أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ [الصافات:83-98].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، لما ذكر تعالى قصة نوح عليه السلام، وبين فيها كيف نصر أولياءه وهزم أعداءه، وقال: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات:79]، ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، فقال عز من قائل: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ [الصافات:83]، أي: من شيعة نوح وأنصاره على ما بعث به وأرسل به، ويصح أن تقول: وإن من شيعته محمداً صلى الله عليه وسلم، ووالله إنه لمن شيعته.
والمقصود من السياق نوح عليه السلام، أي: وإن من شيعة نوح إبراهيم، كمحمد صلى الله عليه وسلم. والشيعة: الأنصار المحبون الموالون.
وقوله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ [الصافات:83]، أي: من شيعة نوح لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83] والله. وقد علمتم أن إبراهيم معناه: الأب الرحيم، فهو مكون من إب وراهيم بالعبرية، ومعناه: الأب الرحيم. وحقاً والله إنه لأب رحيم.
ومن هنا ابتلاه ربه بذبح ولده مع شدة رحمته، فقد كلف امتحاناً بذبح طفله، ولو كان قلبه قاسياً كقلوبنا لما قيل له: يذبحه؛ لأنه سيذبحه، ولن يكون فيه شيء جديد، ولكن لرحمته ورقة قلبه وعطفه كلف امتحاناً بذبح ولده، فاستجاب لربه، وخرج بطفله إسماعيل إلى منى؛ ليذبحه هناك.
وقد كان من عادتهم: أنهم إذا أرادوا أن يخرجوا لهذا العيد - ولابد من خروجهم؛ لأن هذا تعبد، وديانة من ديانتهم- يضعون بين يدي آلهتهم صحافاً فيها الحلويات وألوان الطعام؛ لتباركها الآلهة لهم، فإذا عادوا من العيد وجدوها كما هي، فأكلوها وانتفعوا بها. فكانوا يتبركون بوضع الأطعمة العذبة الصالحة بين يدي الأصنام؛ لتباركها؛ حتى يأكلوها فينتفعوا بها في نظرهم.
وقد حصل ووقع بين المؤمنين من كان يأتي بطعام ويضعه على ضريح أو على قبر الولي؛ ليجد فيه البركة. وهذا والله من تزيين الشيطان وتحسينه. وإلا فليس في شرعنا الإسلامي أبداً أننا نتبرك بالأموات، ونضع طعامنا عندهم، بل هذا من عمل الشيطان الذي زينه لهؤلاء المشركين، فكانوا يضعون ألوان الطعام بين يدي أصنامهم، ويأخذونها في المساء؛ بقصد التبرك بما فيها.
وهنا قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88]. فرفع إبراهيم رأسه إلى نجم، وكان قومه منجّمون وأهل نجوم فقد كانوا يعبدونها، ويرون فيها الخير والشر، أو الضر والنفع، ويتبركون بها، ويتشاءمون بوجود نجم خاص، فأراد إبراهيم أن يضللهم، وأن يموه القضية عنهم، فنظر في النجوم وقال: إني سقيم، أي: معي مرض الطاعون بسبب النجم الذي طلع، وهم يشاهدون النجوم ويعرفون، ويقولون: إذا طلع النجم الفلاني يصاب الناس بمرض الطاعون.
وهو فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]. وهذا بعد أن دعوه ليخرج معهم إلى العيد؛ ليلهوا ويلعبوا، فقال: أنا مريض ما أستطيع، وبي مرض الطاعون، فلا يصيبكم أنتم، فلهذا تخلوا عني واتركوني. وبالفعل تخلوا عنه وتركوه؛ حتى لا يصابوا بعدوى الطاعون.
وهذه الكلمة سماها إبراهيم كذبة من الكذبات.
الأولى: لما عرضوا عليه الخروج إلى العيد فكذب، وقال: إني سقيم، فاتركوني فتركوه.
والثانية: لما كسّر الأصنام وحطمها وجعلها قطعاً متناثرة، فقد قالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال: بل فعله كبيرهم هذا، وأشار بأصبعه إلى صنمهم؛ إذ كان قد كسّر الأصنام كلها، وجعلها جذاذاً، أي: قطعاً متناثرة، إلا أكبر صنم، وهو إلههم الأكبر، وعلّق فيه الفأس التي حطّم بها الأصنام، ولما سألوه: من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟! قال: بل فعله كبيرهم هذا. وورى بيده، ففهموا أنه إلههم الكبير الصنم.
والكذبة الثالثة: لما كان في الديار المصرية واستدعيت زوجته سارة للسلطان أو للملك قال لها: إن سألك عني فقولي: إنه أخي؛ إذ لا أخ مع أخيه في هذه الأرض إلا أنا وأنت؛ وهذا خشية لو قالت: زوجي لقال: اقتلوه؛ حتى يتمتع بها، فإذا قالت: أخي فقط فلا بأس، ولا يضر ذلك.
وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذه الكذبات الثلاث كما أخبر بها الله عز وجل، ومنها هذه: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90]، وتركوه في مدينتهم، وذهبوا إلى عيدهم.
فعادوا من عيدهم من خارج البلد فرحين مسرورين؛ ليأخذوا الحلويات والبقلاوة من بين أيدي آلهتهم، فوجدوا الأصنام متناثرة متقطعة، فيا ويلهم! فقد أصابهم كرب عظيم.
وباب الهجرة مفتوح إلى أن تقوم القيامة. فأي مؤمن أو مؤمنة وجد نفسه في دار لا يستطيع أن يعبد الله فيها أبداً ولا يقدر على ذلك إلا ووجب عليه أن يهجر ذلك البلد أو تلك الدار، ويخرج منها؛ ليعبد الله عز وجل؛ إذ العلة في خلقنا ووجودنا هي أن نعبد الله عز وجل، فإذا تعطلت العبادة تعطلت الحياة بكاملها. فمن هنا وجبت الهجرة، وإبراهيم هاجر مع زوجه ومع ابن أخيه؛ لأنهم ما تمكنوا أن يعبدوا الله مع هؤلاء الكفار، الذين أوقدوا لهم النار، وألقوا فيها إبراهيم.
إذاً: فنجى الله تعالى عبده ورسوله إبراهيم، وجعلهم المخذولين المنهزمين. والحمد لله رب العالمين.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: أصل الدين واحد، فالإسلام هو دين الله الذي تعبد به آدم فمن بعده إلى محمد صلى الله عليه وسلم ] فمن هداية الآيات التي تلوناها وشرحناها: أن دين الله واحد لا ثاني له، ألا وهو الإسلام، فهو دين آدم ودين شيث، ودين إدريس، ودين نوح، ودين إبراهيم، ودين المؤمنين أجمعين. فلا دين حق إلا الإسلام؛ لأنه إسلام القلب والجوارح لله. فعبد الله حقاً وصدقاً لا يأكل إلا لله، ولا يشرب إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يأخذ إلا لله، ولا ينام إلا لله، ولا يستيقظ إلا لله. هذا هو والله عبد الله، وهكذا عباد الله وأولياؤه، فكل حياتهم وقف على الله. وهذا هو الإسلام، وهو أن يسلم العبد قلبه وجوارحه لله، وكما بينا أمس أنه لا يأخذ ولا يعطي، ولا يذهب ولا يجيء إلا من أجل الله، وأما ما حرمه الله ومنعه الله فلا يأتيه، ولا يقوله ولا يفعله، وأما ما أوجبه الله فلا بد وأن ينهض به، ويتكلف له في حدود طاقته.
[ ثانياً: كمال إبراهيم في سلامة قلبه من الالتفات إلى غير الله تعالى، حتى إن جبريل قد عرض له وهو في طريقه إلى الجحيم الذي أعده له قومه فقال: هل لك حاجة يا إبراهيم؟! فقال: أما إليك فلا ] فقد تجلت هذه الحقيقة لإبراهيم، وهي: سلامة قلب إبراهيم، فهو ما يعرف إلا الله، ولا يميل إلا إلى الله، فقد عرض له جبريل، وجبريل يستطيع أن ينسف النار فتنطفئ بكلمة واحدة، فقال له: ألك حاجة يا إبراهيم؟! فقال: أما إليك فلا، بل حاجتي إلى ربي. فهو قد أسلم قلبه لله عز وجل ووجهه.
[ ثالثاً: من أقبح الكذب ادعاء أن غير الله يعبد مع الله تبركاً به أو طلباً لشفاعته ] كما قال تعالى: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات:86]. فمن أفظع الكذب وأبشعه عبادة غير الله عز وجل، وأن نركع ونسجد ونعبد مصنوعاً من مصنوعات الله ومخلوقاً من مخلوقاته. فليس هناك كذب أعظم من هذا الكذب والافتراء، ولهذا تعجب إبراهيم وقال: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:86-87]. حتى تعبدوا هذه الأصنام والأحجار!
وإخواننا كما قال عبد العزيز بسبب الجهل ينادون: يا سيدي عبد القادر ! يا مولاي إدريس ! يا سيدي أحمد ! يا بدوي ! وجماعة الروافض: يا فاطمة ! يا حسين ! يا علي ! وجعلوهم آلهة يعبدونهم مع الله، وهم لم يخلقوا بعوضة من المخلوقات، ولا الله أمرهم بأن يعبدوهم ويدعوهم ويستغيثوا بهم، وحاشا وكلا أن يأمرهم الله بهذا، بل الله يقول: لا تعبدوا إلا الله. ولكن هذا بسبب الجهل، ولو علموا ما عبدوا.
[ رابعاً ] من هداية الآيات: [ وجوب تغيير المنكر عند القدرة عليه ] فإبراهيم لما فرغ له المكان وذهب قومه وخرجوا خارج البلاد كسّر الأصنام وحطمها؛ لأنه قادر على ذلك. وهكذا يجب تغيير المنكر عند القدرة عليه، ومن لم يقدر يقول: هذا منكر بلسانه، وإن كان ما يستطيع أن يقول بلسانه فبقلبه، والرسول الكريم يقول: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ). فإذا دخلت بيتك وجدت صورة عند طفلك أو عند امرأتك فانزعها بيدك ولا تتركها، بل مزقها؛ لأنك قادر على ذلك.
[ خامساً ] وأخيراً: [بيان ابتلاء إبراهيم، وأنه ألقي في النار فصبر، ولذا أكرمه ربه بما سيأتي في السياق بيانه] ووالله ما ابتلي نبي ولا رسول بما ابتلي به إبراهيم، واذكروا ما ابتلي به، فقد ابتلي بأن يذبح إسماعيل، وبأن يلقى في النار، وبأن يهجر دياره وبلاده، وبأن يبني بيتاً وحده وهي الكعبة. وليس هناك ابتلاء أعظم من هذا الابتلاء، ولقد صبر وظفر، فعليه ألف سلام. اللهم اجعلنا من محبيه يا رب العالمين!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر