أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:62-74].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا بنا نقضي هذه الدقائق في الملكوت الأعلى مع الله عز وجل وملائكته وعبيده، مؤمنهم وكافرهم. وقد وصلنا هذا الخبر من الله عز وجل، ولولا إيماننا بالله وبرسوله وبكتابه لما أهلنا بذلك.
قال الله تعالى هنا: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا [الصافات:62]؟ أي: أذلك الذي تقدم بالأمس في الآيات من النعيم المقيم الدائم لأهل الجنة ومن الحور العين والطعام العجيب العظيم خير نزلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62]؟ اللهم ذلك خير. والنزل: ما يعد للضيوف أو للضيفان من طعام وشراب. وشَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] شجرة خبيثة منتنة تسمى شجرة الزقوم، والعرب يطلقون هذا اللفظ على أبشع الأشجار وأقبحها.
وقوله: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً [الصافات:63]، أي: اختبار وامتحان لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63]. وهذا الامتحان والاختبار هو أنهم قالوا: كيف النار الملتهبة التي تحرق كل شيء تنبت فيها هذه الشجرة، وتثمر وتطلع؟ فهذا كله خرافة وكذب ولا نقبله، ولو آمنوا لعرفوا أن النار خلقها الله عز وجل، والذي جعلها تحرق وتلتهب الله عز وجل، وهو الذي جعل فيها شجرة لا تحترق منها أبداً، بل تنبت فيها وتطلع فيها. فكان هذا فتنة لهم.
فطلع هذه الشجرة -شجرة الزقوم- كأنه رءوس الشياطين، وأبو جهل لما سمع هذه الشجرة وكيف تنبت في النار جاء واحد من أفريقيا فسأله وقال له: ما هو الزقوم عندكم؟ فقال: التمر والزبدة، فقال للخادمة: هات لنا تمراً وزبدة نتزقمه، وأخذ يأكل التمر والزبدة ويقول: نتزقم الزقوم، وهو يضحك ويسخر؛ لأن الله جعلها فتنة للظالمين. فهذه هي الفتنة.
وقوله تعالى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]، أي: في القبح وسوء المنظر. والطلع ما تطلعه من أنواع الثمار التي يأكلها أهل النار.
إذاً: قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات:66]، أي: حتى يمتلأ بطن أحدهم من شدة الجوع، فيأكل من هذه الشجرة شجرة الزقوم. فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:66-67]. والحميم: الماء الحار الذي انتهت حرارته، وليس فوقها شيء من الحرارة، فيخلط هذا ويشاب بالدماء والقيوح والعرق الذي يسيل منهم ويشربونه. ولما يأكلون من الزقوم يعطشون ويشتد عطشهم، فيحتاجون إلى الشراب، فيؤتون بهذا الشراب الحميم المشوب بالقيوح والدماء، والعياذ بالله.
وقوله: فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:70]، أي: يسرعون في الباطل والشرك والضلال، والعياذ بالله.
وقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ [الصافات:72]، جمع منذر، وهو الرسول النبي المنذر المخوف الناس من عواقب الشرك والكفر، والخبث والشر والفساد.
[ معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ما أعده لأهل الإيمان به وطاعته وطاعة رسوله من النعيم المقيم في الجنة دار الأبرار قال: أذلك المذكور من النعيم في الجنة خير نزلاً ] والنزل: [ ما يعد من قرى للضيف النازل وغيره، أم شجرة الزقوم ؟ ] أيهما خير؟ [ أي: ثمرها، وهو ثمر سمج مر قبيح المنظر.
ثم أخبر تعالى أنه جعلها فتنة للظالمين من كفار قريش، إذ قالوا لما سمعوا بها: كيف تنبت الشجرة في النار، والنار تحرق الشجر؟ فكذبوا بها، فكان ذلك فتنة لهم.
ثم وصفها ] تعالى [ بقوله: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64]، أي: في قعرها، وتمتد فروعها في دركات النار ] السبعة.
[ وقوله ] تعالى: [ طَلْعُهَا [الصافات:65]، أي: ما يطلع من ثمرها في قبح منظره كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]. لأن العرب تضرب المثل بالشيطان في القبح، كما أن هناك حيات يسمونها بالشيطان، قبيحة المنظر.
وقوله: فَإِنَّهُمْ [الصافات:66]، أي: الظلمة المشركين لَآكِلُونَ مِنْهَا [الصافات:66]، أي: من شجرة الزقوم؛ لشدة جوعهم، فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الصافات:66]، أي: بطونهم. ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:67]. وذلك أنهم لما يأكلون يعطشون، فيسقون من حميم، فذلك الشوب من الحميم، إذ الشوب: الخلط والمزج ] فيخلط كما قدمنا بالدماء والقيوح [ يقال: شاب اللبن بالماء، أي: خلطه به.
وقوله: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:68]، أي: مردهم إلى الجحيم، بعدما يأكلون ويشربون في مجالس خاصة بالأكل والشرب يردون إلى نار الجحيم.
وقوله تعالى: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ [الصافات:69]، أي: وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى والرشاد، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:70]، أي: يهرولون مسرعين وراءهم، يتبعونهم في الشرك والكفر والضلال.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات:71]، أي: فليس هؤلاء أول من ضل. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ [الصافات:72]، أي: في أولئك الضالين من الأقوام السالفين مُنذِرِينَ [الصافات:72]، أي: رسلاً ينذرونهم، فلم يؤمنوا، فأهلكناهم. فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ [الصافات:73]. إنها كانت هلاكاً ودماراً للكافرين.
وقوله تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:74]، استثناء منه تعالى لعباده المؤمنين الصالحين، وهم الذين استخلصهم لعبادته بذكره وشكره، فآمنوا وأطاعوا، فإنه تعالى نجاهم، وأهلك أعداءهم الكافرين المكذبين. وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بما لا مزيد عليه ].
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان أحسن الأساليب في الدعوة، وهو الترهيب والترغيب ] ترغب المؤمنين الصالحين، وترهب المجرمين المفسدين، فتذكر ما للراغبين من نعيم، وما للمعرضين من جحيم. فهذا الأسلوب قرآني، فالقرآن كامل قائم على هذا الترغيب والترهيب، أي: الترغيب في الجنة ونعيمها، والترهيب من النار وعذابها.
[ ثانياً: تقرير ] مبدأ [ البعث والجزاء بأسلوب العرض للأحداث التي تتم في القيامة ] والبعث هو: أن الله يبعث الخليقة بعد موتها وفنائها في يوم آخر تقوم فيه قيامة، ويجزيها على ما عملت. وهذا البعث من عقيدة المؤمنين. ففي هذه الآيات استعراض لهذا البعث والأحداث القائمة فيه.
[ ثالثاً: التنديد بالإتباع في الضلال للآباء والأجداد وأهل البلاد ] ففي هذه الأيات التنديد باتباع الضالين، وبالمشي وراء الآباء والإخوان المفسدين. فينبغي للمؤمن أن يتبع الصالحين، ولا يتبع الفاسدين، وأن يمشي وراء الموحدين، لا مع المشركين، فقد ندد الله تعالى بهم؛ إذ قال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ [الصافات:69]، أي: وجدوهم ضَالِّينَ [الصافات:69]. فمشوا وراءهم يهرعون في هذا الباطل، والعياذ بالله. ومعنى هذا: أنه على عبد الله وعلى أمة الله المؤمنة ألا يمشيا وراء أهل الباطل، ولا يقولا بقولهما، ولا يسلكا سلوكهما حتى لا يهلكا كما يهلكون.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ إهلاك الله تعالى للظالمين، وإنجاؤه للمؤمنين عند الأخذ بالذنوب في الدنيا والآخرة ] فمن هداية هذه الآيات: بيان إهلاك الله تعالى للظالمين، وتخسيرهم وتضييعهم، وإفنائهم في الدنيا، وفي الآخرة لهم العذاب الأليم. وفي الآية أيضاً هداية للمؤمنين الذين شاهدوا هلاك الضالين، فنجوا وعبدوا الله، فهم ناجون؛ إذ قال تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:74]. اللهم اجعلنا منهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر