أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:56-59].
والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم حزن وتألم على عمه أبي طالب، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية تعزية له وحمله على الصبر، فقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، أي: ما أنت بقادر على هداية الخلق، إذ الله هو الذي يهدي من يشاء، فخف الألم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ صبره وأبعد عنه الحزن والألم بهذا الخطاب، إذ يخبر تعالى أنه أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، منا، فمن هم المهتدون؟ الذين علم الله قبل أن يخلقهم أنهم يقبلون الإسلام ويدخلون فيه، ويتخلون عن الشرك والكفر ويعبدون الله تعالى.
والآية كما قلت لكم: تحملنا على الصبر، فلا نحزن ولا نكرب إذا مات أقرباؤنا على الكفر؛ لأن الهداية بيد الله تعالى، ونحن لا نملك شيئاً من ذلك، فهل عرفتم سبب نزول هذه الآية؟ كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخو أبيه يحمي رسول الله ويدفع عنه في مكة، إذ ما كان يقوى أحد على أن يؤذي الرسول وأبو طالب حي، لكن شاء الله أن يمرض أبو طالب مرَض الوفاة، فزاره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له وهو في سكرات الموت: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة )، ولو قال: لا إله إلا الله ومات عليها دخل الجنة، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات وآخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )، فلهذا يجب على المسلمين في مستشفياتهم أن يوجدوا بعض العلماء والعارفين ليزوروا المرضى، فمن وجدوه في سكرات الموت يجلس أحدهم إلى جنبه ويقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فإن قالها المريض سكت عنه، وإذا قالها المريض ثم تحدث أو شرب أو أكل فإنه يعيدها له رجاء أن يموت على لا إله إلا الله، وهذا واجب على المسلمين في مستشفياتهم، ومع الأسف فإن النصارى قد عملوا مثل هذا، إذ أوجدوا ممرضات لهذا العمل، والمسلمون للأسف ضائعون.
وَكَمْ [القصص:58]، أي: كثير من القرى، مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا [القصص:58]، ومعنى بطر المعيشة: الإسراف والبذخ والظلم والخبث والشر والفساد والإعراض عن الله وذكره ودينه والتكذيب لرسوله، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ [القصص:58]، في الشمال والجنوب والغرب لم تسكن من بعدهم، وذلك بسبب كفرهم وظلمهم وفسقهم وفجورهم، وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58]، من ورثهم؟ الله عز وجل.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى [القصص:59]، بظلم منه، إذ حاشا الله أن يظلم، ثم لمَ يظلم وهو الغني عن كل ما سواه وبيده كل شيء؟! وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى [القصص:59]، يعني: وهم مؤمنون موحدون مستقيمون يعيشون على طاعة الله؟! والله ما كان ولن يكون أبداً، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [القصص:59]، أي: في العاصمة، ومهمة الرسول هي: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [القصص:59]، حتى يؤمنوا حق الإيمان، ويعبد الله حق العبادة، فيكملون ويسعدون ويفوزون.
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]، من القائل؟ زعيمهم الحارث بن عثمان بن عبد مناف القرشي، فلماذا قال هذه الكلمة؟ ليعتذر للرسول من عدم دخوله في الإسلام، وذلك لأنه يخشى أن يتسلط عليهم العرب فيأخذوا نساءهم وأطفالهم! وهذا كحالنا اليوم، إذ إن المسلمين اليوم أعرضوا عن الدخول في الإسلام خشية ألا يجدوا من يعينهم أو يساعدهم على ذلك، وهم في حاجة إلى الغرب! ولذلك رد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57]؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57]، فوالله لو علم المسئولون في العالم الإسلامي أنهم إذا طبقوا الشرع عزوا وسادوا وكملوا وانتصروا والله لطبقوه، لكن للأسف ما يعلمون.
وَكَمْ [القصص:58]، أي: كثير، أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ [القصص:58]، أي: عاصمة، بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا [القصص:58]، ما شكرت الله تعالى، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ [القصص:58]، خالية خربة، لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58]، لهم.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى [القصص:59]، يا رسول الله! حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا [القصص:59]، أي: في عاصمتها، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59]، فهذا كلام الله عجب، وهذا هو القرآن الذي نقرأه على الموتى ولا نقرأه على الأحياء! فهل تذكرون هذه الزلة أم لا؟ إن هذه مكرة يهودية مجوسية مسيحية، فبدل أن نقرأ القرآن على الأحياء ليحيوا ويكملوا ويسعدوا نقرأه على الموتى! ولذا فيجب على المسلمين أن يجتمعوا في بيوت ربهم، وذلك في قراهم وفي مدنهم كل ليلة كاجتماعنا هذا، وذلك من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء؛ لأننا ربانيون مسلمون، ونريد الكمال والسعادة والدار الآخرة، ومن ثم في كل ليلة يقرءون كتاب الله وهدي رسول الله، وبالتالي والله لا يبقى بينهم جاهل أبداً، وإذا لم يبق بينهم جاهل فهل يبقى فاسق أو فاجر؟ والله ما يبقى، وإذا طابوا وطهروا هل يذلهم الله؟ لا والله، وإنما ينصرهم ويكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، لكن الأسف ما عملوا.
قال: [ الهداية المنفية: هي إنارة قلب العبد وتوفيق العبد للإيمان وعمل الصالحات، وترك الشرك والمعاصي ]، أي: أن هذه الهداية هي إنارة القلب ليستقيم العبد على الإيمان والعمل الصالح، وترك الشرك والظلم والفسق والفجور.
قال: [ والهداية المثبتة يقول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، تلك هداية الدعوة والوعظ والإرشاد ]، أي: إنما عليك هداية الدعوة والوعظ والإرشاد فقط، أما إيجاد الإيمان والهداية في القلوب فهذا لا يملكه أحد إلا الله تعالى، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].
قال: [ ثانياً: مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فيما ألقاه في قلوب العرب المشركين الجاهلين من تعظيم الحرم وأهله ليهيئ بذلك لسكان حرمه أمناً وعيشاً، كما قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4] ]، معاشر المستمعين! لقد سبق أن قلت لكم: مكة أم القرى من الذي حماها طيلة ما وجدت؟ حماها الله عز وجل، والعرب من عهد إسماعيل لا يستطيع أحد أن يؤذي أحداً في مكة أو يسلب منه ماله، وقد قلت لكم: يمر الرجل بقاتل أخيه ما يستطيع أن ينظر إليه، والصيد فيها لا يصاد، والحيوان يمشي في الحرم فلا يؤذى، فمن أمن هذه الديار، أليس الله؟ إذاً هو قادر على أن يؤمن أي بلد، فإذا أقبلنا على الله وأطعناه وعبدناه والله ليحصل ما يحصل في مكة، إذ لا تجد في القرية من يظلم أخاه أو ينظر إليه نظرة سوء فضلاً على أن يفجر بابنته أو يأكل ماله، وهذه هي سنة الله عز وجل، وآية من آيات الله عز وجل، والمشركون والكفار كانوا إذا دخلوا مكة لا ظلم ولا اعتداء أبداً، وهم مع ذلك يعبدون الأصنام، فكيف إذاً نرغب عن دينه ونقول: نخاف إذا دخلنا في الإسلام أن نضيع كما ضاع من قبلنا؟!
قال: [ ثالثاً: من رحمة الله وعدله ألا يهلك أمة من الأمم إلا إذا توفر لهلاكها شرطان: أولاً: أن يبعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آيات الله تحمل الهدى والنور، ثانياً: أن يظلم أهلها بالتكذيب للرسول والكفر بما جاء به والإصرار على الكفر والعاصي ]، وهذه سنة الله في خلقه، إذ ما يهلك أمة من الأمم حتى يبعث فيها رسولاً يعلمهم ويحذرهم، فإن أصروا على الكفر أخرج رسوله وأهلكهم الله، وذلك كما فعل بعاد وثمود والمؤتفكات وغيرهم.
قال: [ رابعاً: التاريخ يعيد نفسه كما يقولون، فما اعتذر به المشركون عن قبول الإسلام بحجة تألب العرب عليهم وتعطيل تجارتهم يعتذر به اليوم كثير من المسئولين ]، فالذي اعتذر به الحارث بن عثمان -كما سمعتم- اعتذر به مسئولون في العالم الإسلامي، فإذا استقلت البلاد ما يطبقون شرع الله أبداً، وإنما يطبقون الشرع الذي كان عليه النصارى، ويقولون: ما نستطيع أن نقف ضد الكفر! كيف نسود؟ كيف نحكم؟ فيعتذرون كما اعتذر هذا المشرك الحارث بن عثمان.
قال: [ فعطلوا الحدود وجاروا الغرب في فصل الدين عن الدولة، وأباحوا كبائر الإثم كالربا وشرب الخمور وترك الصلاة، حتى لا يقال عنهم: إنهم رجعيون متزمتون، فيمنعونهم المعونات ويحاصرونهم اقتصادياً ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر