يستعجل ولا يندم، ولكن دائماً مع التأني والهدوء والطمأنينة والسكون، فلهذا ما يغضب غضباً يقول فيه الباطل والسوء، وهذه الأرقام الثمانية تذكرونها؟ وهل استعملتم بعضها أو كلها؟

    مرة ثانية: وإن شئتم حلفت لكم بالله أن الإنسان هذا طبعه: الظلم، الكفر، الجهل، العجلة، الهلع.. إلا إذا عالج هذه الأسقام والأوجاع في مستشفى رباني وشفي منها.

    علاج القرآن لأسقام الإنسان

    فلا يمكنك أن تجد من لم يستعمل هذه الأرقام الثمانية بصدق وحق وتحت إشراف ربانيين، وتراه حليماً فاضلاً واسعاً كريماً تقياً براً، هذه الأرقام الثمانية نعيد تلاوة الآيات التي تحملها تذكيراً للناسين، وتعليماً لغير العالمين، قال تعالى من سورة المعارج: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19] خلق هكذا على الهلع، طبعه غريزته فطرته، ما معنى الهلع؟ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:20-34].

    وسبق أن لفت النظر إلى أن استعمال هذه الوصفة إن كانت تحت علماء ربانيين يكون أفضل من أن تستعملها وحدك، فلهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مهمته أنه يزكي ويعلم الكتاب والحكمة، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129].

    فالذي لا يجلس في حجور الصالحين، ولا يجالس العلماء الربانيين، ويتعلم منهم كيف يستعمل هذه الأرقام، قد لا ينجح.

    إذاً: فالحال تستدعي ألا نفارق حلق العلم ومجالسة الربانيين الصالحين، حتى نتمكن من استعمال هذه الأرقام تمكناً حقيقياً ينتج لنا زكاة أرواحنا، وطهارة نفوسنا.

    ولفت النظر إلى أن الصلاة ذكرت مرتين، المرة الأولى المداومة على الصلاة؛ لأن من انقطع عنها هلك، ومن تركها كفر، فلا بد من المداومة من سن العاشرة أو الثامنة إلى أن يموت، والوصف الأخير المحافظة عليها بأن تؤدى على الوجه الذي طلبه الله من عباده، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة، وصلى به جبريل، وبين له أوقاتها وكيفيتها، هذا المحافظ عليها هو الذي يغطي بأنواره ما سبق.

    فتلك الأرقام الثمانية لا قيمة لها إذا ضيعت الصلاة وأهملت، فالأول الصلاة وفي الأخير الصلاة، الأول إدامة وعدم انقطاع، والثاني المحافظة والإتيان به على الوجه المطلوب، وأنتم تعرفون هذا من أنفسكم، الذين يستعملون هذه الأرقام الثمانية كما هي هم أصلح الناس وأبرهم وأتقاهم، وأقلهم كلفة، وأقلهم ظلماً، وأقلهم شراً، وأقلهم جزعاً وغضباً.. إلى غير ذلك.

    هذا ما دل عليه قوله تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11].

    طبع العجلة في آدم وبنيه

    قبيل نهاية الدرس السابق ذكرت لكم قصة آدم في العجلة، وقد وضحت الرواية عن ابن عباس وغيره: لما خلق الله آدم عليه السلام خلقه من الطين، من الفخار، وبقي جسماً كذلك بدون روح فترة من الزمن، وكان إبليس يمر به ويقول: إن لهذا شأناً، فلما نفخ الرحمن فيه من روحه، سرت النفخة بين الرأس وهبطت تمشي مع الجسم، لما وصلت إلى السرة حاول أن يقوم، فكان ذلك آية عجلته، ما صبر حتى تنتظم روح جسمه كاملة، فقال تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11] فهذه العجلة نقاومها بالصبر والأناة والحلم، ولا نستعجل أبداً في فعل الشر والباطل، ولكن نستعجل في فعل البر والخير، العجلة فيها الندامة يقيناً، والتأني فيه السلامة دائماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088568889

    عدد مرات الحفظ

    777378908