أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:114-122].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114]، مننا عليهما بأن جعلنا كلاً منهما نبياً رسولاً، وليس هناك منة أعظم من هذه، فقد جعلهما نبيين رسولين.
ومن اللطائف العلمية: أن موسى هو الذي طلب النبوة والرسالة لأخيه، ولم يحدث هذا في تاريخ البشرية إلا مع موسى وهارون. فموسى عليه السلام طلب من الله تعالى أن يرسل معه أخاه هارون، وعلل ذلك بقوله: إنه أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي [القصص:34]، كي يصدقون. وهما أخوان شقيقان، أبوهما واحد وأمهما واحدة.
وكان من تدبر الله عز وجل وهو الحكيم العليم أن أوحى إلى أم موسى وأعلمها: إذا وضعت الولد من بطنك فاجعليه في صندوق من خشب، وارميه في البحر، أي: في النيل. وبالفعل استجابت لأمر ربها، وهيأت الصندوق، وما إن خرج الولد من بطنها حتى وضعته في ذلك التابوت، وأمرت أخته أن ترميه في البحر فرمته، وعبث به الماء من هنا وهناك وقلبه حتى دخل إلى قصر فرعون، فقد كان لفرعون حديقة والنهر يدخل فيها، وإذا ببعض الفتيات يرين الصندوق فأخذنه، فإذا به طفل، فقدم لفرعون وامرأته عليها ألف سلام، وهي آسية بنت مزاحم ، وكانت ليس لها ولد، وكان فرعون يرغب في الولد أيضاً.
ثم إن موسى أبى أن يرضع من أي امرأة كانت تأتي لترضعه، وكانوا يطلبون له الأميرات والسيدات الجميلات الطيبات، فكانت كلما تأتي واحدة وتضع ثديها في فمه يلوي رأسه ويصرخ، ولا يرضع، كما قال تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]. فقالت أخته: هل أدلكم على من يكفله لكم؟ لأن والدته رحمها الله قالت لأخته: تحسسي في المدينة وتطلعي؛ لعلك تعثرين عليه. فكانت تمشي في القرى وفي الأحياء، حتى عرفت أن أخاها موجود، فقالت لفرعون وأهله: فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]؟ فامتحنوها كيف عرفت هذا؟ فقالت: قلت هذا بنية وصدق فقط، وليس عندي علم بأي شيء، وإنما أعرف امرأة صالحة ترضعه، وهي أمي، فقدموه لأمها كما قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13]. فأرضعته.
ولما بلغ السنة الثانية وأصبح يحبو ويحاول أن يقف كان فرعون جالساً وموسى يحاول أن يقف، فأخذ بلحية فرعون ليقوم بها، وكانت لفرعون لحية طويلة كشأن البشر الذكور؛ إذ علامة الذكور اللحية، وعلامة الأنوثة عدم اللحية، وهذا في البشرية دائماً من عهد آدم، فالذكر له لحية، والأنثى لا لحية لها.
فلما جذب لحيته تطير فرعون، وقال: هذا هو الشؤم، وأراد أن يقتله، فقالت زوجته: يا فرعون! أو يا سيادة الملك! امتحنه، فهذا ما يفرق بين الجمر والتمر، فقدم له صحفة فيها تمر وأخرى فيها جمر، فإن أخذ التمر فهو إذاً قد تعمد وأراد إهانتك يا فرعون! وإن أخذ الجمر فمعناها أنه ما يعرف شيئاً. وبالفعل قدم له الطبقان، هذا بالجمر وهذا بالتمر، فوضع يده على الجمر وألقاها في فمه، فكانت تلك اللكنة فيه من أثر الجمر. فعفى عنه.
وهكذا تربى موسى في حجر فرعون. وكان هارون مع أمه وأخواته.
ثم شاء الله بعد ذلك أن يقتل موسى أحد الأقباط، فصدر حكم الدولة بقتله، فهرب، فخرج من الديار المصرية إلى أن وصل إلى مدين بلاد شعيب، وعاش فيها حتى بلغ من العمر أربعين سنة، وثم نبأه الله تعالى وأرسله. وهذا محل الشاهد. قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29]. والشاهد عندنا: أنه أتى لما احتاج إلى النار وكان الجو بارداً، وهو مع عائلته زوجته وأولاده، فرأى نوراً وكأنه نار في جبل الطور، فأتى الجبل، وثم أوحى الله إليه وأرسله.
هذه هي منة الله تعالى على موسى وهارون؛ إذ قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114].
فنجى الله تعالى بني إسرائيل بالطريقة التي علمتموها، وهي: أنه بعدما انهزم فرعون في كل المواقف، ولم يجد أبداً إلا طريقاً، وهو أن يقتل بني إسرائيل. فجمع موسى بني إسرائيل في قرية من القرى، وأمرهم أن يتجمعوا؛ ليخرج بهم من هذه البلاد، وبالفعل تجمعوا كلهم، ولما دقت الساعة المحددة خرجوا يريدون أرض القدس، فانتهوا إلى البحر الأحمر. فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر، فانفلق شقين، وأصبح في الوسط طريق كامل، فيه اثنا عشر طريقاً، حتى تمشي كل قبيلة من بني إسرائيل وحدها. وفرعون جمع رجاله المائة ألف مقاتل، وجاء بعدهم يريد أن يردهم ويقتلهم، فدخل بنو إسرائيل البحر بعد انفلاقه وانشقاقه وخرجوا، ثم جاء فرعون والبحر مفتوح، فدخل هو وجيشه، فلما توسطوا البحر أطبق الله عليهم البحر، فأغرقهم أجمعين إلا فرعون، فقد نجاه الله لحكمة، ولما أيقن بالغرق آمن، فقال تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:91-92]. وقال العلماء: لولا أن الله نجى فرعون ليراه بنو إسرائيل لخافوا ألا يكون غرق، فلا ينامون ولا يستريحون، ولذلك نجاه حتى شاهدوه ميتاً أمامهم.
هذه هي اللطيفة في إنجاء الله لفرعون، إذ لو كان غرق مع الجيش المائة ألف لما قال بنو إسرائيل: فرعون مات، بل لقالوا: ما مات أبداً. فلما شاهدوه على شاطئ البحر ميتاً سكنت نفوسهم، واطمأنت قلوبهم، ومشوا مع موسى.
فقوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُمَا [الصافات:115]، أي موسى وهارون، وَقَوْمَهُمَا [الصافات:115]، أي: بني إسرائيل وكانوا ستمائة ألف مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات:115]. والكرب العظيم هو ما كان فرعون يفعله بهم من الإهانة والتعذيب والتشريد وما إلى ذلك، فنجاهم الله من هذا.
قال تعالى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الصافات:116]. وقد انتصروا، فقد مات فرعون وجيشه.
ثم أخذ ثلاثين رجلاً من بني إسرائيل؛ ليعتذروا لربهم في جبل الطور عن هذه الجريمة، واعتذروا بالفعل.
والشاهد عندنا في قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ [الصافات:117]، أي: البين الواضح في الشرائع والأحكام، وفي العقائد وفي الآداب. وكانت التوراة كذلك قبل أن يعبث بها العابثون، ويزيد فيها المزيدون، وينقص منها المنقصون، فقد كانت كأحسن ما يكون.
فقوله: وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الصافات:118]، أي: الإسلام. والإسلام: إسلام القلب والوجه لله.
والإيمان هو: طاعة الله بما شرع من قوله: هذا حلال وهذا حرام، وهذا واجب وهذا محرم. فهذه هي العبادة، وهذا هو الطريق الموصل إلى الجنة، وهو الصراط المستقيم.
وقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:120]، أي: من الله عز وجل؛ لأنهما نبيان رسولان عانيا من المشقة والتعب والجهاد، وقد نصرهما الله ونصر قومهما، وتكونت دولة بني إسرائيل في فلسطين، إلا أن موسى وهارون ماتا قبل تكوين الدولة. وقبر موسى عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم، ورآه في ليلة الإسراء والمعراج. وهارون مات أولاً، ثم مات موسى، وتولى قيادة بني إسرائيل يوشع بن نون، فوقف على رأس بني إسرائيل وطلب القتال أو الاستسلام، فقاتلهم فهزمهم، ودخلوا وتكونت دولة بني إسرائيل على عهد يوشع بن نون. فسلام على موسى وهارون.
فهيا نحسن أولاً في العبادة، فنعبد الله كما شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة .. في الوضوء .. في الزكاة .. في العبادات، ونحسن أيضاً ولا نسيء إلى إخواننا وإلى بعضنا البعض، ونلازم باب الله نقرعه؛ حتى يفتح لنا.
وقوله: إِنَّا كَذَلِكَ [الصافات:121]، أي: كذلك الجزاء الذي جازينا موسى وهارون وبني إسرائيل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:121] المتوغلين في الإحسان العاملين به.
وقد عرفتم أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان ما هو، فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه ). والذي يعبد الله كأنه ينظر إلى الله لا يسيء في العمل، ولا يفسده، ولا يقدم ولا يؤخر، ولا ينقص ولا يزيد والله؛ لأنه بين يدي الله.
وإن عجز عن هذا المنصب العالي، فعليه بما دونه، وهو ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ). فإذا كنت تتوضأ أو تصلي أو تجاهد أو تعمل كذا فاحرص على أن تستحضر أن الله يراك؛ حتى تحسن عملك وتتقنه. ولا تعبد الله وكأنك غائب عنه.
وهكذا يقول تعالى هنا: إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:122]. فقولوا: اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً ] من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: [ بيان إكرام الله تعالى لرسوليه موسى وهارون عليهما السلام ] وهداية الله تعالى لهما.
[ ثانياً: بيان إنعام الله تعالى على بني إسرائيل بإنجائهم من آل فرعون ونصرته لهم عليهم ] فقد كانوا مضطهدين مستعمرين، يعذبون وينكل بهم في مصر من الأقباط، فأنقذهم من فرعون، وأخرجهم من الديار المصرية، وأهلك الأقباط وفرعون، وانفتحت مصر لهم. وسبحان الله العظيم!
[ ثالثاً: بيان أن الإسلام دين سائر الأنبياء، وليس خاصاً بأمة الإسلام ] فهو من عهد آدم إلى اليوم، فموسى كان يعبد الله بالإسلام، وكذلك هارون وإبراهيم ونوح. وكل الأنبياء كانوا يعبدون الله بالإسلام، الذي هو استسلام القلوب والوجوه لله، وعبادة الله بما بين وشرع لهم. هذا هو الإسلام.
[ رابعاً ] وأخيراً من هداية الآيات: [ بيان فضل الإحسان والإيمان ] والترغيب فيهما إذ بين فضلهما، فلا بد وأن نؤمن حق الإيمان، وأن نحسن كما ينبغي الإحسان؛ لنعيش مؤمنين محسنين، فننال الصراط المستقيم، ورضا الرحمن عز وجل، وسلامه علينا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر