وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات المباركة المجودة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:28-32].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ [يس:28] أي: ما أنزلنا على قوم حبيب بن النجار ، وسبق في الآيات أن نبي الله ورسوله عيسى عليه السلام أوصى بعالمين صالحين أن يذهبا إلى مدينة أنطاكية للدعوة فيها، ورُفع عيسى إلى الملكوت الأعلى، ونفذ هذان الحواريان من حوارييه دعوته، وذهبا إلى أنطاكية وهي مدينة قريبة من اليونان جنوب أوروبا، ودعيا إلى الله ولقيا أتعاباً وعناء، فعززهم الله عز وجل بثالث وهو شمعون، ودعوا إلى الله ولاقوا الآلام والأتعاب، وكأنهم عزموا على قتلهم، وإذا بـحبيب بن النجار يعيش خارج المدينة، وكان مصاباً بجذام أو برص، وشفاه الله على أيدي أولئك الدعاة، فكان يستجاب لهم كعيسى عليه السلام، فإذا دعوا للمريض شفاه الله عز وجل، حتى فاقد البصر يرد الله إليه بصره.
فلما بلغه وعرف أن هؤلاء الصالحين يعانون ويتلقون العذاب من هؤلاء الطغاة المشركين الجبابرة؛ لأن ملكهم كان مشركاً، وكانوا كلهم مشركين، فجاء مسرعاً ودخل البلاد وصرخ فيهم: قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:20-25]، وهذه هي الصرخة، فما كان منهم إلا أن رفسوه بأرجلهم، وما رموه بحجارة أو ضربوه بسكين، بل بأرجلهم داسوه حتى مات، وعلمتم بما أخبر تعالى ورسوله قبل أن تخرج روحه، فشاهد الجنة ثم قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27] فتمنى الهداية لقومه حياً وميتاً، فما أصلح هذا الرجل! جاء ليدعوهم فقتلوه، ولما شاهد الجنة قال: آه، يا ليت قومي يشاهدون هذا ويعلمون! بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي [يس:27] وغفر الله له بالتوبة التي تابها؛ إذ كان من المشركين، وأصبح من الموحدين المؤمنين.
فعاد أهلكه الله بعواصف الريح سبع ليال وثمانية أيام، وثمود في شمال المدينة وهي مدائن صالح بالصيحة فقط خرجت قلوبهم.
إذاً: فهؤلاء ما ينزل الله تعالى جنداً من السماء يقتلونهم ويقاتلوهم، فما كان فاعلاً، بل يكفي فقط صيحة واحدة.
وتفسير الصيحة: كقوله: (زقا) بمعنى: صاح أشد صيحة، والعامة يقولون: زقا ويزقي، زقا يزقوا زقوةً، وبهذه الزقوة خرجت قلوبهم، أي: بصيحة واحدة فإذا هم خامدون، أموات لا يتحركون.. ساكنون عن آخرهم، رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وملكهم، وأتباعه.. والكل بصيحة واحدة.
من صاحب الصيحة؟
ففي بعض الروايات تقول: أن صاحب هذه الصيحة هو جبريل عليه السلام. وإذا قال قائل: لِم لم يذكر تعالى اسم الصائح؟
نقول: ما شاء الله.. جبريل أو ميكائيل أو عزرائيل.. ملك من الملائكة.
وهكذا يقول تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:29] وليس باثنتين أو ثلاث، فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29] على الأرض، لم يبق من يتحرك بينهم، لا رجل ولا امرأة ولا طفل.
وإلى الآن يستهزئون بالإسلام ويسخرون بآياته وكتابه، بل وبرسوله وكتابه مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30] أي: ساخرين عابثين لاعبين.
يا حسرة العباد احضري وهذا أوان حضورك، ما يأتيهم من رسول يرسله الله تعالى إلا يستهزئون به، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفعة على خدود أولئك الطغاة المشركين الهالكين في مكة كـأبي جهل وعقبة بن أبي معيط ، وهكذا يقول تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
وهنا لطيفة علمية: (العباد): جمع عبد، وهو من يعبد الله أو عبد الله، و(العبيد) جمع عبد ولكنه المملوك، والجمع: (مملوكون)، وعبيد السلطان أي: مالكهم.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ [يس:30] هذا سبب الحسرة التي ناديناها لتنظر ما يأتيهم من رسول من قبل الله يدعوهم إلى الله؛ ليعبدوه وحده، ويستقيموا على دينه، فيكملون في آدابهم وأخلاقهم، ويسعدون في حياتهم ويتهيئون للسعادة الأبدية، وذلك بعد موتهم وإلى يوم القيامة.
إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، فاحذروا أن تستهزئوا أو تسخروا من داع إلى الله عز وجل، وقد رأينا هذا في الجاهلين والغافلين، فإن الداعي إلى الله خليفة الرسول نائب عنه، والاستهزاء به كالاستهزاء بالرسول، والاستهزاء بالرسل كفر، أما قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ [يس:30]؛ لأنهم يستهزئون برسلنا.
معاشر المستمعين والمستمعات! إياي وإياكم أن تسخروا أو تستهزئوا بدعوة يقوم بها مؤمن لله عز وجل، أو به هو تسخرون منه وتستهزئون به، وهذا شائع للجهل العام الذي غطى الدنيا.
والله! إنهم سمعوا به وعلموه، وهم مصرون على الشرك والكفر وحرب الإسلام.
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:31] أي: هل رجعت أمة من الأمم؟ وهل عادت عاد من جديد؟ أو عادت ثمود؟ أو عادت المؤتفكات؟ أو عاد فرعون؟ أو عاد قوم لوط؟ لا والله! ما يرجعون أبداً أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:31]
لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32] أي: يحضرهم الله عز وجل ليحاسبهم ويجزيهم، وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس:32] أي: الأمم كلها حاضرون بين يدي الله، يسأل من يسأل، ويجزي من يجزي، هذا ينعم عليه بالجنة، وهذا يرديه ويخزيه بالنار والعياذ بالله.
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ [يس:32] أي: ما كل واحد من هذه الجماعة إلا يحضر بين يدي الله يوم القيامة، كمن أهلكهم في الدنيا كعاد وثمود والمؤتفكات، والحضور الكامل الدائم يوم القيامة عز وجل، فيحضرون بين يدي الله، ويسأل ويحاسب ويجزي، فأهل الإيمان والعمل الصالح، البعداء عن الشرك والضلال يدخلهم الجن دار السلام دار الأبرار، وأهل الكفر والشرك والفسوق والفجور، أصحاب النفوس الخبيثة العفنة المنتنة يدخلهم النار وبئس القرار.
وهنا لطيفة لا ننساها وهي: أن أهل التوحيد الذين ما عبدوا غير الله، ولا رضوا بعبادة غير الله أبداً، إن دخلوا النار بكبائر الذنوب كالسرقة أو الزنا أو ما إلى ذلك يعذبون حتى يحترقوا ويصبحون كالفحم، ثم يخرجون وينبتون كالزرع ويدخلون الجنة.
فهكذا يقول تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:28-32] وصدق الله العظيم.
بيان مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك أهل أنطاكية بصيحة واحدة، وهي مدينة كبرى ضخمة كلندن أو باريس مثلاً، وبصيحة واحدة ما بقي منهم أحد، وهذه من مظاهر قدرة الله عز وجل، قال تعالى: اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:106]، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، فيجب لذلك أن نرهبه وأن نخافه، وأن ترتعد فرائصنا إن ذكرناه، وأن تذرف عيوننا الدموع إن ذكرنا جلاله وكماله، ولا نعيش غافلين كالأموات.
[ثانياً: إبداء التحسر على العباد].
التحسر على العباد يكون منهم ويكون عليهم، وقد نص على من هلك وهو يتحسر على نفسه، فالعبيد الذين خرجوا عن طاعة الله وكفروا به وفسقوا عن أمره، هؤلاء أهل النار يا حسرتهم.. يا حسرتهم على ما أصابهم، وعلى ما حل بهم ونزل بساحتهم من ألوان العذاب، وصنوف الشقاء والعياذ بالله تعالى.
[ ثالثاً: حرمة الاستهزاء بما هو من حرمات الله تعالى التي يجب تعظيمها].
فاحذروا أن يسخر أحدنا ويستهزئ بكلمة، سواء على مؤمن داع إلى الله أو مؤمنة، أو على كلمة من كلام الله، أو على حكم من أحكام الله، أو على سنة من سنن رسول الله؛ فلا يستهزئ إلا منافق كافر -والعياذ بالله-، ونبرأ إلى الله أن نستهزئ ونسخر بما هو خير.
[ رابعاً: طلب العبرة من أخبار الماضين وأحوالهم والعاقل من اعتبر بغيره].
طلب العبرة من أحوال الماضين والغابرين والهالكين، وطلب العبرة ممدوح محمود ينبغي أن نعتبر حتى نتجاوز هذه الأيام إلى الجنة، فمشاهدة مرضى.. أو مشاهدة أغنياء.. أو مشاهدة تعساء..، فنجد في هذا عبرة فنحمد الله ونشكره ونتجاوز ما نحن فيه، ولا بد من الاعتبار.. ننظر إلى مريض نقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به، وننظر إلى فقير لاصق بالأرض عاري الجسم نقول: الحمد لله، وندعو له بالعافية والكسوة.. وهكذا؛ لأن المؤمن حي كامل الحياة، فيعتبر بكل حادثة تحدث في هذا الكون، بخلاف الكافر فهو ميت لا عبرة له ولا عظة.
[وأخيراً: تقرير المعاد والحساب والجزاء].
وأعظم ما في الآيات: تقرير المعاد الدار الآخرة والحساب والجزاء؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32] فيحضرهم ليحاسبهم ويجزيهم، والجزاء نوعان: إما النعيم المقيم في الجنة دار السلام، وإما العذاب الأليم في دار البوار -والعياذ بالله تعالى- جهنم وبئس المصير.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر