وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نتدارس هذه الآيات المباركة ونتأمل ونتدبر معانيها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس:41-46].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَآيَةٌ لَهُمْ [يس:41] أي: علامة لهؤلاء المكذبين بالبعث والحياة الثانية، والمنكرين للبعث والجزاء يوم القيامة.
وهذه الآيات العلامات لمن يشركون مع الله آلهة باطلة، ولمن يكذبون رسول الله ويقولون: لست برسول، وهي علامات كونية دالة على وجود الله، وعلى علمه وقدرته وحكمته، ودالة على أن لا يعبد إلا الله، ودالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، وإلا كيف ينزل عليه هذا القرآن؟ وكيف يتلو هذه الآيات ويقدمها بين يدي الناس ويطبقها؟
فهي دالة على قدرة الله، وعلى أنه قادر على أن يحيينا بعد موتنا؛ ليحاسبنا على عملنا في هذا اليوم ويجزينا به، إن كان إيماناً وعملاً صالحاً فالجزاء الجنة دار السلام، وإن كان كفراً وشركاً وعملاً فاسداً فالجزاء النار دار البوار والفجار، والعياذ بالله الواحد القهار.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]، فقد جاء في كتاب الله أن عبداً من عباد الله نبأه الله وأرسله، وهو نوح عليه السلام، أرسله في وقت انعدم فيه التوحيد، وأصبحت البشرية -وهي محدودة العدد في ذلك الوقت، إذ ما بين نوح وآدم إلا ألف سنة أو زيادة فقط- يعبدون الأوثان والأصنام، بل عبدوا يغوث ويعوق ونسراً ؛ لأن الشيطان قال لهم: اجعلوا لهم تماثيل، إذا شاهدتموهم تقر أعينكم وتخشع قلوبكم، ويغوث ويعوق ونسراً كانوا عباداً صالحين والله العظيم! ولما ماتوا جاءت الشياطين وأمرتهم بالبناء على قبورهم، ووضع علامات تدل على قبورهم، أي: بعد أن مضى قرن أو قرنان جاء الشيطان وقال: اجعلوا لهم صوراً على قبورهم تدل على صاحب هذا القبر، فعبدوهم مع الله عز وجل، فأرسل الله تعالى إليهم عبده ورسوله نوحاً عليه السلام، فمكث بينهم تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى التوحيد، قال تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] وهو ليلاً نهاراً، سراً وجهراً، واقرءوا سورة نوح ففيها بيان هذا وتفصيله.
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] وهم يزدادون كفراً وطغياناً وشركاً وباطلاً وخبثاً وضلالاً، ومن ثم سأل نوح ربه الخلاص من هذه الأمة الهابطة، فأوحى إليه أن يصنع فلكاً -سفينة- وأعانوه الملائكة على صنعها، وجاء الطوفان العام.
وركب في السفينة بأمر الله ومعه نيف وثمانون رجلاً وامرأة، وهذه الفرقة التي نجت، والبشرية كلها غرقت، وهؤلاء الذين في السفينة منهم نحن، تزوجوا وتناسلوا وأصبحنا منهم، وهم ذرية آدم عليه السلام، فقال تعالى مذكراً لهم: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]، ذرية آدم عليه السلام الذين كانوا مع نوح وهم المؤمنون الصالحون حملهم في سفينة واحدة، وهي الفلك المشحون المملوء؛ إذ حمل فيه نوح من كل صنف زوجين؛ ذكراً وأنثى، من الحيوانات ومن النباتات، ومن غير ذلك؛ لأن الأرض عمها الطوفان وستنتهي.
فمن فعل هذا الفعل سوى الله، فكيف يُكفر به؟ وكيف لا يُعبد؟ وكيف يُكذب؟ فيا للعجب!
وهكذا هذه الآية العظيمة تجعل العبد يشهد (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وأن البعث الآخر حق، ولا بد منه للجزاء على الكسب والعمل في هذه الدنيا.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا [يس:41] أي: الله الذي حمل، وهو الذي خلق الماء وخلق نوحاً، وأعانه على السفينة وكانت سفينة وحملهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41].
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ [يس:42] أي: من مثل ذلك الفلك مَا يَرْكَبُونَ [يس:42]، والله هو الفاعل، وقد تقول: أمريكا هي التي صنعت السفينة، وأمريكا الله هو الذي خلقها ووهبها حياتها وسخر لها العلم، فكل شيء مرده إلى الله، وهو الواهب، وهو المعطي، وهو المتفضل. فمهما طرت في السماء أو غصت في الماء لولا الله ما كنت ولا طرت ولا غصت، ولولا الله ما كان ماء ولا سماء، فلا يسعك إلا أن تقول: ربي الله، وتقول: لا إله إلا الله، فتعبده وحده.
أما لو شاء لأغرقهم، أما أغرق البشرية كلها على عهد نوح؟ ما نجا إلا أهل هذه السفينة.. هذا الفلك؟
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ [يس:43] (الصريخ) أي: الذي يسمع صراخهم فيجيبهم وينقذهم، فإذا أغرقهم الله لا أحد سواه عز وجل سيجيبهم وينقذهم.
وَلا هُمْ يُنقَذُونَ [يس:43] أي: لا أحد ينقذهم إذا أراد الله إغراقهم، فوالله! ما يقوى أحد على إنقاذهم.
فهذا هو الله رب العالمين الذي يجب أن نحبه أكثر من أنفسنا وأموالنا وأولادنا، وهذا الذي يجب إذا ذكر بين أيدينا نقول: الله أكبر، سبحان الله، الحمد لله. وهذا الذي إذا قيل لنا: إنه يحب الكلمة الفلانية نقولها ونتملقه بها ونتزلف إليه، وهو الذي إذا قيل لنا: إنه يحب العمل الفلاني نعمله تقرباً إليه، وإذا قيل: يكره الكلمة الفلانية والله! ما نقولها، ويكره المشية الفلانية ما نمشيها.. وهذا هو الله ولي المؤمنين والمتقين. فأين الإيمان وأين المؤمنون؟
ثم قال تعالى: وَلا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [يس:43-44] أي: اللهم إلا رحمة منا ننقذهم فلا يغرقون، ونمتعهم بالطعام والشراب إلى حين آجالهم حتى يستوفوا أعمارهم ويموتوا فقط، وإلا لو شاء والله! لأغرقهم، ولا يجدون من ينقذهم ولا من يرفع صوتهم وأصواتهم أبداً، ولكن رحمة الله اقتضت أن يعيشوا على كفرهم وعلى جهلهم، فيؤمن من يؤمن ويكفر من يكفر، ويتمتعون أيام أعمارهم وحياة آجالهم، ثم ينتهون إلى الموت الأبدي.
اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ [يس:45] أي: ما وراءكم من الحياة الثانية، واعملوا لها لتنجوا وتسعدوا فيها، وذلك بالإيمان وطاعة الله ورسوله، فلا نجاة إلا بالإيمان الصحيح وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وفعل ما أمر الله ورسوله بفعله، وقول ما أمر الله ورسوله بقوله، واعتقاد ما أمر الله ورسوله باعتقاده، مع الاجتناب والابتعاد عن كل ما حرم الله من النظرة المحرمة، والكلمة الباطلة، أو اللقمة الحرام، أو .. أو .. وبهذا يطاع الله، وهذا هو الطريق الموصل إلى رضوان الله، وهو الذي ينجي من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [يس:45] يسخرون ويضحكون، ويقولون: هذا مجنون. والآن والله! ليقال هذا القول، فقيل هذا الكلام من أهل الكفر والعلمانية والإلحاد، بل وأعظم من هذا الكلام.
فاتقوا ما بين أيديكم خشية أن يخسف الله بكم الأرض بهذه الزلزال، فيضحكون ويسخرون.. اتقوا ما وراءكم من الحياة الثانية، ونتقي ما فيها من العذاب والشقاء بالإيمان والطاعة.. أطيعوا الله ورسوله بعد الإيمان، يسخرون ويضحكون والله العظيم! وهذا خبر أخبر الله عز وجل به.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [يس:45] يضحكون ويسخرون ويعرضون، وإلى الآن الجاهل والضال إذا خوفته بالله وما عند الله يسخر ويضحك، ويعرض عنك وما يسمع كلامك أبداً ويمشي، وسر ذلك ضعف الإيمان؛ لأن ضعيف الإيمان كالمريض، فالمريض لا يقوى على شيء بل يعجز والله العظيم! فيعجز عن أشياء ويقدر عن أخرى لمرضه، والصحيح يقوى على كل شيء ويقدر عليه.
فمن كان في إيمانه ضعف فهو والله كالمريض سواء بسواء، ومن كان لا إيمان له فهو ميت -كما علمنا- لا حياة له بالمرة، حتى ينفخ فيه الروح ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، حيي، حينئذ يؤمر بطاعة الله فيطيع.
وهكذا يقول تعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ [يس:46] تقرأ عليهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس:46]؛ لأن قلوبهم منتكسة وليست مفتحة تقبل، بل عمياء بسبب الكفر والشرك -والعياذ بالله عز وجل-، ولو كانت القلوب حية ستعي وتسمع فيستجيبون ويبكون، لكن قلوب منتكسة -والعياذ بالله-، فماتت قلوبهم.
أولاً: بيان فضل الله على البشرية كلها؛ إذ أنقذ ذرية نوح وكنا منهم، وهذا فضل عظيم، فلو أغرق الله تلك السفينة أيضاً لما بقي أحد، وهذا فضل الله عام للبشرية كلها؛ إذ أنقذ أجدادنا وآباءنا في تلك السفينة وبمثلها كنا أناساً في الأرض.
[ثانياً: حماية الله تعالى للعباد ورعايته لهم، وإلا لهلكوا أجمعين ولكن أين شكرهم؟].
بيان حماية الله للعالمين وحفظهم والعناية بهم وإكمالهم وإسعادهم في الدنيا، ولولا ذلك لهلكوا في يوم واحد، ولولا رعاية الله لنا وحفظه لنا والله! ما نعيش يوم واحد بذنوبنا وآثامنا، لكن فضل الله ورحمته بالبشرية؛ حتى نستوفي آجالنا ونموت بها.
[ثالثاً: بيان إصرار كفار قريش وعنادهم الأمر الذي لم يسبق له مثيل].
بيان إصرار قريش على الكفر، وبيان عنادهم وجدالهم -والعياذ بالله-، حتى أهلك الله رؤساءهم وماتوا في بدر، وبعد ذلك آمنوا ودخلوا في الإسلام.
[وأخيراً: الإشارة بالمثلية في قوله: مِنْ مِثْلِهِ [يس:42] إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية].
لطيفة علمية قال تعالى: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:42] كلمة (مثله) تدخل في سائر أنواع السفن في الأرض والغواصات والفلك مطلقاً، فكلمة (مثله) لها أمثال عديدة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر