أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]، هذه الآيات معطوفة على الآيات السابقة، وهي قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، ففي الآيات السابقة بين تعالى ما أعده وهيأه لعباده المؤمنين قبل أن يخلق أباهم آدم، وهي الفردوس الأعلى، ولا ننسى أننا نسأل الله تعالى أن نكون من أولئك المبشرين بالفردوس الأعلى، وفي نفس الوقت نحافظ على إيماننا ونعمل على تزكيته وتقويته، فنحافظ على الصلوات وخاصة الخشوع فيها، ونحافظ على أداء الأمانات، ونطهر أنفسنا من كل الأدناس والأرجاس وخاصة ما يلوثها كالزنا واللواط والربا وما إلى ذلك؛ رجاء أن نمنح هذه العطية الإلهية وهي الفردوس الأعلى.
وهنا يقول تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ [الحجر:26]، يعني: آدم أبا البشرية جمعاء، فخلق الجنة قبل خلق آدم، وخلق النار قبل خلق آدم، وأوجب بعد ذلك من يسكنهما ويدخلهما فيخلد فيهما، وقد علمتم -وزادكم الله علماً- أن أهل الجنة دار النعيم هم أصحاب الأرواح الزكية، والنفوس الطاهرة الطيبة، وأن جهنم دار الشقاء أهلها وسكانها هم أهل الأرواح الخبيثة والنفوس الشريرة، وذلك كما علمتم هو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، أليس هذا حكم الله تعالى؟ بلى، والله لهو حكم الله تعالى، فقد أفلح من زكى نفسه، أي: عمل على تزكيتها فزكت.
كما قد علمتم مواد التزكية للنفس، ومنها: جلستنا هذه نتلو كتاب الله ونتدارسه، بل كل عمل صالح، وكل قول صالح، وكل اعتقاد مشروع، فهو من أدوات التزكية للنفس البشرية، وفي نفس الوقت نحافظ على زكاة أرواحنا، فلا نلوثها بمعصية الله ورسوله، لا بالكلمة ولا بالنظرة ولا بالحركة، وإنما نتجنب كل ما حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى يبقى ذلك الطهر في النفس إلى ساعة أن تتغرغر وتخرج الروح، وعند ذلك يأخذها ملك الموت وهي أزكى ما تكون، وأطيب وأطهر ما تكون، ويُستأذن لها في السموات سماء بعد سماء فيفتح لها حتى ينتهى بها إلى سدرة المنتهى إلى جنة المأوى، وهذه هي الروح الطاهرة النقية.
وأما الخبيثة المنتنة بأوضار الشرك والكفر وكبائر الذنوب والآثام فيستفتح لها ولا يفتح لها، فترد إلى أسفل سافلين، واقرءوا: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:5-6]، واقرءوا أيضاً هذه الآية من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، وهل البعير يدخل في عين الإبرة؟! مستحيل! فكذلك أصحاب الأرواح الخبيثة مستحيل أن تدخل دار السلام.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ [المؤمنون:12]، يعني: آدم الإنسان الأول، إذ خلقه الله بيديه، وبالأمس عرفتم أن هناك ثلاثة أشياء خلقها الله بيديه، فالأولى: آدم عليه السلام، إذ خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه، والثانية: ألواح موسى عليه السلام، إذ قال تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145]، والثالثة: الفردوس الجنة العليا، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى )، وقد علمنا أن أنهار الجنة الأربعة تتفجر من تلك الجنة وتنزل على باقي الجنان.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ [المؤمنون:12]، يقال: سلّ الشيء إذا استله سلالة، واستلّ الشعرة من العجين، وسلّ من عيني كذا، أي: انتزعها، فالطينة التي خلق الله منها آدم كانت طينة، فاستل الأصل منها، إذ هي من صلصال من حمأ مسنون كالفخار، فاستل منها الطيب الطاهر الصالح، وصنع منها بيديه آدم عليه السلام، واقرءوا قول الله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]؟ إي نعم، فقد أتى على آدم أربعون سنة وهو صورة وهيكل فقط، لكنه إنسان بكامل أجزائه لم ينفخ الله فيه الروح، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1]؟ قد أتى على الإنسان، حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1]، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إنه أربعون سنة )، لم يمكن شيئاً مذكوراً.
ثم قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان:2]، أي: إنا خلقنا الإنسان -غير آدم- من نطفة، وأمشاج بمعنى: أخلاط، أي: أن ماء الرجل يختلط مع ماء المرأة، ومن ثم يتكون الجنين، نَبْتَلِيهِ [الإنسان:2]، أي: نختبره ونمتحنه، نختبره: أيطيعنا؟ أيشكرنا؟ أيعبدنا؟ أم يتكبر علينا؟ أم يكفر بنا؟ ولهذا فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، أي: جعله الله تعالى يسمع ويبصر، فلو أن الإنسان فقد السمع والبصر فهو غير مكلف، ومن فقد السمع وبقي البصر فهو مكلف، أو فقد البصر وبقي السمع فهو مكلف أيضاً، ووقت التكليف كما تعرفون هو البلوغ، فإذا بلغ الفتى أو الفتاة فقد كلفوا بالتكاليف الشرعية التي يجب أن يقوموا بها؛ ليكملوا ويسعدوا، أما فاقد السمع والبصر، أو الذي لم يبلغ سن التكليف فلا تكليف عليه، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وهداية السبيل هو إنزال الله للكتب، وإرسال الله للرسل، وإيجاد علماء يبينون للناس الطريق إلى السبيل، فمن اهتدى نجا، ومن ضل فقد خسر وخاب وهلك.
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً [المؤمنون:13]، وهو ولد آدم، والنطفة: القطرة من الماء، من نطف تنطف إذا سالت، والمراد بذلك: مني الرجل وماء المرأة، ثم بعد كونها نطفة تكون علقة، فتعلق بجدار الرحم كمح البيضة إذا أخذته بأصبعك يعلق بأصبعك، ثم فترة أخرى تكون مضغة، أي: قدر ما يمضغ الإنسان في فمه، ولا تزيد على ذلك، ثم بعد ذلك ينفخ فيها الروح، وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الأحاديث: ( إن أحدكم -أيها الناس!- ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة )، من ساعة ما يكون ماء أربعين يوماً تتكون تلك النطفة التي هي الحيوان المنوي، ( ثم يكون علقة مثل ذلك )، أي: أربعين يوماً أخرى بالضبط يكون علقة، ( ثم يكون مضغة مثل ذلك )، أي: أربعين يوماً أخرى يكون مضغة، والحاصل أنها أربعة أشهر، أي: مائة وعشرين يوماً، ( ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح )، فإذا سرت فيه الروح أخذ يتكون عظاماً ولحماً، ( ثم يؤمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وشقي أو سعيد )، أي: يؤمر بكتب أربع كلمات في جبهته، شقي لا بد وأن يعمل عمل الأشقياء، أو سعيد لا بد وأن يعمل عمل السعداء، ورزقه، هل سيكون غنياً أو فقيراً؟ لا بد وأن يكتب كما هو، والأجل، كم سيعيش سنة؟
( إن أحدكم ليجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة )، فالنطفة ما ينطف ويقطر، ( ثم يكون علقة مثل ذلك )، في الفترة التي سبقت، أي: أربعين يوماً، ( ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وشقي أو سعيد )، فهذا معنى قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13]، أي: قطرة من المني في قرار مكين وهو الرحم.
مكين أم مكشوف؟ مكين ومحفوظ لا يدخله أي شيء، فهو مكين من المكانة.
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14] أي: في أربعين يوماً أخرى -وهي تنمو حسب سنة الله تعالى- تكون مضغة، وذلك قدر الذي يمضغه الإنسان في فمه، لا وصلة لحم أو فخذ كامل، وإنما على قدر فم الإنسان، فسبحان الله! يتكلم الله بهذا حتى يعلم مراد الله تعالى وكلامه كل من يسمع ويريد أن يفهم، وكأنه سبحانه وتعالى يخاطب عوام الناس.
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [المؤمنون:14]، أي: كون المضغة عظاماً، وحول المضغة -كانت لحمة- إلى عظام، ثم كسا العظام باللحم، ومن ثم تكون الإنسان.
والسبب كما علمتم أن إبليس عدو الإنسان الأول لا يريد للإنسان أن يكمل ويسعد أبداً؛ لأنه يقول: أنا شقيت بسببه، فلهذا أنا أعمل على أن يشقى كل بني آدم، فهذه مهمته وهذه مهمة أولاده وذريته إلى يوم القيامة، وثانياً: أن إبليس لا يملك الإنسان بلجام يقوده أو بعصا يسوقه، وإنما هو فقط التزيين للباطل والتحسين للقبيح من القول والعمل والاعتقاد، فلهذا أولياء الله إذا شعروا بنفخته لعنوه واستعاذوا بالله منه، وعن شماله ينفث المسلم ثلاث مرات، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فيرحل ويتركك، أو شعر المسلم بهاجس في قلبه أو بخاطر سيئ حتى ولو كان في الصلاة، فإنه ينفث عن يساره ثلاث مرات ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، فيذهب ويتركه، فإن رجع فنفث أيضاً وطرده.
هكذا يقول تعالى وقوله الحق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا [المؤمنون:12]، أي: نحن رب العزة والجلال والكمال، الإِنسَانَ [المؤمنون:12]، أي: آدم عليه السلام، من مادة؟ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً [المؤمنون:12-13]، أي: ولد آدم، فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:13-14]، أي: أنشأناه خلقاً آخر فأصبح إنساناً غير الذي سبق.
واللطيفة هنا: يروى أن عمر لما سمع هذه الآية: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، قال عمر: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله قد أنزل ذلك موافقة لـعمر، بل قد وافق عمر ربه في عدة مسائل، ومنها: حجاب نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: الصلاة خلف مقام إبراهيم، ومنها: الحكم على أسرى بدر، ومنها: في الخمر، ويبقى السر كيف يوافق ربه في ذلك؟ والجواب: لصفاء روحه وطهارة نفسه، إذ إن الشياطين لا تقربه ولا تستطيع أن تنزل معه منزله، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك
وهنا قد يقال: إن عيسى عليه السلام كان يخلق، فكيف ذلك؟! نعم كان يخلق بإذن الله تعالى، ويبقى أن نعلم أنه ليس هناك خالق مع الله تعالى، إذ لا خالق إلا الله تعالى، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، والخالق بمعنى الصانع عند العرب، فإذا صنع فلان ثوباً أو شيئاً آخر قالوا: خلق، فلا نريد أن نفهم أنه يوجد خالق مع الله تعالى؛ لأن الله قال: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، فلا بد من فهم هذا، والصناع كثير الذين يصنعون العجائب، سواء من الطين أو من الحديد أو من الذهب أو من الفضة أو ما إلى ذلك، لكن أحسنهم صنعاً هو الله عز وجل، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].
إذاً: فأقول: لم لا يؤمنون بالله؟ والجواب: لأنهم لا يريدون أن يعبدوه، فيهربون من الإيمان بسبب العبادة، وهذا هو الغالب، فلا يريد أن يؤمن الشيوعي البلشفي.. العلماني حتى لا يتوضأ أو يصلي، أو حتى لا يخرج من ماله أو يخرج من عمله المحرم عليه، فيقول: لا إله والحياة مادة.
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15]، لم ما قال: لمائتون؟ والصواب: مات يموت فهو ميت لا مائت تخفيفاً، وهو على ألسنة العرب، والقياس أن نقول: مائتون، من مات يموت فهو مائت، كباع يبيع فهو بائع، وغزا يغزو فهو غاز، ولا يقال: غائز، وكل ذلك للتخفيف، والشاهد عندنا: لميتون بمعنى: مائتون، فهل هناك من يرد على الله تعالى هذا الحكم؟ الجواب: لا.
إذاً: النفخة الأولى هي نفخة الفناء، إذ يفنى كل شيء، القارعة * ما القارعة [القارعة:1-2]؟ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:1-2]، الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-2].
ثم بعد ذلك لما يتم الفناء الكامل على الخلق أربعين سنة كما أخبر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، والراوي أبو هريرة في الصحيح، حيث قال: لا ندري أربعين يوماً أو أربعين سنة، هل من أيامنا هذه؟ المهم أنه ورد: أربعين، ينزل من السماء ماء كمني الرجال، فما من جسم آدمي إلا ويتخلق من جديد، وذلك من عجب الذنب، وهو عُظيم صغير في آخر خرزات الظهر لا يفنى، وقد لا يرى إلا بالمجهر، فمنه ننبت كما ينبت البقل والبصل والثوم، فلما تكتمل أجسادنا تحت الأرض وتصبح متهيئة للحياة كآدم قبل أن ينفخ الله فيه الروح، إذ إنه مكث أربعين سنة وهو جثة فقط، فكذلك نكون جثة تحت الأرض، فينفخ إسرافيل الأرواح فتدخل كل روح في جسمها، ومن عجيب تدبير الله أنه لا تخطئ روح جسدها أبداً، وليس البشر بالملايين، بل بليارات البشر، ومما يوضح هذا عندنا: أننا نجمع ماعزنا صباحاً في العنبرية مثلاً، ويأخذ الراعي يرعى في آبار علي أو في أي مكان آخر، فإذا جاء المساء دخل كل عنز في بيته، ولا يمكن أن تدخل عنزة إلى غير بيتها، وإنما تعرف بيتها معرفة تامة، إذاً فلا عجب أن أرواحنا لا تخطئ، فتعرف أجسادنا.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16]، لماذا نبعث يا ربنا؟ للجزاء على العمل في هذه الدنيا، فمن كان مؤمناً عاملاً للصالحات ومات على ذلك، وروحه طاهرة زكية، فمصيره إلى جنات عدن إلى الفراديس العلى، ومن كانت نفسه خبيثة منتنة بالشرك والكفر والآثام، فمصيره إلى جهنم والعياذ بالله، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، أنه يؤتى بملك الموت في صورة كبش أملح، ويذبح بين الجنة والنار، ويقول القائل: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، إذ الموت قد انتهى، وهم مع ذلك يشاهدونه، وقد كنا لا نعرف كيف يشاهدونه وهم في الجنة أو في النار؟ الآن أصبحنا ما نشك في هذا، فأنت في بيتك تشاهد أمريكا، فهم كذلك يشاهدون الموت -الكبش- وهو يذبح.
وهنا لا ننسى أن من معتقدنا السليم الصحيح: أن من مات لا يشرك بالله شيئاً، أي: مات موحداً لا يعبد إلا الله تعالى، ولم يمت كافراً بالله ولا بشرعه ولا بلقائه، وإنما أذنب ذنوباً ما تاب منها حتى مات، فهو في جهنم والعياذ بالله، فهذا يشفع الله فيه من يشاء فيخرجونه من النار إلى الجنة.
مرة أخرى: إن أي إنسان يموت موحداً لا يشرك بالله شيئاً، لا يكفر بالله ولا بلقائه، لا بالله ولا بشرعه، وإنما قارف الذنوب وما تاب منها، وأدركه الموت ونفسه مظلمة، فهذا يدخل النار، لكنه يخرج منها بلطف الله ورحمته، إذ إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا تقل: كيف مثقال ذرة من إيمان؟ إن ذاك المثقال يحمله على أن يؤمن بالله ولقائه، يحمله على أن يخاف الله تعالى، يحمله على أن يتقي الله عز وجل.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16]، فلماذا نبعث؟ للجزاء على العمل في هذه الحياة الدنيا، وذلك لأنها دار عمل فقط لا دار جزاء، ولنجزى على العمل في الدار الآخرة التي هي دار جزاء وليست دار عمل، إذ الآخرة لا نصوم ولا نصلي ولا نجاهد ولا نرابط فيها، فلهذا نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الصفات السبع التي ذكرناها بالأمس، ونقول: اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم ارض عنا وأرضنا، وتوفنا وأنت راض عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
هل صاحب هذا الخلق عاجز؟ غير عليم ولا حكيم؟ خلق هذا الإنسان من سلالة من طين، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، هذا الخالق عاجز؟ إن هذا قوي قدير عليم حكيم، إذاً الآية الأولى من هدايتها: إثبات قدرة الله وعلمه وحكمته، بل ورحمته أيضاً.
قال: [ ثانياً: بيان خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها ]، فمن يخبرنا بهذا سوى الله؟ فقد أخبرنا عن خلق أبينا وعن خلقنا، والأطوار التي نمر بها ونحن في أرحام أمهاتنا، وذلك نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم العظام، ثم اللحم، ثم النفخ فيها، وإذا هي إنسان بشري، في أي مكان يتم هذا؟ في ذلك المكان المظلم الرحم.
قال: [ ثالثاً: بيان مآل الإنسان بعد خلقه ]، ما مآلنا بارك الله فيكم؟ الموت، وعما قليل مات فلان ومات فلان ومات فلان، فمصيرنا الموت؛ لأننا عملنا وقد فرغنا من العمل، فإلى الجنة أو إلى النار.
قال: [ رابعاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون ]، تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الكافرون والمكذبون والملاحدة والعلمانيون، وهذه العقيدة تذكرون -يا أهل الدرس!- أنها ثالث العقائد، فأولاً: التوحيد، وثانياً: النبوة المحمدية، وثالثاً: البعث الآخر، والعبد إذا فقد الإيمان بيوم القيامة والله لا يستقيم ولا يوثق فيه ولا يؤمن على شيء، إذا فقد الإيمان بأنه سيبعث ويجزى على الخير أو الشر من كسبه، فلا يوثق في هذا الإنسان أبداً، وهو شر الخليقة، وحسبنا قول الله تعالى: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، أي: الخليقة، فالكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، ولا يعبدون الله ولا يوحدونه، ولا يؤمنون برسوله ولا يمشون وراءه ولا يقتدون به، فهؤلاء شر الخليقة، ووالله إنهم لشر من الخنازير والقردة، وأنا لم أقل ذلك، وإنما قال ذلك الله تعالى، فقد قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6] أي: الخليقة، والبريّة هي البريئة، وقد خففت فقط.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر