أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:55-64].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن العاقل ينتفع بالترغيب والترهيب، فالترغيب يحمله على أن يعمل الخيرات، ويواصل العمل فيها، والترهيب يحمله على أن يتجنب المبطلات من الذنوب والآثام، ويبتعد عنها، وكتاب الله قائم على الترغيب والترهيب، يرغب في الجنة وما فيها من النعيم المقيم؛ ليؤمن الناس ويعملوا الصالحات، ويتجنبوا الشرك والذنوب والسيئات، ويرهب بعرض النار وما فيها؛ من أجل أن يرهب العقلاء من النار ويخافونها، فيعبدون الله وحده، ولا يشركون به غيره، ويسارعون في الخيرات.
وقوله: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ [ص:55]، ومعنى هذا: أي الذي تقدم مما أعد لعباده الصالحين، إذ قال تعالى: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:49-54]. ولما ذكر هذا مرغباً لعباده المؤمنين العقلاء ذكر هنا النار مرهباً ومخوفاً لهم منها، فقال تعالى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص:55]. والطاغون جمع طاغٍ، وهو المتجاوز للحد، ومن كفر فقد تجاوز حد الكفر، ومن فسق فقد تجاوز حد الفسق، ومن ظلم فقد تجاوز حد الظلم.
وقوله: لَشَرَّ مَآبٍ [ص:55] ، أي: لشر مرجع يرجعون ويئوبون إليه، وهو عالم الشقاء نار الجحيم، التي فيها من صنوف العذاب والشقاء ما لا حد له.
وقوله: يَصْلَوْنَهَا ، أي: يحترقون بها.
وقوله: فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص:56]، أي: الذي مهدوه لأنفسهم، فقد عاشوا العشرين والأربعين والستين سنة وهم في الكفر والشرك، والفسق والظلم والفجور، فمهدوا لأنفسهم وهيئوا لها هذا العذاب العظيم، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص:56]. فأصيبت نفوسهم بالظلمة والخبث، فكانوا من أهل النار.
قال تعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58]، أي: ولهم نوع آخر من العذاب من شكله أصناف، ووالله إن عذاب الآخرة أصناف، وليس مقتصراً على الحميم أو الزقوم، بل أصناف لا حد لها.
وقوله: لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ [ص:59]، أي: فيقول أهل النار: لا مرحباً بهم، فلا نريدهم، إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ [ص:59]، أي: محترقون بها.
وقوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص:61]، أي: يا ربنا! من قدم لنا هذا العذاب وكان السبب فيه وحملنا على الكفر والشرك، والزنا واللواط، والربا والباطل والخمر فزده في العذاب.
وقوله: كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ [ص:62]، الأشرار جمع شر، أي: كنا نراهم من أشرار الخلق، الذين لا خير فيهم أبداً. وقد كانوا يستهينون بهم ويهزئون، ويسحرون منهم ويعذبونهم.
وقوله: أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ [ص:63]؟ أي: أم عميت أبصارنا فلم تر هؤلاء؟
وقوله: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ [ص:56]، أي: مهدوا لأنفسهم بالكفر والشرك، والذنوب والآثام جهنم فبئس هذا المهاد.
وقوله: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57]، أي: فليذوقوا كفرهم وشركهم، فإنه قد تحول إلى عذاب وإلى حميم وغسّاق. والحميم هو: الماء الحار الذي يحرق، والغسّاق هو دموع ودماء وقيوح وغيرها مما يخرج من بطون وأجسام أهل النار، تتجمع فتصبح غذاءاً يتغذى به أهل النار.
وقوله: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58]، أي: وأصناف أخرى من الطعام والشراب التي يعذبون بها، لا حد لها ولا حصر.
وقوله: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص:59-61]، أي: ضاعف له العذاب، فيدعون على بعضهم البعض.
وقوله: وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا [ص:62-63]؟ أي: أكنا نسخر بهم في الدنيا ونستهزئ بهم؟ أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ [ص:63] فلم نرهم فقط؟
قال تعالى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:64]. وهذا الخصام ذكره الله كما هو والعياذ بالله، فلنحذر إذاً أن نسير خلف الطغاة والجبابرة والمتكبرين؛ حتى لا يحملونا على الفسق والفجور، والربا والزنا، والشرك والخمر؛ فإن من فعل ذلك يعتذر ولا يقبل منه عذره.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: ذم الطغيان، وهو مجاوزة الحد في الظلم والكفر، وبيان جزاء أهله يوم القيامة ] وذمهم والتحذير من قبول ما يأمرون به وينهون عنه، والبعد عنهم؛ لأن عذاب الضعفاء كما سمعتم سببه الطغاة، فقد حملوهم على الربا والزنا، والكفر والشرك والباطل، فلنحذر منهم، ولا نسير إلا خل9ف عبد صالح يبين لنا الطريق إلى الله، ولا نستجيب للطغاة والكفرة والمجرمين.
[ ثانياً: بيان ما يجري من خصام بين أهل النار للعظة والاعتبار ] وذلك لنتجنب الأسباب التي دخلوا بها النار، وهي الشرك والكفر والذنوب والآثام، فنستقيم على منهج الحق، ونوحد ربنا في عبادته، ولا نشرك به، ونقوم بالواجبات في حدود طاقتنا، ونتجنب المحرمات والمنهيات اجتناباً كاملاً، حتى يتوفانا الله ونفوسنا زكية، وأرواحنا طاهرة طيبة، فنكون من أهل الجنة.
[ ثالثاً: شكوى الأتباع ممن اتبعوهم في الضلال، ومطالبتهم بمضاعفة العذاب لهم ] وشكوى المقهورين المغلوبين في الدنيا إلى ربهم أولئك الذين حملوهم على الكفر والفسق، والشرك والفساد، فقد قالوا: قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ [ص:61].
[ رابعاً: تذكر أهل النار فقراء المسلمين الذين كانوا يعدونهم متخلفين ورجعيين؛ لأنهم كانوا لا يأتون الفجور والشرور مثلهم ] فالكافرون المجرمون في النار يتذكرون الذين كانوا يأمرونهم في الدنيا من المسلمين الضعفاء بالباطل والشرور والفساد، وهم لا يطيعونهم كـبلال وعمار وغيرهما، فلنتعظ ولنعتبر. والله نسأل أن يوفقنا لذلك، ويعيننا عليه.
ويجب أن نجتمع على كتاب الله ونتدارسه في قُرانا وفي مدننا طول حياتنا؛ لأنه نور الله، ولا هداية بدون نور، ولأنه روح والله، ولا حياة بدون روح. ونحن لا نقرأه إلا على الموتى، ولا نجتمع عليه من أجل أن نتدبره ونتأمله، ونعلمه ونعمل به؛ فنكمل ونسعد، والذي صرفنا عن هذا وحولنا إلى الباطل هم أعداؤنا، فلنتنبه ونفيق، ونعود إلى الطريق المستقيم، فإذا حان وقت الصلاة وقف العمل، فصاحب الدكان يغلق دكانه، وصاحب المقهى يغلقه، وصاحب المزرعة يلق المسحاة من يده، ثم نتوضأ، ونحمل معنا نساءنا وأطفالنا إلى بيت ربنا، وإن ضاق المسجد وسّعناه، حتى يتسع لنا، ونصلي ثم يجلس لنا عالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعلمنا ليلة آية، وأخرى حديثاً، وهكذا طوال العام، ووالله لن يبق جاهل ولا جاهلة، وإذا انتفى الجهل والله لن يبق ظالم ولا ظالمة، ولا فاسق ولا فاسقة، ولا فاجر ولا فاجرة أبداً، وهذه سنة الله لا تتخلف أبداً، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع. فهذه سنن لم تتخلف، وكذلك العلم بالله ومعرفته، ومعرفة محابه ومعرفة ما عنده، فمن عرف ذلك والله لن يفسق ولن يفجر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر