خلق الله عز وجل آدم عليه السلام من طين، وجعل ذريته من ماء مهين، ثم بعد ذلك يأتي المكذبون فيجحدون، وللبعث يوم القيامة ينكرون، مستبعدين أن يرجع من صار تراباً إلى الحياة، فبين الله لهم أن من خلقهم أول مرة قادر على أن يعيدهم الكرة الأخرى، فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم يعاينون ما كانوا به يكذبون.
قال تعالى:
بَلْ عَجِبْتَ 
يا رسولنا!
وَيَسْخَرُونَ 
[الصافات:12]. فأنت تعجب من هذه الآيات والأدلة والبراهين القاطعة التي تقرر أنه لا إله إلا الله، وتقرر أن محمداً رسول الله، وتقرر أن الدار الآخرة حق، فأنت تعجب وهم يسخرون ويستهزئون؛ وذلك لفساد عقولهم، وخبث نفوسهم، وظلمة الذنوب والآثام. فقال تعالى:

بَلْ عَجِبْتَ

يا رسولنا! من هذه الآيات الدالة على وجودنا وعلى قدرتنا وعلمنا، وعلى إعادة خلقنا من جديد؛ لنحاسب ونجزي بالخير أو بالشر. فأنت عجبت وهم يضحكون
وَيَسْخَرُونَ 
[الصافات:12]. والسبب بسهولة: أنهم أموات وأنت حي، فأنت لحياتك تعجب، وهم لموتهم يسخرون ويستهزئون.
وهكذا الكفر موت، وخاصة الكفر بالدار الآخرة. والذي لا يؤمن بأنه سيسأل ويحاسب على عمله في هذه الدار يوم يموت ويبعث لا خير فيه بالمرة، ولا يوثق فيه ولا يعول عليه، ولا تطمئن إليه النفس؛ لأنه شر البرية، وشر من القردة والخنازير، واقرءوا قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
[البينة:6]، أي: الخليقة.
قال تعالى:
وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ 
[الصافات:13]. فإذا ذكرهم رسول الله بهذه الآيات وبالأدلة العقلية والنقلية وغير ذلك ما يذكرون. وإذا ذُكِّر الذين فسدت قلوبهم اليوم واطمأنت نفوسهم إلى الدنيا وأوساخها وأوضارها والله ما يذكرون ولا يتراجعون؛ وذلك لموت قلوبهم. وهذا كما قال تعالى:
وَإِذَا ذُكِّرُوا 
[الصافات:13]، أي: إذا ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات القرآنية
لا يَذْكُرُونَ 
[الصافات:13] لموتهم.
قال تعالى:
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 
[الصافات:15]، أي: هذا الذي يقوله محمد ويحدث به وهو القرآن سحر، يسحر به قلوب الناس فقط، وما هو بكتاب الله ولا من عند الله. وهكذا يفزعون إلى هذا المهرب؛ ليهربوا من الواقع، فهم يقولون: ما هذا إلا سحر مبين. وليس هناك آثار السحر التي هي تخيلات وظنون وأوهام في هذه الآيات القرآنية، بل هذه الحقائق العلمية واضحة كالشمس، وآمن بذلك
أبو بكر و
عمر ، وفلان وفلان، ولكن هذا شأن والعياذ بالله الهالكين. فهم يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله:
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 
[الصافات:15]، أي: بيّن واضح، وليس هو نبوة ولا رسالة، ولا محمد رسول الله.
قال تعالى معلماً رسوله أن يجيب كفار مكة بقوله:
قُلْ نَعَمْ 
[الصافات:18]، أي: نعم والله إنكم لمبعوثون أنتم وآباؤكم الأولون.
وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ 
[الصافات:18] صاغرون، أذلاء مهانون، ولن تكونوا كعنتريتكم اليوم؛ لأنكم تبعثون أذلة صاغرين مهانين والله العظيم. كما قال تعالى لرسوله أن يجيبهم بقوله:
قُلْ نَعَمْ 
لهم،

وَأَنْتُمْ

، أي: والحال أنكم
دَاخِرُونَ 
[الصافات:18] صاغرون، ذليلون حقيرون.
قال تعالى:
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ 
[الصافات:20]. ولما يقفون بين يدي الله في ساحة فصل القضاء، ولما يبعثون فجأة وإذا هم قيام ينظرون، فيقولون:
يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ 
[الصافات:20]. فالآن اعترفوا، ولا ينفعهم هذا الاعتراف، ولا يعتبر هذا إيماناً ينفعهم؛ لأنهم لما شاهدوا الواقع قالوا: هذا يوم الدين، ولذلك يقولون:

يَا وَيْلَنَا

! أي: يا هلاكنا! احضر، وهذا أوان حضورك؛ لأن هذا هو يوم الجزاء. ويوم الدين هو يوم الجزاء والحساب.
فهم هكذا يدعون على أنفسهم، فيقولون: يا هلاكنا! احضر، وهذا أوان حضورك؛ لأن هذا هو يوم الجزاء، ونحن كفرنا وفسقنا وفجرنا، واليوم نجزى بعملنا. وهذا اعترافهم في ساحة فصل القضاء في الوقت الذي لا ينفعهم إيمان، ولو قالوا هناك: آمنا دهراً كاملاً ما ينفعهم الإيمان؛ لأن الإيمان يكون في دار الابتلاء هذه، فهي دار العمل، وليس في دار الجزاء.
الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء
أذكر السامعين لأن بينهم زواراً حضوراً، فأقول: اعلموا يرحمكم الله أن هذه الدار -الحياة الدنيا- دار عمل صالحاً أو فاسداً، فهي دار إيمان وتوحيد، ودار كفر وشرك، ودار طهر وصفاء، ودار خبث، كما تشاهدون البشرية فيها، وأما الدار الآخرة فهي دار الجزاء على هذا الكسب والعمل في هذه الدنيا.
والآن قد يعمل الكافر ما يعمل وما يصيبه ولا مرض في جسمه، وقد يعمل الصالح ما يعمل وما يشبع، ويبقى جائعاً؛ لأن هذه الدار ما هي دار جزاء، بل هذه دار عمل، والجزاء في الدار الآخرة. ولهذا أوجد الله هذه الدار لأجل أن يُعبد فيها بذكره وشكره، فمن عبد وذكر وشكر أوجد له الدار الآخرة وأسعده فيها، ومن كفر ولم يذكر ولم يشكر أعد له الدار الآخرة؛ ليشقى ويعذب فيها أبداً. ولهذا يقول الكافرون فيها ما حكاه تعالى عنهم بقوله:
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ
[الصافات:20]. والدين هو الجزاء على الكسب والعمل.
قال تعالى:
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ 
[الصافات:21]. وهذا يقوله الله لهم والملائكة، فيقولون لهم:
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ 
بين المؤمنين والكافرين .. بين الموحدين والمشركين .. بين الظالمين والمظلومين.
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 
[الصافات:21]. وتقولون:
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ 
[الصافات:16]؟ فـ
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ 
[الصافات:21]، الذي يفصل الله فيه بين الظالم والمظلوم، والمحق والمبطل. فأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. فهذا هو يوم الفصل
الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 
[الصافات:21]. وكل من لا يؤمن بالدار الآخرة وما يجري فيها وما يكون فيها فهو كافر بالدار الآخرة التي هي يوم الدين، ومكذب بها.
وأخيراً: يا معشر الزوار! اعلموا أن الذي لا يؤمن بالدار الآخرة لا خير فيه ألبتة، فلا تثقوا فيه ولا تعولوا عليه، ولا تسمعوا منه ولا تصاحبوه؛ لأنه شر الخلق؛ لأنه ما عنده وازع يزعه أبداً ليعمل خيراً، وأما من كان يؤمن بالدار الآخرة وإن كان يهودياً أو نصرانياً فلا بد وأن يكون فيه خير، ولن يواجه بالشر والفساد.
سبب نشر اليهود للشيوعية والعلمانية
نشر اليهود عليهم لعائن الله مبدأ: لا إله والحياة مادة؛ إذ هم والله الذين أوجدوا الشيوعية، ثم عوضوا عنها بالعلمانية، وما زالوا يمسخون البشرية؛ لأنهم يريدون أن تبقى كالحيوانات، لا يقولون: الله ولا الدار الآخرة؛ من أجل أن يركبوا على ظهورهم، ويسوسونهم ويقودونهم حيث شاءوا. فهذه مكرة يهودية. وإلا قبل المذهب الشيوعي في القرن الماضي ما كان على الأرض من ينكر وجود الله أبداً من أي ملة، وحتى كفار قريش هؤلاء إن سألتهم من خلقكم؟ ليقولن: الله، ولن سألتهم: من خلق السماء؟ ليقولن: الله. فهم يعترفون بوجود الله.
والمذهب الشيوعي البلشفي وضعه اليهود بحيلهم ومكرهم، وهم في أساتذة في الجامعات، ونشروا هذه الفكرة، فانطمست بصيرة الأمة البشرية، وأصبحت كالحيوانات.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] هيا بنا نسمع إلى هداية الآيات ما فيها:
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
[ أولاً: بيان أصل خلق الإنسان، وهو الطين اللازب، أي: اللاصق باليد ] فأول هداية هذه الآيات هي: بيان أن أصل خلق الإنسان طين، وهو آدم عليه السلام، والطين معروف، فهو تراب يبل بالماء، فيصبح يلصق بالأصابع، وذاك هو الطين اللازب. فهذا أصل خلقنا. فلا ننكر وجود ربنا، ولا نصر على تكذيب ربنا وخالقنا، ولا نصر على عبادة الأصنام والفروج والشهوات، ونترك عبادة خالقنا، ولكن الشياطين تدفعنا لهذا.
[ ثانياً: ] من هداية هذه الآيات [ بيان موقفين متضادين، الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ يعجب من كفر ] الكافرين [ المشركين وتكذيبهم، والمشركون يسخرون ] من قوله صلى الله عليه وسلم [ من دعوته إياهم إلى الإيمان، وعدم التكذيب بالله ولقائه ] فهما موقفان متضادان، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعجب كيف ما يؤمنون وهم يشاهدون هذه الآيات تنزل عليهم ويسمعونها؟ وهم يشاهدون ويسخرون. فهذا موقف وهذا موقف في هذه الآية الكريمة.
[ ثالثاً: تقرير البعث ] الآخر [ وبيان طريقة وقوعه ] وليس معنى البعث الآخر الحزب الشيوعي هذا، بل البعث الآخر أي: أننا نبعث من تحت الأرض أحياء على صعيد واحد، ثم نجازى بعملنا الذي عملناه في هذه الدنيا. والإيمان والعمل الصالح جزاؤه الجنة دار النعيم فوق السماوات السبع، والعمل الفاسد والشرك والمعاصي في أسفل سافلين في أسفل الكون، والعياذ بالله.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ عدم الانتفاع بالإيمان عند معانية العذاب ] فالكافرون لما شاهدوا القيامة وآمنوا لم ينفعهم الإيمان، فقد قالوا:
هَذَا يَوْمُ الدِّينِ
[الصافات:20]. فلا ينفع الإيمان يوم القيامة أبداً. وقلت لكم: لو قالوا الدهر كله: آمنا ما ينفع. والإيمان هنا في دار العمل ينفع، وأما في الدار الآخرة فليس هناك عمل حتى يؤمن ويعمل، وما هو إلا أن ينعم أو يعذب، لا أقل ولا أكثر.