أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة النازعات، وآياتها المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وبيان معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
وقراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:34-46] هذه هي خاتمة سورة النازعات.
قول ربنا جل ذكره: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات:34] ما هذه الطامة التي تجيء؟ ومتى تجيء؟
المراد من الطامة: الساعة، النفخة الثانية بعد الأولى، وسميت طامة؛ لأنها تطم وتعلو وتغلب كل الأحداث العظام.. الجسام.. المخيفة.. المفزعة.. ومنها النفخة الأولى التي يتحلل فيها كل شيء، فهذه النفخة هي الطامة.
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات:34] أي: النفخة الثانية، والفاء (فإذا) مترتب الكلام بعدها على ما قبلها.
نعود إلى السياق نجد المكذبين بالبعث الآخر والمصرين على ألا حياة أخرى، وألا حساب ولا جزاء، وما هي إلا هذه الحياة الدنيا، وقد بيّن تعالى أدلته على إنهاء هذه الحياة وإيجاد حياة أخرى خالدة باقية أبدية لا تقبل الفناء:
أول مظهر من هذه المظاهر: الموت، كما قال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2] فقد عرفنا أن الذي لا يملك أن يخلد في الأرض ليس من حقه أن يقول: أنا لا أبعث، وأن الذي يقول: أنا لا أبعث ينبغي أن يقول: أنا لا أموت، فإن كان لا يموت فإنه لا يبعث، ولكن: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27] ونحن نشاهد الفناء يومياً.
ثانياً: بعدما ذكر تعالى التنطعات وتلك الشطحات الفارغة الباطلة، وأنهم قالوا: إذا جاءت القيامة وأصبحنا على الساهرة قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [النازعات:12] والله يقول: ما هي إلا زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة، ما هناك تركيبات وسنن كسنن الكون اليوم، الحمل والولادة والتنشئة والتربية لا. ما هي إلا نفخة إسرافيل النفخة الثانية فإذا هم على صعيد واحد واقفون، على أرض لا تعرف النوم.
ثالثاً: قص تعالى قصة موسى مع فرعون، والعبرة منها أن يثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه خصومه المناوئين المحاربين لدعوته، فإذا ذكر ما لاقاه موسى من فرعون وملئه، يهون عليه ما يلقاه من أبي جهل وأبي لهب وفلان.. وفلان، والمؤمنون أنفسهم أيضاً يجدون الراحة فيما يسمعون من قصص السابقين، قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120] أي: الذي نثبت به فؤادك حتى لا تتضعضع أو تنهزم فتتخلى عن دعوة الله.
فرعون على عظمته أين هو؟ من أكبه في النار على وجهه؟ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46] الذي أغرقه وجيشه العرمرم في داخل البحر هو الذي يكبه في النار على وجهه.
ثم ذكر تعالى أدلة قطعية وبراهين ساطعة كالشمس على أن هذه الحياة لا تدوم، وأن لها وقت محدد، وانظروا إلى عظمة الله تعالى التي تتجلى في خلق هذا الكون: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات:27-33] صاحب هذه القدرة، وهذا العلم، وهذه الحكمة، ينكر عليه إذا خلقنا مرة أخرى ليجزينا على كسبنا وعملنا اليوم؟! كيف ينكر؟ لو كان معه عجز نعم، لو كانت قدرة خارقة ولا علم ما يتم، لو تخلت عنه الحكمة لا يكون، لكنه ذو العلم الذي أحاط بكل شيء، ذو القدرة التي تغلغلت في كل جزئيات الكون، ذو الحكمة الذي لا يصدر عنه قول ولا عمل إلا بها.
إذاً: لا عجب أبداً أن يفني هذا الكون ويوجد كوناً آخر ويعيدنا نحن فيه ليحاسبنا ويجزينا، فبناء هذا الكون وتعميره -بما شاء أن يعمره- موقوتاً فقط، وسوف يأتي يوم تنتهي فيه هذه الحياة.
ومن سورة التكوير أيضاً يذكر الانقلاب الكوني، ثم يقول: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14]، إذا وقف في ساحة المحكمة سوف يذكر ما فعله وما تركه، فيندم على ما ترك من الخير، ويفرح بما عمل من الخير، والعكس كذلك؛ كل إنسان سوف لا يغيب عن ذهنه عمل عمله أو تركه، الموقف يتطلب هذا.
أما أولئك الذين ما كلفوا فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يجرى لهم امتحان فيمتحنون فيه، فمن كان مستعداً للإيمان وصالح الأعمال فعلاً، والتخلي عن الشرك والكفر فعلاً، فسوف ينجح في الامتحان، ومن كان مستعداً لرد دعوة الرسل والكفر بها ومحاربتها ينكشف أمره ويؤخذ إلى جهنم.
هذه المسألة جديدة بالنسبة للسامعين، ولا بد من معرفتها، وهي أن أربعة أصناف من أهل البعث في يوم النشور يجرى لهم امتحان، فإن نجحوا دخلوا الجنة وفازوا، وإلا خابوا وخسروا، من هم؟
الصنف الأول: من ولد لا يسمع ولا يبصر، أو بعد عام من عمره أو عامين قبل التمييز فقد سمعه وبصره، فهذا كيف يكلف؟ قل له: صلِّ لا يسمع، بين له بالصورة لا يرى، إذاً كيف يصلي وهو لا يسمع ولا يبصر؟ هذا صنف.
الصنف الثاني: أولاد الكافرين أو أطفال المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ.
الصنف الثالث: المعاتيه والمجانين الذين لا عقول لهم.
الصنف الرابع والأخير: أهل الفترة بين الرسل.
هؤلاء الأربعة يمتحنون بأن يقول لهم الرب تبارك وتعالى بنفسه أو بواسطة ملائكته، إن الله يأمركم أن تدخلوا النار، والنار بارزة ظاهرة لهم، فمن كان فيه استعداد أن يطيع الله ورسوله يقول: سمعاً وطاعة، رضينا بحكم الله ويمشي، فيخالف به إلى دار السلام، إلى الجنة، ومن لم يكن عنده استعداد أن يطيع الرسول لو بعث لما يسمع هذا الأمر يقول: كيف ندخل النار؟ لن ندخلها.. لا نستطيع، يرفض، فيخالف به إلى جهنم.
هذه القضية من أهم القضايا التي ينبغي على المؤمن أن يذكرها ويعرفها.
أما قول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] فالمراد به: عذاب الدنيا.. عذاب الإبادة.. الاستئصال، هذا العذاب ما كان من الله عز وجل أن يأتي إلى أمة ما بعث فيها رسولاً ولا دعيت إليه ولا عرفته، فيصيبها وباء أو خسف أو صواعق، حاش لله أن يفعل، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإذا بعث الرسول ولم يتابع وعصي وردت دعوته استوجب أهل تلك الدعوة العذاب في الدنيا والآخرة.
أما هؤلاء الأصناف الأربعة، فهم في الدنيا معذورون، كالطفل اليهودي أو الطفلة اليهودية اللذين لم يبلغا سن الرشد والتكليف، والمعتوه المجنون الذي لا عقل له، كيف يكلف وهو لا يعرف شيئاً؟ أو الذي لا يسمع ولا يبصر، كيف يعلم؟ غير معقول، أو الذي جاء في وقت انقطعت فيه رسالة عيسى وما بقي من يعرف شيئاً عن الحقيقة، وقبل أن تأتي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الفترة أهلها معذورون، ومع هذا يمتحنون، فمن كان مستعداً لطاعة الله والرسول الذي أرسل إليه فإنه يقبل أمر الله ويستجيب، وبذلك تزكو نفسه وتطيب ويدخل الجنة، ومن كان لو سمع وأبصر.. لو بلغ.. لو عقل، لو جاءه الرسول تمرد ورفض يتجلى ذلك فيه، ويرفض أمر الله ويعصيه فيلزم إلزاماً بدخول النار.
إذاً: نعود إلى السياق الكريم: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات:34-35] يا عباد الله! ما دمنا سنذكر سعينا فهيا نصلح أو نحسن سعينا، ما دمنا سنذكر سعينا فمن الخير أن نحسنه، بمجرد ما نقف نذكر السعي، ثم يأتي الحساب والميزان والجزاء، فمن سعى منا في الخير حتى مات سوف يذكر سعيه وينثلج صدره، وتطيب نفسه وتقر عينه ولا يخاف ولا يحزن، ومن كان سعيه باطلاً، سعياً فاسداً سيئاً سيذكر فيصاب بالكرب والهم والحزن قبل أن يعذب ويدخل دار الشقاء.
إذاً: جهنم أمام البشرية، أمام أهل الموقف، برزها الله وأظهرها ليشاهدوها، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:36].
وفي سورة الشعراء يقول تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91] أي: لاحت أعلامها وظهرت آثارها لأهل الغواية، أهل الشر والفساد، فكل أهل الموقف يرونها.
وَآثَرَ [النازعات:38] أي: فضل على الآخرة، وهذا يعود بنا إلى أن نقول: أيها الفحول! إن لكم زوجتين فاعدلوا بين زوجتيكم، الدنيا زوجة والآخرة زوجة، فإن عدلت نجوت، وإن حفت وجرت هلكت وخسرت، إياك أن تؤثر هذه العمياء الشمطاء العجوز على تلك الجميلة الحسناء.
يا عبد الله! إن لك حياتين كزوجتين فاعدل، كم تعطي للدنيا؟ إن كنت تعطيها عشر ساعات، فأعط الأخرى عشر ساعات عدلاً، أو تعطي للدنيا اثنتي عشرة ساعة من الأربع والعشرين ساعة، فأعط للآخرة أيضاً اثنتي عشرة ساعة، أما أن تجور يا عبد الله! فتعطي الآخرة الحسناء الخالدة الباقية ساعتين أو ثلاث وباقي ساعاتك لتلك العجوز، فهذا حيف وظلم وجور.
وقال الحكماء العلماء: لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العقلاء الآخرة على الدنيا، لم؟ لأنهم اختاروا الباقي الخالد على الفاني الذاهب، وهذا مذهب العاقل، فلو أنك أعطيت قصراً من ذهب على أن تعيش فيه سنة واحدة، وأعطيت بيتاً من طين على أن تعيش فيه حياتك كلها، فماذا ستأخذ القصر أو البيت من الطين؟ إن كنت عاقلاً فستأخذ بيت الطين، أما الأحمق فيقول: خلينا نفرفش أربعة أيام وافعلوا ما شئتم، هذا أحمق!
وهناك مثل عامي يقول: عيشني اليوم وموتني بكرة!! هذه حماقة، والله يقول: وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4].. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]، الخيرية من جهة والبقاء من جهة أخرى، فإذا كانت الآخرة خير وأبقى والدنيا شر وأفنى فلا معنى للتكالب عليها، وقد عرف هذا المعنى أناس وفازوا به، عرفوا قيمة هذه الحياة.
إذاً: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النازعات:37-38] آثرها على من؟ على ضرتها الدنيا.
إذاً: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39] المأوى الذي يأوي إليه ويضمه ويحويه، ليس هناك مكان آخر.
يحاول عبد الله أن يكذب أمام الله، فيأمر الله تعالى اللسان أن ينقطع عن الكلام، ويختم عليه فلا يتكلم، وتكلم الله الأيدي والأرجل، تقول: فعلنا ومشينا، فالخوف من الوقوف بين يدي الله في تلك الساعة الفاصلة وما يتبع ذلك من التقرير والاعتراف ثم القضاء بمقتضى ذلك، هذا الخوف هو الذي يساعد العبد على أن يطيع الله ورسوله.
ثانياً: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] هذه علة أخرى.. هذه حية من الحيات، النفس إذا أنت تركتها لهواها مسترسلة، كلما هوت شيئاً أو هويت شيئاً فعلته فإنها تحيلك إلى غير مخلوق، تفقدك شخصيتك وتصبح تابعاً لها اتباع الشياطين، وقد جاء في القرآن -ما علمناه- أن للنفس ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أنها أمارة بالسوء، تأمر بالزنا.. باللواط.. بالخمر.. بالكذب.. بالسرقة.. بالغش.. بالخداع.. بكل الخبث، فإذا أهملتها.. إذا تركتها.. إذا لم تعنى بها فهذا طبعها، وهذا يوسف عليه السلام يقول: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] لماذا يا صديق؟ قال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].
ثانياً: النفس اللوامة التي تفعل الخير وتفعل الشر، فإذا فعلت الخير لامت على التقصير، وإذا فعلت الشر لامت على فعله، وهذه انتقلت من الصورة الأولى إلى الأخرى؛ لوجود تربية غير كافية.
النفس الثالثة أو الحال الثالثة هي ما جاء في قول الله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر:27].
إذاً: النفس لوامة مطمئنة بعد أن كانت أمارة بالسوء، ومعنى هذا يا معاشر المستمعين والمستمعات! أنه لا بد من عناية كافية بالنفس، فمن لم يعن بنفسه وأهملها ترعى في كل مراعي الدنيا فإنها تتحول إلى خنزير وأكثر، لا خير فيها، ومن ضبطها.. رعاها.. حماها.. جاهدها، فإنها تنتهي به إلى أن تصبح تهش هشاً لفعل الخير، وتكره فعل الشر وتمرض منه، تلك هي النفس المطمئنة.
والشاهد عندنا: أن للنفس هوى، شيء تهواه بطبعها، من ذلك: القعود والكسل، تهوى الراحة لا تريد العمل، فمن نهاها عن هواها نجح في تربيتها وتهذيبها وإصلاحها، ومن أرسلها وتركها تجري وراء كل ما تهوى أصبحت كما أخبر تعالى من شر البرية.
فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ [النازعات:37-40] أي: الوقوف بين يدي الله، وَنَهَى النَّفْسَ [النازعات:40] نفسه نهاها عن هواها.
وفي سورة الرحمن يقول عز وجل: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] من هو الذي يخاف مقام ربه؟ مؤمن أو كافر؟ من الذي ينهى النفس عن الهوى مؤمن أو كافر؟ مؤمن. فلهذا الكافر ميت، لا ينهى ولا يأمر، الذي كفر بالله أو بلقائه أو بشرعه أو برسله، ليس له شأن في هذا الباب، كيف ينهى النفس عن الهوى؟ وإنما المؤمن هو الذي يخاف الوقوف بين يدي الله.
ثانياً: لا يرسل نفسه ترعى في كل مكان، لا بد من ضبط لها، لا بد من تربية.. من تأديب.. من تهذيب، ويسمى أيضاً جهاد النفس، ومن جهاد النفس -كما علمتم- أن تحملها وهي كارهة على أن تعمل بما علمت، وتعلمه أيضاً.
قالت العلماء: جهاد النفس يتصور في هذا الموقف:
أولاً: تحملها مع كراهيتها على أن تعلم، تعلم ماذا؟ ما تتقرب به إلى الله وتعبد الله به، فإذا علمت احملها على أن تعمل بما علمت، فإذا نجحت في الخطوتين الأولى والثانية، بقيت الثالثة: وهي أن تنقل ذلك العلم الذي علمته وعملت به إلى غيرها، ولهذه جائزة عظيمة عرفها المستمعون، جائزة عظيمة لا تقدر بجوائز الدنيا قط، من علم وعمل بما علم وعلمه غيره أعطي أعظم جائزة عرفتها الدنيا.
ما هذه الجائزة؟ مليار دولار؟ لا. يدعى في السماء عظيماً -راجعوا الموطأ في آخره- من علم وعمل بما عمل وعلمه دعي في السماء عظيماً، من الذين يدعون في الملكوت الأعلى بالعظماء، ولن تستطيع أن تعلم وتعمل وتعلِّم إلا إذا جاهدت نفسك الليل والنهار وطول الحياة؛ فتصبح ترتاح لفعل الخير وتنقبض وتنزعج لفعل الشر، وتلك هي النفس المطمئنة التي يقول الله تعالى عنها: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:29-30].
وإلى هنا هذا الموجز في بيان الطريق إلى دار السلام أو إلى دار البوار.
فاليهود كانوا يسألون عن علوم ومعارف يختبرون بها الرسول صلى الله عليه وسلم، أما العرب فكانوا أميين جهال يسألون عن الساعة مستبعدين لها منكرين لوقوعها.
قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [النازعات:42] هذه العبارة تجعلنا في سفينة، وهذه السفينة ماشية، فمتى ترسو على شاطئ السلامة؟ وإذا رست انتهى كل شيء، فالسفينة تقف في كل ميناء لتملأ شحنة جديدة وتفرغ ما معها، لكن سينتهي بها الأمر إلى أن ترسو في ميناء لا تتجاوزه.
هذا التعبير عجيب! يسألونك عن الساعة متى ترسو؟ متى تجيء؟ هذه الباخرة التي ستأتي إلى مينائنا متى تصل؟ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [النازعات:42].
من الحماقة أن تقول لفقير: من فضلك أعطني مليون دولار، هذه حماقة، أليس كذلك؟ أو تأتي لعامي تقول له: علمني كيف أصلي، فلا بد من أهل علم، وعلم الساعة مما استأثر الله به، يقول تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15] لماذا؟ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15] إخفاؤها لحكمة، ويقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:187] أهل السماء ما عرفوا متى، وهم ينتظرونها كما ننتظرها متى تنتهي.
إذاً: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا [النازعات:43] يا رسولنا حتى تعلمهم وتخبرهم، وتذكر لهم أنها في يوم كذا أو عام كذا، ومع هذا علاماتها الدالة عليها موجودة، أشراطها التي متى ظهرت كان اقترابها، لكن فرق بين وجود الشيء وبين وجود علامة تدل عليه، فمن علامات الساعة البارزة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء، إذ قال: ( بعثت أنا والساعة كهاتين )؛ ولهذا يقول تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، ويقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].
يوم الدنيا طويل من عهد آدم، وبعث نبينا في آخر ساعة من اليوم، لكن متى؟ لا يعلم هذا إلا الله. لم؟ من أجل أن تنتظم الحياة وتستمر؟ فلو عرف الناس ساعة موتهم لوقفت الحياة.
وإليكم هذه الحادثة: كان هناك منجّم -يتعاطى علم النجوم- في النمسا أو في ألمانيا منذ زمن طويل، وكان يصدق فيما يخبر به في الغالب، فاغتر أهل البلاد به وانخدعوا، وإذا به يطلع عليهم في يوم من الأيام ليخبرهم بأن القيامة سوف تقوم بعد شهر، يعني بعد ثلاثين يوماً لا يبقى شيء، وبحكم أنهم صدقوه وجربوه كادت تلك البلاد أن تموت، لم يبق من يحرث بمحراث، ولا من يطلع دلو ماء، ولا.. ولا، وقفوا ينتظرون الموت، حتى انتهت المدة وبعد ذلك عادت الحياة إليهم.
نحن الآن لو نبلّغ رسمياً أننا سنموت اليوم أو غداً لتوقفت الحياة، فإخفاء الله تعالى الآجال كإخفاء الأجل العام، وأجل الدنيا كلها مخفى لحكمة عالية؛ لتستمر الحياة، قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2].
مهمتك الحقيقية هي أن تنذر من يخشى وقوعها، أما الذي لا يخاف فلا ينتفع، ومعنى هذا: أن الكافر لا يقبل النذارة ولا ينتفع بها، أولاً: ادعه إلى الإيمان، فإذا آمن بلقاء الله خاف، أما أن تقول له: خف عذاب الله.. عذاب النار.. عذاب يوم القيامة، وهو ما آمن لا يقبل منك هذا الكلام أبداً، حتى يحيا بروح الإيمان في قلبه، وحينئذٍ إذا أنذرته انتذر وقبل النذارة.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً [النازعات:46] من النهار، أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:46] من النهار، ومعنى هذا: أن هذه الدهور.. هذه الأعوام.. هذه القرون التي نقضيها في البرزخ، لما نبعث كأننا ما لبثنا في قبورنا إلا أول النهار أو آخر النهار. ومن هنا يقول الحكماء: البلاء.. الشدة.. الكرب يرقق بعضه بعضاً، تكون في كرب عظيم -في نظرك- فيأتي كرب آخر فتنسى الأول، فلاحظ عذاب البرزخ الدائم قروناً ما إن يشاهدوا النار وما فيها حتى لا يشعروا أنهم قضوا في قبورهم إلا عشية من العشاوى أو ضحى من الضحوات.
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا [النازعات:46] في قبورهم.. في دنياهم، هذه القرون؛ إِلَّا عَشِيَّةً [النازعات:46] من يوم، أو ضحى من يوم فقط، لم؟ لأن ما استقبلوه من العذاب لا يقاس به العذاب الماضي أبداً، ولا طول الإقامة، عاشوا عمر الدنيا، ألف سنة.. عشرة آلاف سنة.. عشرين ألف، هناك حياة أبدية، فلهذا المصيبة إذا عمت خفت.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر