أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ [الصافات:22-30].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! جاء في الآيات التي تدارسناها بالأمس قوله تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ [الصافات:19]، وهي نفخة إسرافيل، فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات:19-21]. وهذا اللوم والعتاب فيما بينهم. وهنا يقول الرب تبارك وتعالى لهم: احْشُرُوا [الصافات:22] يا ملائكتنا! ويا أيتها الزبانية! الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22]. واحشروهم في جهنم.
ثانياً: أزواجهم: أصنافهم؛ إذ الصنف هو الزوج، فالمنافقون مع الكافرين والدجالين والكذابين.
ثالثاً: أزواجهم: من يعاشرونهم، ومن يكونون معهم من أهل الباطل، ومنهم الشياطين الذين يلازمونهم، وهم قرناء لهم. فالكل يقال فيه: أصناف وأزواج. فاحشروهم مع أزواجهم، واحشروا معهم أيضاً ما كانوا يعبدون من الشياطين والجن. وكل من عُبد مع الله عز وجل من الشياطين يحشر مع من عبدوه؛ لأن عبادة غير الله يزينها ويحسنها ويدفع عنها الشياطين القرناء.
هذا معنى قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:22-23]. فاجمعوهم في ساحة فصل القضاء هم وشياطينهم، ومن كان على الكفر معهم ويدعونهم، واهدوهم، أي: بينوا لهم طريق الجحيم وصراط الجحيم.
وقوله: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:25]؟ هذا السؤال يزيد في آلامهم وفي كربهم، وفي حزنهم وفي بلاهم وفي عذابهم، وهو قوله: مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:25]؟ كما كنتم في الدنيا تنصرون الباطل وتقفون إلى جنبه، فما لكم اليوم لا تناصرون؟
وقوله: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:26]، أي: اليوم وهم في ساحة فصل القضاء وقد حشروا وجمعوا وقيل: اهدوهم إلى صراط الجحيم، ثم أوقفوهم واسألوهم: ما لكم لا تناصرون؟ ما يستطيعون أن يقولوا كلمة. فقال تعالى مخبراً عن سبب عدم تناصرهم: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:26]. فقد انقادوا وذلوا وهانوا بين يدي الله عز وجل.
ولولا تزيين الشياطين للخمر لم يشربها مؤمن، وهذا الدخان والعياذ بالله وهذا التبغ الذي يتكالب عليه الجهال والجاهلات لولا تزيين الشيطان لما استحسن المؤمن أن يشربه، ووالله لما لطخ المؤمن الصالح فمه به، وهو لن يستفيد من الدخان شيئاً، فهو لن يقوى بدنه به، ولن يكثر ماله، ولن يرتفع شأنه، ووالله ما يحصل به شيء من الخير، ولكن الذي يجعل عبد الله أو أمة الله يصر على التدخين ويدفعه إليه هم الشياطين، فهم الذين يدفعون إلى هذا، فيلومونهم بقولهم: إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات:28] وعن الشمال أيضاً.
والحقيقة التي لا ننساها: قو إيمانك يا عبد الله! وعش وأنت تذكر الله ولقاء الله، وبذلك ما تقوى شياطين الإنس ولا الجن على إفسادك أو إغوائك، وإنما تقوى على إفساد ضعاف الإيمان، وعلى الكافرين من الإنس والجان. وهؤلاء القرناء يقولون لمن يلومونهم: قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الصافات:29] أساساً. فلا تلوموننا على أننا أغويناكم، وحملناكم على الباطل والشرك، والكفر والفسق والفجور، بل أنتم ما كنتم مؤمنين. وهذا صحيح.
ثم هؤلاء القرناء يقولون لهم: بَلْ كُنتُمْ في دنياكم قَوْمًا طَاغِينَ [الصافات:30]. والطاغي: الظالم، أو من تجاوز حد الظلم، ويدخل فيه الشرك والكفر، والذنوب والآثام.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان صورة لموقف من مواقف القيامة ] فهذه الآيات التي تلوناها وشرحناها من هدايتها: أن فيها موقفاً واضحاً من مواقف عرصات القيامة من قوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات:22]. فهذا موقف.
[ ثانياً: بيان أن الأشباه في الكفر أو في الفجور أو في الفسق ] أو في الزنا أو في اللواط، أو في الربا أو في الخيانة، أو في الغش أو في الشرك [ تحشر مع بعضها بعضاً ] فكلها تجمع مع بعضها بعضاً، فهم جنس واحد، وكلهم فسقة فجرة، أو مشركون كافرون، فيجمعون مع بعضهم البعض، ولا يوجد بينهم عبد صالح أو مؤمنة صالحة والله، بل كلهم فجرة كفرة، فيحشرون مع بعضهم بعضاً.
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ عدم جدوى براءة العابدين من المعبودين، واحتجاج التابعين على المتبوعين ] ففيها عدم جدوى ونفع احتجاج المظلوم على الظالم يوم القيامة؛ لأن هؤلاء الذين استدعوهم إلى الباطل والشر ما كانوا يلزمونهم ولا يكرهونهم بالحديد والنار، بل بالتزيين والتحسين، فيأتون المعاصي، فيحشرون مع بعضهم البعض ويلومونهم فقط، ولا ينفع اللوم؛ لأنهم ما كانوا مكرهين لهم، وما ألزموهم بالحديد والنار، وقد علمتم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ). فمن قال خطأً أو فعل خطأً فلا إثم عليه، ومن فعل أو ترك ناسياً لا إثم عليه، وما استكرهوا عليه فلا إثم فيه، فلو أن شخصاً هددك بمسدس وقال لك: سب الله أو نقتلك فيجوز أن تسب ما دام يهددك، ولا إثم عليك، وكذلك إذا كانت السكين في يده وقال: تعطي كذا أو أذبحك، فإذا أعطيته لا حرج ولا إثم عليك. وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، فقد رفع الله عنها هذه الثلاثة: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه. ولهذا قال المتبوعون: ما كنا لكم مكرهين أبداً، وهم قالوا: كنتم تأتوننا عن اليمين والشمال تزينون لنا الباطل وتحسنونه، وليس بالقوة والسلطان، فقالوا: وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ [الصافات:30] ظالمين فاسدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر